عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

محمد كتيلة - كندا

وكأنهم على موعد لا يؤجل


من وراء بوابات الليل الواطئة نهضوا، من سهول الجنوب وروابيه تقدموا، من وسط عتمة البلاد خرجوا، من شرق الحكايات الأولى، من الشمال والجبال والبحر والتلال، من غروب الدنيا على مطارحهم وسوء الأحوال والطالع. من خلف سياجات الرعب المدمِر خرجوا. من قيعان المدن وما خلفها من بيوت طينية مسجونة داخل العتبات والبيوت.
تآمروا على خوفهم وخضوعهم الطويل، خانوا صمتهم وذلهم، إلتفوا حول سخونة أجسادهم واندسوا بين الجموع التي هبت وتعرت من الخوف، وفي السر تعاهدوا على العصيان، تآخوا مع الموت وفي العلن وعلى مرأى من الله وأنظار السابلة من مختلف الفئات والشرائح والطبقات الخانعة. لا خضوع لا ركوع لا رجوع.
من أعماقهم المهجورة المسيجة بألف حصار وحصار هبوا. تأملوا وجوههم في المرآة فما رأوها من كثرة الصراخ والعسكر والبواريد والقصف الهائج على البيوت والأرواح النائمة على جراحاتها، رأوا أجساداً كانت لهم قبل قليل من الوقت والعتمة تتساقط كأوراق الخريف في عز الربيع.

تلفتوا حولهم في مدى الوطن الذبيح فما وجدوا غيرهم، نظروا بحسرة إلى مرآة الجوار العربي من تونس إلى مصر فاستبد بهم الغضب، فخرجوا من وجوههم المتفحمة التي إستحالت إلى غبار ودخان وقرروا ألا يعودوا إلى ديارهم خائبين خاسرين.

حملوا على أكفهم البيضاء المسالمة جراحات البلاد وخيباتها، سقمها عوزها صبرها وبرها وتقواها، إنكشفوا لمطر الرصاص وضربات الهراوات المكهربة، فما خافوا وما إرتعدوا، بل نهضوا من سخطهم ومقتهم وانتفضوا من أولهم إلى آخرهم.

صاروا أشد صلابة وأكثر شجاعة، توحدوا وساروا إلى ساحاتهم المعفرة بدمهم، تداخلوا في عري أجسادهم، تحولوا بقدراتهم الجبارة المتقشفة إلى صرخة واحدة تدِّوي في أرجاء البلاد، حملوا أكفانهم وتقدموا بصوتهم الطاهر الجهوري الملائكي البرئ يهتفون بإسم الحرية، بإسم الوطن والشعب الواحد .

هدروا كالأمواج كالخيول الأصيلة وصهلوا بعرق الطفولة المحتضنة زرقة أحلامها وآمالهاالموشحة بالرماد وستائر الظلمة المعربشة على الذاكرة.

وليكن الحصار كل الحصار، بعد هذا المقت والموت والصمت والفجور، فالحياة كل الحياة لا بد أنها ستكون أجمل بعد قليل من الصبر، وصورة البلاد ستكون أرقى وأنظف وأنقى وأطهر بعد أن يختفي وكلاء الدمار والخراب عن الأنظار ومن كافة الأزقة والشوارع والساحات العامة.

من المدارس والكنائس والجوامع، من المطارات والموانئ، من أسواق الخضار، من الخبز، من الحدائق والتلال والروابي والجبال، من الوهاد والأنهار، من الشواطئ والملاعب من أراجيح الأطفال، من الكتب والأغاني من الأناشيد والأهازيج، من الآلات الموسيقية، من الرقص والدبكات، من الهواء والماء.

وليكن ما يكن وما يفعلون بالوطن وما يبطشون، فهذه بلادك وأنفاسك مبثوثة في ترابها وجذورها وعرقك مجبول في وردها وقمحها وإسمك منقوش على أحجارها وصخورها ويلمع على أنهارها وينابيعها. وقدرك منذ بدء التاريخ ومنذ تكونتَ وكنتَ أن تدافع وحدك عنها وعن كرامتها ومستقبلها، فأنت الآن أقوى أمام عري السلطة الباذخ: لكل جسد يتخطى عتبة البيت ورصيف الروح والقلب دبابة، ولكل هتاف من أجل الحرية زخات من الرصاص، وصليات محمومة من فوهات دبابات ومروحيات ومدافع، تلاحقك وتراقب وقتك وزمنك وحركة البيوت والشوارع مرتعبة خائفة منك ومن ظلالها.

أنت الآن أصلب من السنديان وأقرب إلى شرفات الشمس، والفجر فجرك ولك وحدك لا شريك لك إلا من هو منك ومعك، ووحدك من يتذكر لا غيرك ما الذي كانوا يفعلونه في البلاد خلال نصف قرن من الزمن، يوم طاردوك وعلقوا في رقبتك الأجراس، ويوم أخذوك رهينة واغتالوا الوطن.

أنظر إليهم الآن، إلى ضعفهم وخزيهم وتأكد مما تراه، خروجك على صمتك أنزلهم من عليائهم من عروشهم والأبراج، من مراكز أمنهم وأوكار قصورهم، فصاروا إلى ما هم عليه الآن، وما أنت في عيونهم التي جحظت وأجفلت سوى مارد عملاق وملاك يرفرف بأجنحة الحرية فوق قصورهم وخيباتهم، فاستعانوا بثكنات الجيش وما فيها من ذخائر حية ودروع واقية وآليات ومعادن ومصفحات وأدخنة سامة .
تأكد من قوتك وتأملهم جيداً كيف يترنحون ويعربدون من حولك، في المدن وفي كل زاوية وشارع، وكيف يتخبطون ويتساقطون وكيف يجرون خيباتهم ويندحرون.

لم يعد في وسعهم الإختباء في الشعارات الهاربة من اللغة والتي إنكسرت إطاراتها المذهبة وذابت وتبخرت من شدة أنفاسك الحارة.

ها هم أوضح الآن مما كان يغشي عيونك، يقتلونك وفي وضح النهار بالرصاص الذي دفعت ثمنه من رغيف يومك، يحاصرونك ويحاصرون قوتك ونومك وأحلامك بالدبابات التي كان لها أن تحمي جلدك ولحمك وأطفالك وعرضك من أطماع الأجنبي الذي تشهى وما زال يشتهي بلادك.

تفرغوا لك من كثرة الخوف منك ومن أيامك المكللة بالمجد والغار، دفعوا بفرق الجيش وأطقمها لحصارك وحصار حليب أطفالك ورغيف طعامك وأشجارك وعرضك. وهذا أول الغيث وأول المطر وبداية الإنتصار، وخير برهان على قوتك ونتيجة لرباطة جأشك وصحة أناشيدك وكلامك المرفوع في سماء الوطن لمن لا وطن لهم ولا ضمير، لمن هم مهزلة.
جندوا هذه الأرتال من أشباه المثقفين وما يسمون بالفنانين المتحذلقين، الدمى الكرتونية البلهاء التي لا تتحرك ولا تعمل ولا تنام ولا تأكل وتشرب إلا حسب إشارات المسدس المصوب على خوفهم ورعبهم وجبنهم، هؤلاء المندسون في اللغة الكاذبة، ومن هم مثلهم تماماً ممن يغتالونك برطانة اللغة والإدعاءات وفبركة المشهد الدموي بالإفتراءات اليوميةً وفي كل لحظة موت وبعد كل مذبحة، ومن يستبيحون جسدك الممزق المرهق الملقى في الشوارع والساحات، ومن يسخرون من صوتك ودمك.

عما قريب سينبلج الفجر الجديد وأنت ستكون النهار وستهوي العروش الزائفة، وهل سيجدون غيرك ليلجأوا إليه طلباً للنجاة والمغفرة؟

يا إلهي كيف يهلكون وينزفون في اليوم الواحد. ويولدون ويكبرون في كل هذا الجحيم ويصبرون على الموت، يا لحظهم العاثر كيف يُشرَدون ويلاحقون ويقتلون ويحرقون وينفقون في ذات الوطن وعلى حدود الوطن .

لكنهم خرجوا عندما لفح الفجر وجوههم فأتت إليهم الطرقات والزواريب الضيقة المنزوية الغارقة في العتمة ولن يعودوا، حملوا معهم معاول النار ومنهم من حملوا أطفالهم وهم نيام يحلمون بأي شيء لا يكويهم بلا رأفة أو شفقة.

خرجوا بأقدامهم المهترئة العارية المتشققة الحافظة للسياط والأناشيط، مشوا على أكعابهم المتورمة بالليالي الدامسة ووجوه السجانين اليابسة. إلتمعوا في الشوارع كالنيازك والشهب، كالشموع كدموع القلب، تداخلوا في لحمهم المنثور، في مقتهم وجوعهم، في جنازاتهم الطائرة الحائرة، في حدادهم السائب المغلوب، أزاحوا عنهم أكوام الخوف، تلاحموا وتقدموا من الغد، لم يسألوا بعضهم، أشرعوا صدورهم الغضة لتلقي الرصاص والهراوات، انتشروا منذ الصباحات التي خافت عليهم وعلى ذريتهم المسحوبة من الطفولة والمنذورة للشقاء المر، خرجوا إلى الشوارع يحملون قلوبهم على أكفهم وفي عيونهم الشرر والغضب.

ناطحوا الريح، شقوا لأنفسهم طرقاً قد تؤدي للموت ولكن في نهاياتها حياة لم يتذوقوها وما تعرفوا عليها. كتبوا بدمهم ما في قلوبهم ومابين الضلوع التي تورمت وصدأت في الصدور. خرجوا من البيوت أشباه البيوت والضواحي، من الأرياف من مدارسهم التي تحولت إلى ثكنات، من المعامل الشبيهة بالمعسكرات، ولم يتقاعسوا عن الظهور من الجامعات، من الوديان والسهول والحقول، خرجوا من السنابل والحصى والتراب، من الكتب الكاذبة، من التاريخ المزور من علوم الحياة المحنطة، مالوا بأكتافهم على بعضهم، نفخوا في الصور وقالوا: الشعب يريد والشعب لن يعود إلى ما كان عليه، الشعب هو الوطن، والوطن هو الهوية والهوية عربية واحدة، لا مكان فيها لمن ليس هو منها ولا فيها.

تخطوا الحواجز كلها،حطموها وسطروا ملاحم بطولاتهم، تحدوا أنفسهم وشقوا الدروب الموصلة إلى دروب الحرية، نفضوا عنهم لياليهم القاهرة الظلماء الطويلة، خرجوا من الحداد الدائم وكأنهم كانوا بانتظار بعضهم البعض، صبايا وشباب، نساء ورجال أشداء وأطفال وكأنهم كانوا على موعد لا يؤجل، وكأنهم تواعدوا على عرس في مهرجان الحرية المعفر بدمهم وأرواحهم التي تشظت وتتطايرت في كل مكان.

ها هم يلوحون بأعلام الوطن، بالرايات البيضاء، يطوفون بها في الميادين، في القرى والأرياف، تركوا خلفهم البيوت مغمضة العيون فانكشفت الساحات لهم، الطرقات المنارات مآذن الجوامع وأجراس الكنائس، وكأنهم في صلاة لحياة قادمة مفهومة وواضحة، وكأنهم يرزقون للتو بالحرية والحياة. ويولدون معاً في لحظة واحدة، في ساعة معلقة على حائط القيامة .

من الذي يستطيع أن يوقفهم بعد أن سال دمهم وانهال ومال على تراب الوطن، وبعد أن تهدمت أجسادمهم الطاهرة البريئة وانجبلت في تراب الأرض وجذورها، وبعد أن سحقت أمهاتهم ومزقوا أطفالهم أمام أعينهم وبهذه الوحشية المقززة المرعبة التي تجاوزت بفظائعها طبيعة الوحوش ذاتها؟ لا يحق لنا أن نشفق عليهم وهم من يأخذون بنا وبيدنا إلى الساحات لنتعلم منهم صناعة الحياة، وهم لن يكونو مثلنا أبداً وإن كنا نخاف عليهم، هم بشر وما أجملهم وأروعهم! هم ثوار وما أبسطهم! هم صانعوا الفجر الجديد وما أصلبهم! وتحيى الحياة من بعدهم. هم صورة الوطن النقية البهية، تعلن للمرة المليون ولأول مرة وآخر مرة: كنا وها نحن وسنبقى والحرية لنا.

D 25 حزيران (يونيو) 2011     A محمد كتيلة     C 0 تعليقات