عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

مهند النابلسي

عرض فيلمين


الإنسان الجديد القادم: أطروحات كابوسية في فيلمي "الاستذكار الكامل" و"ارث بورن"

"الاستذكار الكامل"

Total Recall

مهند النابلسيتتحدث قصة فيلم "الاستذكار الكامل" عن انتهاء العالم الحالي بفضل حرب كيماوية مدمرة تحدث في نهاية هذا القرن، ولا تبقى إلا بريطانيا الفيدرالية العظمى، ومستعمرة بعيدة ربما تكون أستراليا (ولكنها تشبه بسكانها وبناءها المعماري المكتظ هونغ كونغ) تمدها بالأيدي العاملة الرخيصة والموارد الطبيعية، وحيث تسافر الجموع يوميا للجزيرة البريطانية العظمى بسرعة هائلة بواسطة مصعد ضخم يعمل بالجاذبية الأرضية الكاسحة عبر نفق عميق تحت الأرض، وتعيش بؤسا وفقرا ومللا ومعاناة، وينحصر عملها بإنتاج روبوتات تشبه البشر كبديل للقوى العاملة.

ويسعى مهووس طاغية للقضاء على سكان المستعمرة واستبدالهم بالروبوتات الآلية، ولكنّ عميلا سابقا، كولين فاريل، يتمكن من استرجاع ذاكرته "المتلاعب بها" وينجح أخيرا مع زوجته المخلصة، كيت بيكنسيل، ويستبسل بتقويض مخطط الطاغية كوهاجن (الممثل بريان كرانستون) وتحرير المستعمرة من مخططات شريرة وإبادة ماحقة، وذلك بعد أن يواجه الأهوال وينتصر على الطاغية، مستفيدا من القدرات الكامنة المزروعة والتأهيل المتميز، محققا الانتصار لحركة المقاومة السرية.

إذن في المستقبل المنظور سيبقى عالمنا بائسا وعنصريا وعدوانيا ما لم تنهض الشعوب النائمة المضطهدة من غيبوبتها وسباتها الطويل، ولن يكون الإنسان الجديد عطوفا رحيما كما قد نتوهم ، بل سيمارس فوقية وغرورا واستعلاء بحق الآخرين المساكين، ولن يتردد في سحقهم اذا شعر بإمكانية الاستغناء عنهم، وسيكون من السهل حينئذ التلاعب بالذاكرة البشرية واستبدالها.

وبالرغم من التقدم المذهل الذي نشاهده في الشريط وخاصة في مجال المواصلات والتنقل والاتصالات والتلاعب البيولوجي بالذاكرة والعقل البشري، إلا أن سلوكيات البشر تغلب عليها غرائز التفوق والغدر والعدوان والجنس. وعلى سبيل الطرافة، فالهاتف الخلوي قد يتحول لشريحة سيليكونية تزرع داخل اليد حسب الطلب وطبيعة الوظيفة، وتعتمد السيارات الطائرة تحت ضغط شافط هائل على ارتفاعات شاهقة كوسيلة للتنقل السريع، وتخضع بعض العاهرات للعبث جينيا بأثدائهن لإظهار ثدي ثالث إضافي لزيادة المتعة والتسعيرة.

وقد استعرض مخرج الفيلم، لين وايسمان، في تحفته الخيالية معظم الأجناس البشرية. كما يبدو أنه تمكن بنجاح من خلط الخيال العلمي المتقن بالبعد السياسي المجازي، حيث فصل ووزع وخلط شعوب الغرب والشرق ما بين "الفيدرالية البريطانية المتحدة" وما يسمى "المستعمرة"، وأسقط مفهوما طبقيا قديما على نمط الصراع المتوقع.

فيلم ارث بورن
The Bourne Legacy

أما في فيلم "ارث بورن" فتظهر شراسة "الإنسان الجديد" (غير المسبوقة) عنما يأمر مدير المخابرات الأمريكية بتصفية كل العاملين في مشروع أبحاث كيماوية متقدم عند ذيوع تفاصيل المشروع للعلن، ومضحيا بحياتهم بلا رحمة وتقدير لتضحياتهم.

ويسعى المخرج البارع، توني جيلروي، لتطوير السلسلة الجاسوسية الشهيرة والارتقاء بها لمستوى جديد من الخيال العلمي الممكن والمتوقع، فآرون (الممثل جيرمي رينر) يعمل عضوا في فريق من النخبة، الذين تم تعزيز قدراتهم العقلية والفيزيائية بواسطة أقراص كيماوية خاصة.

وعندما يذهب آرون إلى ألاسكا في مهمة تدريبية خارقة، يتمكن من النجاة من عدة مخاطر كالغوص في الماء المتجمد لتحديد وإخراج هدف معين، وحيث ينجح بكسر الرقم القياسي التسجيلي السابق بيومين.

وعندما تنكشف تفاصيل المهمة العلمية يقوم كولونيل متقاعد أريك باير (ادوارد نورتون) بالسعي لإصدار أوامر لاغتيال كل أعضاء الفريق البحثي، ويستخدم طائرة بلا طيار لتدمير الكابينة القطبية وقتل أحد المساعدين.

ولكن ينجو كروس بأعجوبة هاربا، وينجح في إدخال "جهاز الرصد" لجوف ذئب قطبي بعد عراك ضاري، وعندما يصيب الصاروخ الذئب (المسكين) يعتقد الكولونيل خاطئا بأنه قد قتل كروس.

كما ينجح الكولونيل بأمر من مدير المخابرات في تصفية عدد من العملاء بواسطة تسميمهم بأقراص صفراء خاصة، ويتكمن بواسطة الإيحاء وغسل الدماغ من الإيعاز لعالم أبحاث مهووس لقتل أربعة من زملاءه قبل الإقدام على الانتحار.

وتتمكن عالمة الجينات مارتا شيرنغ (راشيل رايز) من النجاة بأعجوبة، كما يفشل العملاء لاحقا في اغتيالها في منزلها، ويساعدها كروس على النجاة، طالبا منها أن تقوده لمعمل إنتاج الأقراص الكيماوية في مانيلا، حيث سيستمر وضعه الذهني والعقلي بالتردي بدون الأقراص الزرقاء.

ويتمكن باير من رصد أثره ويأمر عميلا شرسا خارقا بقتله، إلا انهما يتمكنان من النجاة وتحديد المصدر الفيروسي للأقراص، وينجحان بمعجزة في الهروب من ملاحقة الشرطة والقاتل الشرس (الذي يبدو وكأنه غسلت دماغه ويعمل روبوتيا مثل الطائرة بدون طيار؟

هكذا تتمثل وتتجلى شراسة أجهزة الاستخبارات لتصل لحد تصفية العلماء والعملاء عندما ينكشف أمر الأبحاث السرية، والتي تهدف لإحداث تعديلات جينية وتطوير عقاقير كيماوية تساعد الإنسان الحالي على تكوين قدرات ذهنية وفيزيائية خارقة، بغرض تنفيذ مهمات "شريرة " لتحقيق مآرب شيطانية.

والسؤال الوجيه هنا: اذا كانوا يفتكون بعملائهم بهذه الطريقة المريعة، وهم الذين كرسوا حياتهم وجهدهم لخدمة هذه المؤسسات الاستخبارية، فكيف سيتعاملون إذن مع العملاء المحليين والإقليميين الآخرين؟

ومضة الأمل وإشراقة السعادة

في الفيلم ومضة أمل وإشراقة سعادة نادرة تتمثل فيما يلي :

بعد أن ينجو بطلا الفيلم بمعجزة من مطاردات مرعبة وخاطفة للأنفاس، نراهما وقد تمكنا أخيرا من النجاة وركبا قاربا فيليبنيا متواضعا، وفي أجواء ومناظر بحرية ساحرة ومع أغنية رومانسية خلابة صادحة، وتحيط بها الكاميرا من كل الزوايا والسعادة تشع من عينيهما وبلا حديث وقبل وعناق وتصنع، نراهما يجلسان حول طاولة متواضعة وأمامهما إبريق شاي قديم متهالك، وهما يبحران معا في خليج مانيلا لجهة غير معلومة.

هكذا ينقل لنا مخرج الفيلم مع مصوره الفذ وبطليه، الرجل والمرأة، شعورا كاسحا بالنجاة والسعادة والحب قل أن نشاهده في الواقع أو السينما.

رسالة النخبة العربية المثقفة

لا امل لنا كعرب ومسلمين إلا بالخروج من نفق التخلف والتعصب وظلامية التفكير، والإسراع باللحاق بركب الحضارة وسباق الأمم الإنتاجي والذي أشبهه بسباق "الأولمبياد" والتنافس على تسجيل أرقام قياسية، وإلا سيكون علينا أن نواجه بلا رحمة "قسوة وضراوة" الإنسان الجديد القادم سواء في المنظور القريب وفي العقود القريبة القادمة أو مع نهاية القرن الحالي.

وربما سنواجه مصير آلات الطباعة القديمة أو الحيوانات المنقرضة والأجناس البشرية المندثرة ، وقد تبدو نظرتي للأمور تشاؤمية مع بعض المبالغة، ولكن رسالة المثقف تكمن في قدرته على التوقع واستنطاق التاريخ وتبصر المستقبل ومجريات الأمور لصياغة رؤيا المستقبل بنمط طليعي سباق.

ملصق فيلم

ملصق فيلم

D 24 آب (أغسطس) 2013     A مهند النابلسي     C 6 تعليقات

5 مشاركة منتدى

  • أصبتُ في حياتي بخيبات كثيرة بالإضافة إلى خيبتين اثنتين. أولاهما حينما لجأتً إلى "استنباط" وسيلة مهنيَّة في الشركة حيثما كنت أعمل، لتسهيل فتح أغطية ساعات ضغط السوائل والغازات تلك التي يعرقلها الصدأ ومرور الزمن.. وقد وجدتُ منذ عهد قريب في إحدى "المولات" نفس الآلة الوسيلة كسلعة مبتكرة معروضة للبيع تسهل فتح أغطية الأواني الزجاجية المضغوطة للأطعمة المحفوظة.. هذه الآلة ربما كانت اختراعا مسجلا لغيري.

    الخيبة الثانية في تعليق كتبته على (العناق الحميم) من نصوصك المنشورة في عود الند.. لأجد اليوم أن فكرة السفر عبر أنفاق مستحدثة في الأرض، قد تجسدت في بداية نص (الاستذكار الكامل). قلت لك يومها لو تذكر..؟ يتبع


    • يا صديقي المبدع ...لفد أضفت بعدا جديدا للمقالة بتعليقاتك الذكية المتوافقة مع التحليل السينمائي ومجرد استمتاعك بقراءته وتوارد الأفكار يدل على انك مبتكر ولست مبدع وحسب ، وهذا هو المراد من هذه الأفلام اطلاق الخيال البشري لأبعد الحدود بدلا من الالتصاق بالماضي الذي مضى...في بداية كتاباتي هنا بهذا الموقع الرائع نصحتني كاتبة بان اوجه كتابات الخيال العلمي للأطفال والمراهقين على اساس ان الكبار ليسوا معنيين بهذا النمط من الكتابة الابداعية ، وها انت تثبت أنها كانت تماما على خطأ ، ونفس الشيء حدث في التسعينات عتدما انتسبت لرابطة الكتاب الاردنيين وسجلوا صنف ابداعي الكتابي بأنه موجه لأدب الأطفال واعترضت قائلا بأن أدب الخيال العلمي ليس له أية علاقة بأدب الأطفال...وها انت تضع أفكارا تتماثل مع الخيال العلمي وبسلاسة وتلقائية... وربما يعزى تطور الغرب المذهل لتبنيهم لهذا النمط الكتابي ودام قلمك

  • تراءت لي خاطرة عندما كنت أدرس مادة الفيزياء في صف البكالوريا.. وتقضي الفكرة الخاطرة بشق أنفاق عمودية عملاقة تصل الجهة الأخرى المقابلة من الأرض، للسفر بالتسارع حتى المركز، ثم بالتقاصر في الجزء الثاني من الرحلة، عملاً بفيزياء الجاذبية، ومن دون اللجوء إلى الوقود للحركة. أما مشكلة الحرارة العظيمة في باطن الأرض فتركت حلَّها للزمن الآتي.

    "الحالة الأخرى التي لن يكون الإنسان الجديد عطوفا أو رحيما كما قد نتوهم بل سيمارس فوقية وغرورا واستعلاء" لو تمَّ استنساخ البشر بالفعل..؟ عندها سيتحول البشر إلى آلهة أو عبيد.


  • تحليل رائع واستثنائي ، الفقرة قبل الأخيرة تلقي الضؤ على حالة رومانسية بالغة الشفافية نادرا ما نجدها في الواقع او بالسينما ، الفيلم الأول يحمل رسالة تحذير من مستقبل حافل بالاحتمالات الكابوسية ، أما الفيلم الثاني فيحذر من الدور المرعب للمخابرات وهذا ما نشاهده حاليا بسوريا الجريحة !


  • تحليل ابداعي وفراءة نقدية ممتعة لفيلمين عابرين ...الناقد البارع هو الذي يعيد فراءة العمل السينمائي بنظرة جديدة تكاملية ، وهو مشارك حقيقي في العمل الفني ، وعو الوحيد القادر على تحويل الشريط السينمائي من مجرد خيال ومطاردات وتسلية "بوبكورن وكولا" الى صدمة وعي ونشوة فنية- قكرية ! سلم قلمك وشكرا لعود الند التي تفسح المجال لمثل هذه المقالات النادرة .


  • ربط مدهش يحذرنا من مستقبل مرعب لم نفق من غيبوبتنا وظلامية القرون الوسطى والعصر الحجري ...كتابة سينمائية ممتعة وكاننا نحضر العرض السينمائي


في العدد نفسه

كلمة العدد 87: عن سمات الجنرالات

الزمن في سرد سهيل إدريس

أبو نواس والتغزل بالمذكر

بلاغتنا الجميلة: من ينقذها؟

النار في حدث أبو هريرة...