عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

وهيبة بوربعين - الجزائر

التواصل الحضاري في عالم متغير


وهيبة بوربعينتهدف هذه المقاربة إلى إبراز أهمية التواصل الحضاري، باعتباره عنصرا مهما في إرساء ودعم منهج الحضارات المختلفة من خلال رؤية استراتيجية كونية تنشد الإنسان الحضاري المؤهل؛ وتؤمن بحوار الحضارات وتواصلها باعتباره خيارا استراتيجيا يؤدي بالإنسانية إلى الاستقرار في سبيل تعزيز احترام التنوع الثقافي الخلاق، وتقوية التفاهم بين الشعوب؛ وبإرساء منهج تربية للأجيال وإقامة أسس جديدة قوية وراسخة للتعاون الإنساني في عالمنا المعاصر.

لا خلاف على عظم الحاجة إلى حوار جديّ بين الثقافات والحضارات لإقامة جسور التفاهم بين الأمم والشعوب، ولذا هناك ضرورة قصوى لتهيئة الأجواء الملائمة للبحث عن آليات هذا اللقاء والتواصل؛ فالعالم يعيش اليوم فترة انتقال حضاري [1] حافلة بالكثير من قوى التغيير والتفاعلات الثقافية.

وقد جاءت هذه المرحلة في ختام مجموعة من الصراعات الفكرية والاقتصادية والاستراتيجية. وتبرز في هذه المرحلة الحاجة إلى الحوار كمطلب ضروري لتمهيد طريق التواصل وإرساء ودعم منهج التقارب والتعارف بين الحضارات المختلفة، ومساهمة في البحث لإيجاد الإطار الحضاري الذي يقوم على عناصر القوة، المستمدة من خلاصة التجارب الحضارية للبشرية جمعاء.

مفهوم الحضارة

الحضارة عند ابن خلدون هي: "التفنن في الترف وإستجادة أحواله والكلف بالصنائع التي تؤنق من أصنافه وسائر فنونه"[2]. وعند أرنولد توينبي: هي الشرارة الإلاهية الخلاقة القادرة على أن تؤول إلى ما آلت إليه سابقاتها. أما عند سيد قطب فهي حين تكون الحاكمية العليا في مجتمع لله وحده متمثلة في الشريعة الإلاهية، وتكون هذه هي الحضارة الإسلامية.

والحضارة عند مالك بن نبي هي الحاضنة للتقدم والمحيط المناسب لإشاعة ثقافة العلم، حين تعطي الفكرة المبررات الدافعة لليد والعقل للاستفادة من الوقت[3]. وتبدأ الحضارة حين يتعلق الإنسان بمبدأ سماوي[4]، حيث ينتهي القلق والاضطراب، فإن أمن الإنسان يتفجر فيه ينبوع الإبداع والإنشاء.

إن التغيير هو قاعدة عامة في كل حركة تاريخية حضارية فهو يجدد ويطور ويصنع الإبداع والابتكار والتقدم، في مختلف جوانب حياة الإنسان الفكرية الاجتماعية والمادية. وعدة الحضارة الخالدة هو الإنسان الذي يتحرك بدافع الروح الديني فينتج الأفكار والأشياء لحماية الحضارة[5].

وبناء الحضارة، في فكر محمد فتح الله كولون، بناء ليس كمثله أي بناء ضخامة واتساعا شمولا واستيعابا وامتدادا وأهمية وحضورا. فالحضارة تشيؤ وظيفي يتم عبر الزمن لعناصر التراب بفعل الناس، ووفق النظم التي يتواضع عليها الناس؛ والحضارة شهود ينتسج بحوار الإنسان فردا واجتماعا مع مرجعيته ليستخلص منها قبلته ووجهاته إليها؛ والحضارة شهود ينصاغ بجهد الإنسان وبحواره مع الكون لينتج منه قدرته على الفعل والتسخير كل حسب سهمه في الأيدي والأبصار[6].

التواصل الحضاري

إن التواصل الحضاري هو الوصل لا القطع بين طرفين أو مجموعة من الأطراف، بحيث يصل كل طرف إلى الطرف الذي يقابله أو يرغب في الاقتراب منه والتعاون معه. وهذا الضرب من التواصل الراقي إنما ينبثق من الإرادة الجماعية والرغبة المتبادلة والإحساس المشترك، باعتباره ضرورة من ضرورات التعايش والتفاهم بين الشعوب. هو سلوك حضاري بالمفهوم العميق للحضارة، والعالم اليوم في أشد الحاجة إلى هذه الأنماط من السلوكات والممارسات المتحضرة، التي من شأنها أن تخفف من أجواء التوتر وتفتح المجال أمام تعزيز التعاون الدولي عن طريق حوار الثقافات وتحالف الحضارات تدعيما للسلام العالمي؛ بهدف تلاقح[7] الثقافات الإنسانية وتحقيقا للاندماج والتناغم الاجتماعي عن طريق تبادل معرفي وتقني.

تعزيز ثقافة التحالف بين الحضارات

إن التحالف الحضاري هو ثمرة التواصل الحضاري، والحق أن كل فكرة تخدم المبادئ الإنسانية وتعزز جهود المجتمع الدولي، من أجل نشر ثقافة العدل والسلام [8] تصب في قناة ثقافة التحالف بين الحضارات.

وكما يشرح عبد العزيز التويجري،‮ ‬المدير العام للمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة، فإن كل مسعى يقوم به فرد أو جماعة في سبيل التقارب والتواصل والتعاون والتعايش وبين أمة وأخرى أو شعب وآخر فإنه يفضي لا محالة إلى تعزيز التحالف بين الحضارات؛ فإذا كان التواصل الحضاري مصدره التفاهم والاحترام المتبادل فإن التحالف هو الاتفاق بين طرفين على أن يتحالف كل طرف مع قرينه، أي أن يكون كل طرف حليفا للآخر، ويترتب على ذلك أن ينشأ بينهما حلف ناتج عن هذا التحالف؛ لذلك فان اتفاق مجتمع من البشر ينتمون إلى حضارات مختلفة على أن يتحالفوا حضاريا ويتفاهموا ثقافيا، ويقيموا فيما بين حضاراتهم الأصلية تحالف يستتبع بطبيعته إنشاء حلف حضاري يجمع بينهم.

الحوار وثقافة الحوار كوسيلة للتواصل الحضاري

الحوار مبدأ راق لا يكاد يرفضه عقل سليم، وهو المدخل الإنساني للاقتراب من الدوائر (خارج الحضارة الواحدة) [9]، فهناك حوار التعايش بين أفراد الأمة الواحدة؛ وهذا المستوى هدفه إزالة العوائق التي تعيق التواصل، أما الحوار الإنساني فهو من أولويات الحوار الحضاري؛ دفع الحوار في اتجاه معرفة الإنسان هو يقوم على خلفية الإيمان بالجانب المعنوي السامي، وليس الجانب المادي.

ثقافة الحوار هي الثقافة الوحيدة التي ارتقت بالإنسان[10] وفكره الحديث المعاصر، وإذا تناغمت المفردتان، الثقافة والحوار، سوف نصل إلى ثقافة الحوار وحوار الثقافة، التي نستطيع من خلالها زرع مقاصدنا الإنسانية ونشر ثقافتنا الملونة والغنية. وعندما نقدس الحوار فإننا حققنا مكسبا فكريا لشعبنا وثقافتنا ووطننا في ذات الوقت، وهو مكسب جدير بالافتخار؛ فمكسب الحوار الثقافي هو نصر حضاري، وعندما نصل في سلم الرقي والتقدم إلى درجة نؤمن بلغة الحوار، نكون قد صنعنا خيار التواصل الحضاري وكرسنا ضمير الفرد نحو ذلك.

إن ثقافة الحوار تحمل في أعماقنا أسباب وجودنا وأسرار بقاء أمتنا[11]، إن تناغم مكارم الأخلاق مع الحياة الاجتماعية هو منبع ثقافة الحوار وهويتنا الدينية من خلال بناء الدور الحضاري المؤهل للحوار، وهذا ما عبر عنه مالك بن نبي [12]، حيث اعتبر أن الذي يحتاجه الشباب اليوم هو إعادة مراجعة مفاهيم الحوار الندي المتكافئ مع الآخر؛ فالحديث عن الحوار يتطلب مواجهة التحديات والأخذ بأسباب القوة[13] والنجاح ومن ذلك فهم أسباب تراجع أمتنا.

إن مالك بن نبي قد انتهى من تركيب المعادلة الحضارية إلى مجموعة منتجات حضارية لأجل بناء: "إنسان الحضارة المؤهل"[14]، والمقصود ذلك: (1) الإنسان: مشكلة الإنسان وتحديد الشروط لانسجامه مع سير التاريخ؛ (2) التراب: مشكلة التراب وشروط استغلاله في العملية الاجتماعية؛ (3) الوقت: مشكلة الوقت وبث معناه في روح المجتمع ونفسية الفرد.

كما أنه يجب أن نركز على الإصغاء لأنه سبيل التفاهم [15]، أي أن أدافع عن حرية التعبير والتنوع الثقافي، وألّا أنساق إلى التعصب وأن احترم الحياة بكل أنواعها؛ والجمع بين هذين العنصرين يحتاج منا إلى التواصل؛ فإذا كان التواصل يفترض وجود إشكاليات يراد التغلب عليها أو عقبات يرجى تجاوزها، فإن الجواب هو"التواصل" فلا بد أن يكون إيجابيا حتى نستطيع "تجديد البناء الإنساني" من خلال المحافظة على القوتين في الاتجاه عينه (احترام الحياة- الإصغاء)، من غير السماح للصدام بينهما حتى تحقق أهدافا سامية لحضارتنا[16].

الإسلام قوة حضارية وتلاقح فكري

ظهر الإسلام في القرن السابع كقوة حضارية وروحية وإمبراطورية عازلة بين أوروبا وأفريقيا، وما تلى ذلك من أحداث امتدت فصولها عبر قرون بدأت بفتح الشام وباقتطاع جنوب المتوسط عن الإمبراطورية الرومانية والاستيلاء على الأندلس وفتح القسطنطينية، جعلت غاية الإسلام من هذا التواصل البحث عن نقاط الالتقاء عن طريق المنطق والعقل[17]، والفهم للوصول إلى أرضية مشتركة تعتمد على المصالح المتبادلة. أما الغاية الأخرى فهي المثاقفة والتلاقح الفكري الذي يسمح بالتأثير والتأثر وليحل التسامح محل نظرة الاستعلاء لدى قطاع كبير من قادة الفكر في الغرب؛ وهي نظرة تتلخص في إقصاء الآخر.

إن الإيحاء بحتمية الصدام نتيجة تنوع الحضارات إنما هو دليل على فشل إحدى الحضارات في أن تدرك أهمية الاعتراف بحق التنوع، وهو الحق الذي سوف يكون أساسا للحوار ووسيلة للتعارف، إننا نريد من الغرب أن يتخلص من عقدة الخوف القديمة الموروثة من الحروب التي سماها الغرب (صليبية)، وسماها مؤرخونا (حروب الفرنجة)، فنحن أبناء اليوم لا بقايا الأمس، ونريد من الغرب أن يتحرر من نظرة الاستعلاء التي ينظر بها نظرة السيد إلى عبده[18]. إن الإسلام هو دين الحوار والاعتراف بالآخر، وهو شريعة تطوير القواسم المشتركة بين الإنسان وأخيه الإنسان يشرح أخلاق الإنسان ومكارمه [19] ولا يدخل عقلا إلا أشبعه بالقيم العالية والمبادئ السامية والفكر السديد، كما يرى محمد الروكي.

معالم التواصل الحضاري

أولا، الاعتراف بالاختلاف والتنوع: وهذا نقطة البداية حتى يكون الطرفان على درجة من الاستعداد النفسي لاستيعاب الاختلاف وتحديد أسباب الصراع ليتحول الاختلاف إلى إثراء وليس عداء، وهذا الشرط الذي لا غنى عنه فالاختلاف سنة كونية[20]. وثانيا، مصدر للحقوق: في المادة الأولى من التنظيم الدولي لحقوق الإنسان: "يولد جميع الناس أحرارا متساوين في الكرامة وقد وهبوا عقلا وضميرا"[21]. فما هو أصل هذه الكرامة ؟ لقد سماها الإعلان الفرنسي حقوقا مدنية.، أما المرجعية الإسلامية فهي إلاهية. وثالثا، مصدر القيم: السجايا الكامنة في النفس هي المظهر الخارجي لتلك السجايا لان الآخر في خطابنا المعاصر ليس جديدا بل هو قديم قدم الحضارات[22].

في أهداف مشروع التواصل الحضاري

للتواصل الحضاري مجموعة أهداف أولها هدف فكري ويتمثل في تصحيح الصورة التي روجت عن الإسلام عقيدة ونظاما وحضارة[23]. وثانيها هدف سياسي، أي العمل على إشراك الحضارة الإسلامية في صنع القرار الإسلامي والكفاح لأجل إحلال تواصل حضاري مشترك. وثالثها هدف اقتصادي بمعنى أن يكون العالم الإسلامي قوة اقتصادية عالية؛ ولذا يجب بناء اقتصاد قوي حتى تمكن المشاركة في صنع القرار.

في مرجعية المشروع الحضاري المنشود

يقول فهمي هويدي: ’’إن مشروعنا الحضاري لا قيام له بغير الإسلام والعروبة’’[24]. والواقع أن خيارنا الحضاري لم يحسم بعد، والنهضة الحضارية الحقيقية لا تقوم إلا على مشروع حضاري مستقل يرتكز على الدعائم الأساسية للمجتمع والتي تشكل خصوصيته وتتصل بينابيعه وجذوره.، ولكن يبقى السؤال: من يكفل المشروع الحضاري؟ وكيف نحافظ على أمن المشروع؟

وكما يشرح محمد سعيد ياقوت، فإن الحديث عن الخطوات الإجرائية في المشروع الحضاري لا يتأتى إلا بعد تحقيق المبدأ الذي ذكرناه، ألا وهو: نقد الذات وفهم الغرب. وحين تعود الأمة الإسلامية حكاما وشعوبا إلى مرجعيتها بصدق وبقوة، سوف يأتي الدور وبسهولة بتحديد الراعي والمقر والميزانية.

خاتمة

إن الأصل في الحضارات التواصل لا الصراع، وإن على كل طرف أن يلتزم بآداب الحوار وشروطه وضوابطه ويحترم الطرف الآخر ويقدر مرجعيته وخصوصيته الثقافية. إن مشروع التواصل الحضاري مشروع سامٍ رفيع يحتاج منا بذل الجهد والوقت، ولا سبيل لبناء الحضارات إلا بالاعتماد على الإنسان المؤهل الذي يعتمد على نظام فكري وأسلوب مبتكر لتحقيق أهداف سامية.

= = = = =

الإحالات

=1= محمد أحمدالراشد، صناعة الحياة، دار اليقين للنشر والتوزيع، مصر، ط: 1، 2010 ص 5.

=2= محمد فتح الله كولون، الفن المعماري في التواصل مع الآخر، ص 2.

=3= علي فهد الزميع، منهج التواصل بين حضارات العالم، عتيدة للترجمة وحوار الحضارات، نقلا عن: http://www.star28.com/site/site-8795.html

=4= محمد فتح الله كولون، الإنسان الجديد، مجلة حراء، العدد 11، ابريل-يونيو 2008، ص 2.

=5= محمد يوسف وإبن خلدون إنجاز فكري متجدد، ط: 1، مكتبة الإسكندرية، مصر 2008 ص 9.

=6= حسن الأمراني، حول مفهوم الحضارة، نقلا عن: مجلة حراء، العدد: ₃1، سنة: 2012، ص 54.

=7= مالك بن نبي، شروط النهضة، دار الفكر للنشر والتوزيع، 2004: ص 2₃.

=8= الطيببرغوث، موقع المسالة الثقافية من إستراتيجية التجديد الحضاري عند مالك بن نبي ص 10.

=9= محمد العودة، مفهوم الحضارة عند مالك بن نبي إتجاهات فكرية، نقلا عن موقع: http://islamonline.net/feker/studies/3038.

=10= المرجع نفسه، ص 20.

=11= مالك بن نبي، دور المسلم في الثلث الأخيرة من القرن العشرين، ص 58.

=12= انظر موقع http://www.goodreads.com/book/show/10433006

=13= محمد فتح الله كولون، ونحن نبني حضارتنا، نقلا عن: مجلة حراء، العدد: 29، 2012، ص 39.

=14= عبد العزيز بن عثمان التويجري، التواصل الحضاري والتفاهم بين الشعوب، منشورات المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة، إسيسكو، 2010، ص 8-9.

=15= أمال يحيى المعلمي، حوار الحضارات، مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطن، ص 8.

=16= ندوة الحوار الإسلامي الياباني، 28-29 ذي الحجة 1422-12 مارس 200₃، مركز البحرين للدراسات والبحوث، المنامة البحرين ص 9.

=17= مريم آيت احمد، مستويات الحوار الحضاري، نقلا عن: مجلة حراء، العدد: 32، 2012 ص 35.

=18= عاطف محمد آدم عجيب، التواصل مع الأخر، مركز دراسات وثقافات السلام، ص 12.

=19= محمد فتح الله كولون، الوعي الجمعي، يوليو-أغسطس، 2011، ص 2.

=20= جيلا لي بوبكر، شروط التجديد الحضاري في فكر مالك بن نبي، 11-9-2011، ص 3.

=21= عطية الويشي، الصراع في الفكر الغربي، نهضة مصر للطباعة والنشر، 2007، ص 28.

=22= أحمد علي ويس، مشكلات الحضارة في فكر مالك بن نبي، دمشق، دار الفكر للنشر، 2005، ص 279.

=23= أبو القاسم حامد، مقدمة في دراسات السلام والنزاعات، إصدارات مركز السودان لأبحاث الخرطوم، 2010، ص 68.

=24= محمد فتح الله كولون، رسالة الإحياء، يناير-مارس 2010، ص 2.

D 25 آب (أغسطس) 2014     A وهيبة بوربعين     C 0 تعليقات