عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

د. يسري عبد الغني عبد الله - مصر

العرب والغرب والنقد الأدبي


يسري عبد اللهيحلو للبعض أن يردد بين الحين والآخر أن بلادنا في حالة تخلف فكري، وأنه لم توجد مذاهب للنقد الأدبي في بلادنا منذ رفاعة رافع الطهطاوي إلى يومنا هذا. ويردد أيضا أن أوروبا لم تعرف من الأدب العربي كله إلا قصص ألف ليلة وليلة، وقد تعرف كتاب «حي بن يقظان» لابن طفيل.

ومن نكد الدنيا على الحر أن يسمع هذا الكلام، ألم يقرأ هؤلاء العديد من الدراسات التي كتبت في الشرق والغرب مؤكدة على أن الأدب العربي القديم كان عالميا وأثر بشكل مباشر في كل الآداب الأوربية، وهذا باعتراف كثير من البحاثة الغربيين.

ودعنا من الأدب القديم، ولنتحدث عن الأدب العربي الحديث، ومثال عليه الأدب المصري، وعناصر الإبداع فيه، التي دعت الناشرين في أوروبا وأميركا يترجمونه، وينشرون منه عشرات الآلاف من النسخ التي بيعت للناس، وتلقفها القراء، وكتب عنها النقاد العديد من المقالات في الملاحق الأدبية لصحف الغرب الشهيرة.

كتاب عميد الأدب العربي طه حسين ترجم إلى الفرنسية والإنجليزية والإسبانية والألمانية والروسية وغيرها. كتاب «يوميات نائب في الأرياف» لتوفيق الحكيم ترجم إلى الفرنسية والإنجليزية والروسية ولغات أخرى، يضاف إلى ذلك مسرحياته العديدة التي ترجمت إلى كثير من اللغات، وقصص الأديب العالمي نجيب محفوظ، وموباسان الشرق محمود تيمور، ومسرحيات رشاد رشدي ترجم كثير منها إلى لغات متعددة.

إن الأمثلة كثيرة جدا سواء في الأدب العربي الحديث أو المعاصر، ولم يكن القصد هو ترجمة هذه الأعمال الأدبية للدراسة الأكاديمية أو غيرها، بل كانت للقراءة العادية، والبعض قد لا يعرف أنه في الجيل الماضي قد تم ترجمة كتاب «السيد ومراته في باريس» لبيرم التونسي إلى الفرنسية، وصدر في العاصمة الفرنسية باريس.

وفي الثمانينات من القرن الماضي نشر أحد الناشرين الألمان في برلين مسرحية «السلطان الحائر» لتوفيق الحكيم، وطبع منها ثلاثين ألف نسخة، وعندما سألته عن نسخة منها، اعتذر قائلا: إن الطبعة قد نفذت، وإنه بصدد إعادة طبعها.

وأذكر أن مستشرقا روسيا في الأربعينات من القرن الماضي جاء إلى مصر والتقى بالعديد من الأدباء المصريين طالبا منهم المساعدة في ترجمة «يوميات نائب في الأرياف» لتوفيق الحكيم أيضا، وظل معهم على موعد دائم كل يوم لتنسيق عملية الترجمة، والتي نشر منها عشرات الألوف من النسخ، منوها في مقدمة الترجمة بجهد من التقى بهم من الأدباء المصريين.

وعندما أصدرت دار بنجوين البريطانية مجموعة «قصص قصيرة أسبانية» في الأربعينات من القرن الماضي أيضا، كتب المترجم في المقدمة أن هذه القصص القصيرة أصلها عربي، وأن نشوء القصة القصيرة في أسبانيا أولا ثم انتقالها إلى إيطاليا في العصور الوسيطة مصدره الأدب العربي، وهكذا كتب بوكاشيو الإيطالي كتابه «ديكاميرون» من واقع القصص العربية التي حولها إلى الواقع الإيطالي، وكانوا يفعلون ما فعلناه في بدايات عصر النهضة الحديثة من تمصير القصص والمسرحيات.

وعن طريق بوكاشيو ظهرت القصة القصيرة في فرنسا وانجلترا وألمانيا، وأما ألف ليلة وليلة فقد ترجمت في أواخر القرن الثامن عشر إلى الفرنسية ثم صدرت منها عدة طبعات عديدة في اللغة الإنجليزية، وكان لهذه الليالي أثرها الكبير المعروف في الإبداع الغربي بكافة أنواعه.

وعن طريق «رسالة الغفران» للشاعر العربي والفيلسوف أبي العلاء المعري، ظهر جحيم دانتي الإيطالي ضمن ملحمته الشهيرة «الكوميديا الإلهية»، وعن طريق فكرة الشيطان أو الجن في الشعر العربي، وما عرف من أن كل شاعر له شيطانه، كتب الإنجليزي كروستفر مالرو مسرحية «دكتور فاوستوس» في سنة 1588، ثم كتب نفس القصة الشاعر الألماني يوهان ولفجانج فون جوته بعد قرون طويلة وبالتحديد في سنة 1824.

وكان جوته قد ترجم إلى اللغة الألمانية مختارات من الشعر العربي نشرها في كتابه «الديوان الشرقي»، ومنه بعض الأشعار الجاهلية التي عرف معانيها وأعجب بها فقام بترجمتها، وهذا الكتاب مازال يعد من أشهر الكتب الألمانية التي تؤكد على مدى تأثير الثقافة العربية على الثقافة الغربية.

هذه الكتب لا زالت تطبع حتى يومنا هذا، ومنها كتاب «حكايات أبي زيد السروجي» الذي ترجمه الألماني بوركهارت عن مقامات أبي القاسم الحريري المشهورة، وهذا الكتاب من الكتب المقررة في العديد من المدارس الألمانية.. وبعد ذلك نسمع من يتهمنا بالتخلف الفكري.

إن القضية أخطر مما نتصور، ويجب أن يكون المتصدي لها على بينة من الأمور، وعلى دراية بتاريخ الأدب والفكر والفن على مر العصور، وهذه الظاهرة أي محاولة إنكار الإبداع الفني في أدبنا العربي، من الظواهر التي تستحق الدرس والتمحيص، وليس سبب هذا الإنكار الجهل أو عدم المعرفة، لأن الجهال لا يصلون إلى أجهزة الإعلام بأنواعها المختلفة، ولكن سببها أشنع من ذلك كثيرا، وهو فيما أعتقد السطحية، ومعرفة بعض القشور دون التعمق والوعي بالمنهج العلمي في الدراسة والكتابة والتحليل، أضف إلى ذلك الرغبة في إصدار أحكام عامة تحت ضغط ظروف نفسية أو عصبية طارئة وغير طبيعية.

وإذا كانت عناصر الإبداع الفني في الأدب العربي ما زالت وستظل في عطاء دائم، رغم كل الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تمر بها بلادنا، فإنه ليس في إمكان أحد إنكار النهضة الفكرية العربية، أو اتهام الأدب أو الفكر العربي بالتخلف الفكري.

إن عشرات الكتب التي ألفت عن مصر والكثير من البلاد العربية في السنوات الأخيرة بمختلف اللغات العالمية، وكلها تعترف بشيء واحد أصبح القاسم الأعظم عند المؤلفين الأوربيين والأمريكيين وغيرهم حتى في الصين والهند واستراليا، وهو أن بلادنا العربية تملك الطاقة الفكرية الحضارية، وهي ليست كتبا سياسية على كل حال، بل هي من كتب الثقافة العالمية المحترمة.

وعندما أرادت إحدى دور النشر في لندن نشر سلسلة عن مدن العالم، اختارت القاهرة لتكون المدينة الأولى التي يصدر لها أول كتاب، وكلفت الكاتب الأديب الراحل ديزموند ستيوارت بتأليف هذا الكتاب الذي كان باكورة كتبها، ويجدر بالذكر أن ديزموند كان صديقا مقربا للعديد من الأدباء المصريين والعرب.

أما عن مذاهب النقد الأدبي التي يزعم البعض أنها لم توجد في مصر منذ أيام رفاعة رافع الطهطاوي حتى يومنا هذا، فأعتقد أنه مجرد كلام يبعد جملة وتفصيلا عن الموضوعية، فالنقد الأدبي في مصر والبلاد العربية تمثل في مذاهب متعددة خلال الجيل الماضي، والأمثلة على ذلك كثيرة أكثر مما تحصى، نذكر مذهب طه حسين في النقد التشككي والجمالي في وقت واحد، ومذهب أحمد أمين في النقد الموضوعي.

ومن منا لا يعرف كتابه «النقد الأدبي»، ومذهب أمين الخولي في فكرة وصل الفن بالحياة، ومذهب العقاد في النقد العلمي النفسي من ناحية البحث عن نوازع النفس البشرية في مفتاح الشخصية كالنرجسية أو غيرها من أمور سيكولوجية، ومذهب محمد مندور في فهم الشعر ونظرية الشعر المهموس، ومذهب رشاد رشدي في تقييم النص الأدبي وفقا لنظرية الفن للفن، ورؤية محمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس في الأدب الملتزم وغيرها.

لقد بدأ موضوع النقد الأدبي في كلية الآداب جامعة القاهرة، وكانت القضية في الأصل هي البحث عن : البلاغة والنقد، ودخل منها سلامه موسى ، عندما ألف كتابه عن البلاغة العربية، كما دخل مؤلفون وكتاب آخرون لم يكن لهم علم أكاديمي بالمذاهب النقدية.

ولكن النقد الأدبي في أمريكا أصبح في العصر الحديث مختلفا، وقد ألف إيليا كازان كتابه المهم في هذا الموضوع، حيث كتب عن مذاهب جديدة في النقد غير معروفة في أوروبا، وترتبط بالأدب الأمريكي في تطوراته الجديدة، وهذا المؤلف يرى أن مذهب الواقعية الذي نعرفه لم يعد له وجود، وأعلن أن هناك مذهبا جديدا هو "الواقعية الجديدة". وبالطبع هناك مذاهب أخرى جدت بعد هذا الكتاب إلى يومنا هذا، ومن الواجب علينا العلم بها ومعرفتها دون أن ننقلها خبط عشواء دون إدراك لما يتفق مع خصوصية إبداعاتنا الأدبية العربية.

أذكر من هذه المذاهب المذاهب التي أصبحت ترتبط بالتفسير النفسي المعملي في دراسة الظواهر الأدبية مثل انتحار بعض كتاب الغرب كأرنست هيمنجواي وغيره.

وعليه أصبحت مناهج النقد الأدبي في عصرنا مختلفة عما كانت عليه في الماضي، ويرجع ذلك إلى كثرة وسائل الاتصال الحديثة التي حولت العالم إلى قرية صغيرة، وهذا ما جعل النقاد والبحاثة في أيامنا هذه غير قادرين على المتابعة والدراسة، ومضى الزمن الذي كان برنارد شو يتعلم الموسيقى ليصبح ناقدا موسيقيا، أو يقرأ عباس محمود العقاد مئات الكتب ليصبح ناقدا أدبيا.

أصبح النقد الأدبي الصحفي أو الانطباعي أو التأثيري هو السائد في عالمنا كله، بعيدا عن الدراسة العلمية أو المنهجية، والأمر الأعجب أن الجمهور أصبح هو الناقد الحقيقي للأعمال الأدبية والفنية في الظاهر، كما أصبحت مواقع التواصل الاجتماعي هي الناقد الأدبي والفني على أرض الواقع.

مهرجانات السينما والمسرح، ومعارض الكتب الدولية، أصبح الحكم فيها هو الجمهور، وأصبحنا نقرأ عن أكثر الكتب بيعا في السوق، وليس عن أهم الكتب من ناحية الفكر والثقافة، وقد يكون أكثر الكتب بيعا من أتفه ما كتب، ولو أن كتب أرسطو أو أفلاطون نشرت في أيامنا هذه لكانت أقل الكتب بيعا.

ولو أن الممثل فلان أو لاعب الكرة علان نشر مذكراته لأصبحت أهم من مذكرات ونستون تشرشل عن الحرب العالمية الثانية، أو أهم من «جمهورية أفلاطون»، بل أنها ستكون حتما أكثر بيعا من كل مسرحيات وليم شكسبير في لندن، أو كل روايات ألبرتو مورافيا في قلب روما نفسها.

ولذلك أصبح الإبداع الفني عنصرا غير أساسي في النقد الأدبي في هذا العصر، ليس في مصر والبلاد العربية وحدها، فقد انتهى عصر ت. س. إليوت، كشاعر وناقد في بريطانيا، وانتهى عصر جان بول سارتر كفيلسوف ومسرحي وناقد في فرنسا.

وليس معنى انتهاء عصر النقاد العظماء، هو انتهاء عصر الإبداع الفني، لأن الإبداع الإنساني سيظل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهذا ما حدث في مصر كما حدث في العالم كله، فمن المستحيل أن تجد وأنت تتابع حركة الإبداع الأدبي في بريطانيا ناقدا مثل إليوت ولا تجد في فرنسا ناقدا مثل سارتر، وهذا لا ينفي وجود الإبداع في بريطانيا وفرنسا.

إن ضمور حركة النقد الأدبي والفني عالميا، كان من أهم أسبابها اختراع الأجهزة الحديثة التي سهلت عملية الاتصال والتلقي، مثل الحاسب والإنترنت، والتي ترصد لنا تطور الحركات الفكرية والأدبية والفنية بطرق جديدة، أصبحت في عالمنا تستغني عن الطرق القديمة، مما يجعلنا نترحم على الأيام التي كنا نسجل فيها المعلومات على بطاقات، ونجلس حتى نستخلص النتائج من دراسة هذه البطاقات. ويبدو بالفعل أن النقاد لم يعد لهم مكان في عصرنا هذا.

وإذا كان النقد الأدبي أو الفني قد وصل إلى هذه الحالة الفاقدة للشعور والإحساس بالجمال أو الحق أو الخير، كما تصوره آرسطو وغيره من فلاسفة اليونان، فإن عناصر الإبداع الفني لن تتوقف ما بقيت الحياة، وذلك لأن الإنسان، كما الناقد الإنجليزي أرنولد بينت ولد فنانا.

لقد أصبح النقد فيما يبدو وظيفة تعتمد على الحاسب الآلي والإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، فمتى نتكاتف نحن أهل الأدب والفن لنعيد إلى النقد دوره الرائع في النهوض بالفنون والآداب؟

D 25 أيلول (سبتمبر) 2014     A يسري عبد الله     C 0 تعليقات