وهيبة قويّة - تونس
إطلالة على مهرجان المربد في دورته 34
نافذة على الرّحلة العراقيّة
أقيمت في مدينة البصرة العراقية الدورة الرابعة والثلاثون من مهرجان المربد الشعري، دورة الشاعر إبراهيم الخياط، ابتداء من الرابع من تشرين الثاني (نوفمبر) 2021، وحتى السابع من الشهر نفسه. وكان عقد المهرجان أرجئ بسبب وباء كورونا/كوفيد 19. شارك في المهرجان نحو 300 شاعر وشاعرة، من بينهم الشاعرة التونسية وهيبة قوية، التي كتبت عن رحلتها ومشاركتها الموضوع أدناه.
النّوافذ عيون الأمكنة المغلقة
تقفز منها عيون القلب لتفتح للرّؤى مصراعيْ الكون
وتبني للأحلام أجنحة إلى المنتهى.
* * *
وصلت إلى المطار وفي رأسي نافذة كبيرة بحجم الصّور الكثيرة المتهافتة في رأسي ولهفتي للعراق. وما إن وقفت أمام "رجل المطار" خلف نافذته حتّى أسرعت بالطّلب:
= "أريد مكانا قرب النّافذة".
= "وماذا سترين في رحلة طويلة يغلّفها الظلام؟"
هكذا بدا الأمر لرجل المطار، وأضاف وهو يقدّم لي الجواز مبتسما: "سفرة ممتعة".
ابتسمت لابتسامته وابتعدت عنه مسرعة وأنا أحدّث نفسي عن النّوافذ الّتي لا أظنّ أنّه يعرفها مثلي، كما أنّه لا يعرف أنّي لا أحبّ الأمكنة المغلقة، وأنّ النافذة خدعة أفتح بها ما انغلق أمام ناظري وأمام عيون قلبي وروحي الّتي تفرّ من روحها مع كلّ سفر.
أخذت ركني الهادئ إلى جانب النّافذة الصّغيرة. وشددت حزام الأمان وفي قلبي إيمان كبير بقدرتي على الطّيران. وانزويتُ في ركني المشرق بآخر خيوط الشّمس الذّابلة في يومنا الغائم، أجمع إليّ نفسي وتفاصيلي وملامحي وأغلق حواسّي، لا أرى سوى ما يراه قلبي ولا أسمع إلاّ أغنيتي عن العراق الكبير، ونبض الرّوح أوتار تعزف لحن اللّقاء:
الْقَلْبُ يُرْقِصُهُ هَوًى خَفَّاقُ = = فَبِمَ التَّصَبُّرُ عَنْ لِقَاكَ عِرَاقُ؟
حيّاني جناح الطائرة المشرع أمامي. هادئا كان، لا يشبهني، حتّى تحرّك. وارتفع ومال. وأسلمت إليه مقاليد نفسي وقلبي وجسمي وصار جناحي فطرت به وطار بي. وصرنا واحدا متّحدا.
أنا، هنا في مكاني، عصفورة صغيرة ترشق الفضاء بجناح قويّ، وعيناي تراقبان المشهد المنسحب من تحتي في غمامة قطنيّة ليغيب شيئا فشيئا وتصفو أمامي الأبعاد. هكذا تبدأ الرّحلات الجميلة، بلا حواجز أمامي لتعلّقني الأحلام والمواعيد والأفكار المنفتحة والمتأرجحة على الغيم. وتماما مثل العصفور قلبي، مسافر بلا جناح. هو قلبي الّذي يشبهني، مسافر مثلي على كفّ القدر بلا خطط رغم كلّ الاستعدادات.
هكذا قلبي في كلّ سفر، يطير، ويكبر، ويفيض عن صدري، ويتحوّل في الفضاء من عصفور صغير إلى طائر أسطوريّ عملاق يحملني إلى أحلامي الجميلة البعيدة.
طرت فوق البحر، فوق الغيم، فوق الحلم بأحلام ورؤى. وتمدّد الحلم على عرش من مخمل أبيض تشعله بقايا الشّمس. ورفعتني الغيمات عاليا وبعيدا، حيث بدأ الظّلام يفرش سواده لألوّنه برؤاي المضيئة.
وأبعد من المدى القطنيّ الرّحب، رفعتني الرّؤى إلى ضوء المعنى فشدّني بخيوط الحلم اليقظ. وانتصب محراب الشّعر أمامي وانفتحت نوافذه قصائد بدأت قوافيها تصل إلى سمعي من بعيد، صلاة ترتّلها الأصوات بحماسة حينا وخشوع حينا آخر. وأسمعني، صوتا يغنّي "طبوعا تونسيّة" ويأخذني إلى حضرة التلاحين الأندلسيّة و"المالوف". ما أسعد القلب وهو يطير بعطور بلاده إلى بلاد يحلم من زمن أن يراها!
غَنَّيْتُ سَكْرَى بِالْهَوَى مَالُوفًا:
(الْكَوْنُ إِلَى جَمَالِكُمْ مُشْتَاقُ = =وَالْعَالَمُ كُلُّهُ لَكُمْ عُشَّاقُ)
أَ عِرَاقُ إنّا "لَيْكُمُو" عُشَّاقُ.
وتضوّعَت الألحانُ تنشر معانيها في حواسّي، وتستبدّ بي، فدندنتُ معها، ثمّ غفوتُ في مداها حالمة لعلّها ترمّم في روحي ذاكرة جدّتي الأولى وهي تفكّ ضفائرها وتنثر من خصلات شعرها بذور الياسمين والآس والقرنفل في حدائق بيتها، وتعلّق شجيرات الورد على جدران الفِناء تستعيد به وطنا ضائعا تركته في الضفّة الأخرى من البحر، وتحلم بالعودة إلى حدائقه وهي تنشد قصائدها وموشّحاتها، وتنسج على سدى أيّامها تفاصيل حياتها الجديدة على الأرض الجديدة. وأحلم معها بأندلس لم أرها إلاّ آثرا باقيا على أرض "أوزاليس". وعاد بي الحنين فأنشدتُ لباب بيتنا القديم الواقف على تلال العمر ولذاكرة جدّتي الأولى:
وَفيٌّ بَابُنَا لِشَبِيهِهِ خَلْفَ الْمَدَى،
بِظِلَالِ أَنْدَلُسِيَّةٍ تَطْفُو زَنَابِقُ عُمْرِهَا
مِثْلَ اللُّجَيْنِ عَلَى مَلَامِحِ بَابِهَا
فتُعَتِّقَ الْحُلْمَ الْمُقَدَّسَ فِي دِنَانِ الْوَصْلِ
دَالِيَةً
وآسًا،
فُلُّةً تَخْتَالُ فِي يَقَقٍ،
بَيَاضًا مِنْ عُروشِ الْيَاسَمِينِ،
وَرِقّةَ الْوَرْدِ الْمُهَرَّبِ فِي جَدَائِلِ شَعْرِهَا،
مِنْ جَنَّةِ الزَّهْرَاءِ أَطْوَاقًا.
ما أشدّ لذع خفقة القلب حين ينبض بالشّعر ويحملني إلى جنّات الذّكرى الّتي تحيا في تفاصيل يومي "الموريسكيّ" في العالية موطني. إنّه نبض حرّ لا ينضبط إيقاعه إلاّ حين تستقرّ خفقة القلب على لساني، فإذا اختلط نبضه بنبضي اختصمنا حول المعنى وحول الألحان. وما أكثر خصوماتنا. يقودني إليه ظمِئا إليّ فيحرّقني ويوقعني في صدره نغما. يحبسني. فأفتح نافذة الرّوح وأقوده إليّ. ونمتزج، روحا، ويستمرّ فيّ ما استمرّت خصومتي اللّذيذة معه، ثمّ أطلقه من صدري وأهيم على وجهي غيمة اعتصرت ماءها وخفّت حتّى يعود إليها مطر القصائد. فأرتحل حرّة من جديد أبحث في عطور جدّاتي عنّي وأحفظ ما خبّأنه من بقايا الياسمين والقرنفل والخزامى.
وأدندن بعض الأسطر أجمع بها أسراب الأفكار الّتي أخاف أن يخنقها الظّلام المنسدل في فضاء الطّائرة:
وَفِي خَفَرٍ،
تَفَتَّحَ مَبْسَمُ النُّوَّارِ خَلْفَ الْبَابِ
يُغْوِينِي،
بِجَنَّاتٍ مُعَلَّقَةٍ عَلَى الْأَسْوَارِ تَحْكِي بَابِلَ الذِّكْرَى
وَجَنَّاتٍ بِأَنْدَلُسٍ
تُرَتِّلُ آيَةً أُخْرَى
فأَصْقُلُ خُطْوَتِي
أَعْدُو عَلَى دَرَجِ الرُّؤَى
وَفَرَاشُ نَبْضِي فِي حَرِيقِ الشَّوْقِ يَحْدُونِي.
وتعود العطور الأندلسيّة تلفّتني ويستفيق الورد في خاطري.
ثمّ انتبهت إلى النّافذة الّتي احتلّها الظلام. فابتسمت لها ورجوتها ألا تغمض عينها حتّى أكمل رحلتي. فابتسمت لي وصارت مرآة ترتمي عليها ملامحي. أغمضت عينيّ، وعاد الحلم لينفتح في مبسم الفكر يلوّن وقتي.
يَا قُبْلَةَ الْمِفْتَاحِ
ظَلّي قِبْلَةَ الْأَشْوَاقِ عِنْدَ تِلَالِ عُمْرِي
وَارْسُمِينِي فِي ظِلَالِ الْبَابِ طَوْقًا مِنْ
بَيَاضِ الْيَاسَمِينِ يُضِيءُ ذَاكِرَتِي.
الرّحلة الطّويلة لم تكن طويلة عليّ، إلاّ أنّها يبدو طالت على المسافرين خلفي وأمامي، فهمت ذلك ممّا وصلني من بعض حديثهم. أمّا أنا فلم أكن مسافرة. بل كنت عصفورة أو غيمة أو خفقة في صدر الوقت لم يضق بها الصّدر. حلمت، غنّيت، تفقّدت السّماء، تطلّعت إلى سماء الأرض الّتي أسرجت أضواءها نجوما تحتي، وطرّزت بساطا بأنامل نسّاجة الضّوء الأسطوريّة. ورأيت تطريز أنامل جدّتي الأندلسيّة لأثواب العرس وأثر خيوط الذّهب والعقيق والأحجار الكريمة الملوّنة على ثوب عرس أندلسيّ توارثته جدّاتي حتّى صار إلى خزانة أمّي الّتي كثيرا ما فتحتها لأنظر إلى الثّوب المطرّز وأتخيّلني ألبسه، وأداعب تطريزه وأحاول تقليد تزيينها على الأقمشة لأحفظ الإرث المقدّس والحلم البعيد لجدّتي الأولى.
سَبَحْتُ في الأفكار، سبّحت، دعوت، تمنّيت، وأنشدت قصيدتي ورأيتني بين جمهرة من الشعراء، ومضيت معهم نغنّي ونتمنّى على أجنحة الشّعر أن تحلّق بنا أبعد. وفتحت عينيّ على حلم العراق واللّيل حولي يكتم ما بيننا من الرؤى. وهزّني الشّوق أكثر إلى العراق:
أَ عِرَاقُ رِفْقًا فَالْفُؤَادُ يَمَامٌ = = ألِفَ الْهَدِيلَ وَرَجْعُه الْأَشْوَاقُ
ازدان اللّيل بالأضواء وأضاء السّفر، ومضى معي يرافقني في ليلة استثنائيّة في المطار في انتظار الرّحلة الثّانية إلى البصرة.
المطار أمتعني بالاكتشافات المختلفة. كنت ضئيلة في مساحاته الكبيرة. وانشغلت بقراءة اللاّفتات الضّوئيّة والاتّجاهات صعودا ونزولا، ومراقبة أفواج المسافرين المسرعين والمتباطئين، والنائمين واليقظين وأنا منهم. راقبت نفسي حتّى لا تضيع ساعة السّفر ورأيتني غريبة من بين أعداد هائلة من الغرباء حيث تكثر الأسئلة ويعزّ الجواب الواضح. والكلّ ينظر إلى الكلّ وإلى الفراغ، وإلى وقت رحلته. مشهد لم أره من قبل، أو لم أهتمّ به، فجحافل البشر في حركة دائبة وأصوات المنبّهين إلى الرّحلات لا تكلّ. عالم آخر لولا وضوحه أمامي لظننته عبورا للصّراط، أو حياة برزخيّة تهيّئني للبعث.
وانبعثتُ مع خيوط الشّمس الأولى، وأنا قرب نافذة طائرة أصغر حجما من الأولى تواصل بي رحلتي إلى البصرة. ودخلتها بسلام آمنة، في إشراقة صباحيّة صيفيّة كادت تحرقني. إذْ تحوّل الطقس فجأة من شتائيّ أمطر ليلة سفري إلى صيفيّ لم أتعوّد الحركة في حرّه. وفي غمرة الحرارة انفتحت الطّريق تمضي بي في شوارع البصرة. وأخذت أراقب المشاهد أمامي. هنا ربّما مشى الجاحظ، وهنا مرّ الفراهيدي، وهنا شعراء وهنا نحويّون وهناك.
أين شطّ العرب؟ أمامي ماء وقوارب والفندق ليس بينه وبين شطّ العرب إلاّ رصيف. قفز قلبي ليستقبل المشهد كلّه دفعة واحدة. "كلّ هذا العراق؟" سألت ببراءة الطفلة وقفز الجواب أن اصبري، فالعراق أكبر من هذه الطّرقات البصريّة. "أكبر من كلّ ما حملته في ذهني عن العراق الكبير؟" طمأنت نفسي، وهدأت.
كيف يمكن أن أحضن كلّ العراق بعينيّ وهما لا تريان إلاّ جزءا من المكان؟ أغمضت عينيّ على صورة الماء وتنفّست عميقا. وحده هواء البلاد يحمل كلّ الصّور ووحده يملأ رئتيّ بكلّ عطوره:
حَيَّا نَسِيمُكَ يَا عِرَاقُ فَأَحْيَا = = نَخْلًا بِرُوحِي وَانْتَشَتْ أَعْذَاقُ
ورأيتني نخلة تنشدّ إلى سماء العراق وتشتدّ بتراب العراق وتحرّك سعفها نسمات العراق. حبّا حلمت بك يا عراق، وها أنا على أبوابك والقلب يرفعني إليك وتغمر شمسك ظلّي ونسيمك ينعش روحي. فماذا أنشد في هواك عراق؟
يَمَّمْتُ حُضْنَكَ أَسْتَظِلُّ بِفَيْضٍ = = مِنْ رَافِدَيْكَ نَمِيرُهُ رَقْرَاقُ
فَتَهَاطَلَتْ غَيْمَاتُ وِدِّكَ أَنْدَى = = مِنْ كُلِّ غَيْمٍ وَالنَّدَى أَخْلَاقُ
العراق والشعر المربديّ وآلاف الأجنحة ترفع قلبي وبراق الوجد يعرج بي إلى سماء لا تخون أدعيتي ورجائي. وهل غير الشّعر نافذة القلب إلى الأوطان والذّكرى وحافظ الذّاكرة من الضّياع؟
والمربد الحلم، نافذة على عوالم الشّعر الأرحب والأصوات المختلفة من هنا وهناك، أصوات كثيرة توحّدها قوة الشّعر، طوائف ومذاهب فرّقتها الأمكنة والآراء وجمعها الشّعر في بيت واحد، بيت القصيد هو المربد. مربديّون: أهواؤنا شتّى ومشاغلنا شتّى ضمّنا القصيد وجعل كلّ واحد منّا بيتا في معلّقته.
ومن أين تبدأ رحلة الكلام حين يستقبلك المهرجان؟
المربد الحلم صار واقعا. فكيف تتجمّل الرّوح للافتتاح وللقراءة وللسّماع وللتّصفيق؟ ما أقدر المربد على إرباكي، وعلى إسعادي! وما أقدره على لمّ شتات الشّعراء وشتات كلّ واحد من الحاضرين!
اجتمع شتاتي بي وجمعتُني روحا وفكرا وسرت مع السائرين للافتتاح في جامعة المعقل، مبنى فخم يليق بالشّعر والشّعراء ومحبّي الشّعر الّذين جاؤوا بأعداد كبيرة. وكان الافتتاح بتنوّع فقراته نوافذ أخرى على العراق والبصرة أطللت منها على ثقافة أعرفها وكأنّني لا أعرفها. هي في ذهني ولكنّها دغدغت في داخلي أنغاما أخرى لم أكن أدري أنّها قد تستفيق لتنشدها روحي بتلك النّشوة. طربت للنّغم السمفوني الصّاعد بعزف الجيل الجديد، وترنّمت بالنّغم العراقيّ التراثيّ الباقي أثرا لا تمحوه الأزمنة. وانتشيت بقصائد الافتتاح، ورأيت المنبر يهتزّ للأصوات: العراق، سوريا، السّودان، إيران ... عدنا جسدا واحدا لا نتفرّق ولا يحدّ خرائطنا حدّ مهما تشعّبت الرؤى والآراء.
هذا المربد قد فتح ذراعيه لموسم الشّعر فهاتوا قصائدكم وصفّقوا أو ارفضوا فسيظلّ الشّعر مظلّتنا نحتمي بها مهما اختلفنا حول جودته. وكفى الشّعر أنّه حامل لمشاغلنا ومشاغل قلوبنا وأوطاننا ومبلّغا عنّا بين البلدان ومسافرا بنا إلى إشراقة الغد.
وكما فتح المربد ذراعيه للقاء الشّعراء من كلّ مكان فتح الأمكنة للشّعر فامتدّ صوت الشّعراء إلى الزّبير وجامعة القرنة وجيكور ونهر البويب وازدهت البساتين وضفاف شطّ العرب بالشّعر. وها الشّعر يحلّق فوقنا ويمدّ البساط لخطانا لنمشي أو نطير ما شاء لنا الشّعر إنشادا وسماعا واستحسانا وترديدا لبعض القوافي كما لو كنّا القصيدة أو بعضها، وما كنّا إلاّ حروفا من ضياء نصطفّ أسطرا تأتلق في أحداق الشّعر. وهل أروع من أن يصير الشّاعر نصّا وظلاًّ لاً يتلاشى مهما أعتم اللّيل؟
تمادت ظلال الشعر نتفيّأ قوافيها تتحدّى الوجع والنّكبات. وركب فرسان القوافي صهوة الشّعر تحدّيا لكلّ أوجاع البلاد والعباد، وصَفَا صوتُه فصهل في تجاويف الرّوح يقارع اللّيل والظّلام والظّلم ويبتني صوامع الإنسان والإنسانيّة بعيدا عن الزّيف ويغرس آلاف النّخلات في الصّحارى ويرفع الأشرعة في البحار ويقيم الصّلاة في هياكل الإنسانيّة بلا حدّ ولا جغرافيا ولا فوارق لغة. هكذا الإنسان حيثما الشّعر صدح وحيثما الوجع الواحد.
أوجاعُنا باتَتْ تُوحِّدنا = = والجرحُ فينا دَمُّهُ حَطَبُ
وامتدّت مساحات الشّعر وانفتحت على الإنسان تستجلي همومه ومشاغله في حياته اليوميّة. ويكفي أن تقف على شطّ العرب لترى الإنسان في بساطته وفي معاملاته وفي تحيّته وفي ابتسامته لوجه الغريبة وللهجتها الواضحة الآتية من تونس. فيكفي أن أقول: "عسلامة" لأسمع "يعيشك أو برشا". وأسعد لهذه اللكنة في لهجة العراقيّ تنطق بلفظ أو لفظين وكأنّ قنديل علاء الدّين السّحري قد أطلق من جوفه رسائل الحبّ أكواما.
وبدوري أحاول التغنّي بالعراق وبلهجة العراقيّين فلا تطفو إلاّ أنشودة المطر على لساني:
أصيحُ بالخليج
يا واهبَ الَّلؤلؤِ والمحارِ والرَّدى
وأسمع الصَّدى مِن لُجَّةِ القرار
وينثرُ الخليج مِن هِباتِه الكِثار
وعند شطّ العرب وقفت أقلّد وقفة السيّاب وأراقب بعينين ملء الماء والملح مشاهد من مزيج الدّمار والعمار وأسأل: هل يرمّم الشّعر انكسارات الإنسان فينا؟
وتبعت الشّعر والشّعراء وتابعت القراءات والجلسات العلميّة واخترت أن أتنقّل إلى الأمكنة الأبعد لأرى وجه البصرة، فحضرت أصبوحة الشّعر في الزبير، واخترت القراءة على منبر جامعة القرنة على بعد عشرات الكيلومترات من الفندق الّذي يحتضن المهرجان.
وكان حلما لا بدّ من أن أحياه واقعا. أن أرى ملتقى الرافدين وأن آكل سمك المسكوف المشويّ على ضفاف شطّ العرب. وتحقّق ذلك. بل تحقّقت الرّحلة في الماء في مناسبتين على ظهر زورق طاف بي من ملتقى النهرين إلى شطّ العرب وتكرّرت الانتعاشة من الغد لوقت أطول كرما من صديق عراقيّ. وانتشت الطّفلة داخلي على وجه الماء وانطلقت الضّحكات واسقرّ الفرح في القلب جداول ماء منسابة.
كيف للماء أن يغسل كلّ التّعب هنا، وأنا قد جئت من مدينة تعوم على الماء؟ لم أكن يوما حوريّة موج ولكنّي أحسست بأنّي كذلك وأنا في شطّ العرب والقارب يشقّ الماء ويبعد المدينة حينا ويقرّبها حينا.
وعلى القارب اقترب الإنسان بالإنسان واجتمعنا من تونس والأردن وسوريا ولبنان والعراق لنتحدّث عن الشاغل المشترك الّذي قرّب بيننا وفتح في قلوبنا نوافذ الأمل. وحلمنا بنفس القصيدة تجمعنا على أمل ذات يوم.
كبيرة جدّا البصرة وخاصّة في اللّيل. رأيت شوارعها المضاءة وزحمة الطّرقات والمسافات البعيدة والمحلاّت التّجاريّة المنفتحة بكلّ الألوان والأضواء. وفي البصرة كرم لا مثيل له. وقد كانت الابتسامة تكفي لتكون الرّحلة مريحة وممتعة.
وليل العراق جميل، تسرجه الأضواء. ويفتح تحت سمائه المقمرة نوافذ أخرى لخطوات الماضين في اللّيل عبر طرقاته الواسعة في بغداد. كم سأمشي في ليلك يا بغداد! وكم سأسمع من حكاياتك! جميل ليلك بغداد فكم يخفي من البؤس الّذي رأيته في العابرين بطرقاتك نهارا!
ربّما نسيت أن أنظر إلى البنايات العملاقة وإلى الشّوارع الواسعة وإلى الحدائق والمقاهي والمحلاّت. وربّما نسيت أن أراقب السيّارات الفاخرة الكبيرة الّتي لا أعرف أنواعها. وربّما نسيت شارع الرّشيد والمتنبّي، وشارع أبي نواس والجسور على دجلة. وربّما نسيت أن أعدّد الأصبوحات الشّعريّة في كلّ مكان في بغداد، ولكنّي ما نسيت وجوه السّائلين ولا ماسحي الأحذية الّذين يصيرون شجرا عند الشّجر الواقف أمام المقاهي، شجرا متحرّك اليدين كغصنين تؤرجحهما الرّياح يجدّان في العمل لأجل لقمة العيش.
وكان يراودني السؤال عن المتسوّلين والمتسوّلات: لماذا كثر عددهم في عواصمنا؟ عندنا أيضا لا يمكن أن نمرّ في شارع من شوارع العاصمة إلاّ وقد مررنا بعدد من المستجدين البائسين ذوي الوجوه الغائمة. بلا ملامح هم، كأنّهم ليسوا من طين الأرض الّتي نبتوا قرب جدران منشآتها. ماذا يحصل لعواصمنا؟ ولنا؟ وللإنسان؟ وللأوطان؟
أغرق في السّؤال بيني وبين نفسي، ثم أنعش أفكاري بقهوة ونسمات ليليّة تخفي الوجوه وتوقظ الحزن السّاكن في الطّرقات.
ثمّ أعود للاحتفاء بالشّعر، وماذا يقول الشّعر لبغداد في عيدها؟ وما في نفسي لبغداد وللعراق شوق وحنين لصور كنت رأيتها في صباي وظلّت عالقة في ذاكرتي، فأتغنّى بصور قديمة عساها تخفي حزني تجاه ما رأيت وأرى في أوطاننا الضائعة خلف ضباب الرؤية وبعد البصيرة عمّا يكابده الإنسان حين يصير التراب ناكرا لوجوه الإنسان.
وتطلّ عليّ جدّتي الأولى تذكّرني بهجرتها من أرضها وعبور البحر إلى أرض انغرسنا فيها مع مفاتيح العودة بلا عودة فقد صرنا الشّجر الواقف في هيئة الأبواب المنتظرة لمفاتيحها خلف البحر في ضفاف لا ضفاف لها ولا مرافئ تستقبل أحفاد من كانوا أهل البلاد.
وعدت إليّ، أحملني وأتفرّس في ملامحي الّتي غامت وراء الفكرة. من أنا؟ حتّى وجدتني من جديد أطلب من "رجل المطار":
= "أريد مكانا قرب النّافذة".
= "لك ما تريدين. يبدو أنّك تخافين ليل السّفر".
فابتسمت. وأضاف: "رحلة ممتعة".
كانت رحلة ممتعة فتحت كلّ نوافذ العالم على أسئلة الإنسانيّة. وهل يبقى من مهرجانات الشّعر إلاّ الإنسان وهو يطلّ على الإنسانيّة من نوافذ الخوف أو التحدّي منتظرا رياحا طيّبة تكنّس العثرات وتعيد الأجساد إلى طينها الأوّل؟
= = =
- الشاعرة وهيبة قوية
◄ وهيبة قويّة
▼ موضوعاتي