عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 
أنت في : الغلاف » أرشيف أعداد عـود الـنـد » الأعداد الشهرية: 01-120 » السنة 9: 96-107 » العدد 100: 2014/10 » ثقافة الصورة: من الاستعراض الاجتماعي إلى البكاء الجماعي

ملف ثقافة الصورة: سعاد العنزي - الكويت

ثقافة الصورة: من الاستعراض الاجتماعي إلى البكاء الجماعي


سعاد العنزيبعد ثورة وسائل التواصل الاجتماعي المتعددة (فيس بوك، تويتر، انستجرام، تانقو، فايبر وغيرها)، أصبحت للصورة أهمية كبرى ومتزايدة في حياتنا علاوة على إلى أهميتها السابقة الكامنة. بالإضافة إلى استخدامها الإعلامي، تستخدم اجتماعيا لحفظ ذكريات الأفراد، والأسر، وبقية مكونات المجتمع.

والعديد من ألبومات الصور خير مثال على ذاكرة حية ومحملة بذكريات عائلية تحمل بداخلها العديد من الأجزاء المكونة للسرديات الشخصية والجماعية، كمناسبة زواج، أو ولادة طفل، وسفر ، أو حضور فعالية مفرحة، عائدة لفترات زمنية قريبة أو بعيدة، بينما يغيب عن هذه الألبومات، غالبا، ذاكرة الحزن الشخصية المزامنة للأحداث المحزنة، وكأن الصورة في الماضي كانت قرينة الفرح والبهجة. هنا تتحقق الصورة كما يقول رولان بارت (1981): «أدبيا نتيجة للمرجع من جسد حقيقي كان هناك، ينبثق عن التقاليد التي تمسك بي تلامسني، وأنا هنا».

في الوقت الراهن، أصبحت للصورة أهمية قصوى في حياتنا الاجتماعية والإعلامية والسياسية والاقتصادية. بهذه المقاربة المتواضعة سأعرض لبعض أغراض استخداماتنا للصورة في الوقت الراهن، وتحديدا في مواقع التواصل الاجتماعي مثل فيس بوك تويتر والانستجرام و الواتساب. ولابد من التوضيح أن الغالبية العظمى تستخدم الصورة الواحدة في جميع هذه البرامج، فليس هناك فرق إلا بالوسيط، بينما الغرض والرسالة المقصودين متشابهان. وما استخدامها بأكثر من وسيط إلا للحصول على أكبر شريحة من المتابعين الممكنة لتحقيق الأثر المرجو بذهنية ناشر الصورة.

عنوان هذه القراءة "ثقافة الصورة من الاستعراض الاجتماعي إلى البكاء الجماعي" يحاول رصد العديد من استخدامات الصورة في الثقافة الخليجية المعاصرة. أقول الخليجية لمتابعتي لحسابات الخليجيين، وهذا لا يعني أبدا إن حسابات العرب تختلف كثيرا عن الخليجيين، ولكن مادتي المطلع عليها كانت للخليجيين، ولإيماني بأن لأهل الخليج مكوناتهم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية المتمايزة عن العرب إلى الحد الذي بإمكاننا نسميه اختلافا.

العنوان ذو دلالة مباشرة لما أحاول تأكيده من كون الصورة وسيلة للعرض الموجه بقصديات متعددة، منها الاستعراض الاجتماعي والثقافي، والتسويقي، والتأثيري. تتنوع هذه الاستخدامات وصولا إلى كونها وسيلة للبكاء على الموتى (Mourning the dead) وإثارة الحزن الجماعي على المفقودين والمقموعين من جانب، كما تهدف إلى التأثير على الرأي السياسي العام، من شأن مصلحة حزبية معينة عن الفرق السياسية المتبنية للأيديولوجية.

الاستعراض الاجتماعي:

ما أقصده بالاستعراض الاجتماعي هو استخدام صورة ما بغرض العرض للآخر المجتمعي ما يملكه الفرد من مقتنيات مادية أو ملكات ثقافية فكرية تجعل من هذا الشخص نموذجا ومثالا اجتماعيا، أو ثقافيا يعرض ما لديه للآخر.

وتطبيق هذا المصطلح ،حقيقة، من الصعب الحكم فيه والدخول في ذوات الأفراد، ونواياهم، ولكن طريقة استخدام الفرد لها تكشف عما يكون الهدف: للعرض ولتشارك المنفعة أو لمجرد الاستعراض لتأكيد مكانة اجتماعية ما من باب التفاخر بالملكية، و لإثبات عدة امتيازات يسعد الفرد بعرضها على مفرش الثقافة الرأسمالية للآخر.

ومما يعزز هذه النظرة هو قلة رؤية صور عفوية للبعض، أو زيا عاديا لمن يصور وهو يرتدي لبعض الماركات، وهذا يعكس إما أن الفرد يعيش بنسق واحد لا يغيره، أو إنه لا ينشر الصورة إلا بمستوى محدد يريد أن يعرضه للآخر، وبشكل عام يعرض لمستوى الأناقة الخليجية العالية العاكسة للثراء والتركيز على الطابع الشكلي لدى الكثير.

أكثر ما تكون هذه، أيضا، في عرض الولائم وأنواع الأكل المتعددة التي تقدم، وطبيعة ونوع الأكل إن كان شرقيا أم غربيا، هنديا، وغيره، وهو بالطبع يعكس الانفتاح الثقافي على الآخر بالأغذية، بل في أحيان كثيرة نجد التوق والشوق يزداد للأكل الغربي، ويصل لدرجة إيصال رسالة خفية للآخر بأنه منفتح ويعيش طقوس الثقافة الغربية بالغذاء، وبالتالي بالفكر والمعرفة والزي.

يبقى التحقق من هذه الفرضية بالبحث الأكاديمي الذي يأخذ هذه العينات ويبحث في آليات تفكير أفرادها: هل تتوافق وانفتاحهم على الآخر بالزي والأكل والسفر، أم أنهم فقط اكتفوا بالتماهي مع البنية السطحية للثقافة الغربية، واتخذوا من معطيات ثقافة الآخر الشكلية زيا حضاريا يتزيوا به؟

من جانب آخر، صور البوفيهات المتنقلة في المناسبات الاجتماعية الصغيرة، كالولادة، ونجاح الأحفاد وأعياد الميلاد والعودة من السفر، وعكسها لحالة اليسر المادي المعروضة بمبالغة كبيرة حتى لو لم يمتلكها البعض، ولكنها محاولة لمجاراة المجتمع وتقليده لكيلا يسقط الفرد من هذه الصورة الجماعية المجمع عليها والتي تفترض مثاليتها في ذهنية هذه الشرائح المجتمعية.

من الممارسات الاستعراضية أيضا كثرة الصور في وقت السفر لتبين للآخر نوعية الأماكن التي يزورها الفرد، فتجد أنه في كل مكان يصور وينشرها للآخرين، فلا يفكر في أن يصور في هذا المكان إلا لوجود وسائل التواصل الاجتماعي ومجموعة من المتابعين القابعين في ذهنية الشخص.

وهذا لا يعني إن الصورة تم تصويرها من أجل الاستعراض، بل هي من العرض والاستعراض، ويصعب فيها الحكم أحيانا. فأكثر ممن يصورون في أماكن طبيعية أو أثرية يهمهم الصورة نفسها ولا يعطون هذا الأثر اهتماما ورغبة صادقة في معرفته، لدرجة إن البعض يأخذ صورة أمام تمثال يرمز لقضية نضال وكفاح إنساني لا يتوق إلى معرفتها، بحيث تتبين إن علاقتنا مع التاريخ علاقة تعارف سطحية قابلة للنسيان.

هذه النقطة ترتبط تماما بتصوير اللبس، ولبس الماركات العالمية تحديدا، فالصورة أيضا تعكس استعراضا للآخر بنوعية الزي الذي يرتديه الغالبية، حيث يشير إلى سقوط الكثيرين في عقدة الماركة العالمية. وما الصورة هنا إلا صورة عاكسة لهذه العقدة. ولأضرب مثالا عالقا بذاكرتي صدمني لشاعرة من الخليج، وضعت صورة حقيبتها من ماركة (Louis Vuitton)، وصورة تذكرتها التي تبين إن مقعدها في الدرجة الأولى.

هذا السلوك الصادم من الاستعراض محكوم بحالة من القهر المجتمعي عندها. وهي الشاعرة التي تعتبر نفسها حداثية ومتطورة، وتقدم شكلا متقدما من الأدب وتتبنى النزعة الإنسانية، والثقة العالية بما تطرح، وتحدي الآراء المهزوزة. إلا إنها خضعت كما خضع الكثير، وربما تكون كاتبة هذه السطور من بينهم، لثقافة العامة من التفاخر (Showing off). يبقى التأكيد على رفض أن يصل الأمر لدرجة الاستعراض والتأكيد للآخر، كما فعلت صديقتنا، فالصورة هنا أتت للاستعراض المحض للبس الماركة وارتياد الدرجة الأولى.

هذه العقدة الطارئة التي تعيشها المجتمعات الخليجية في لبس الماركة، لم تكن منتشرة في الماضي كما هو الحال الآن. مما يستدعي البحث في عوامل تشكلها المرتبطة ارتباطا كبيرا بالثراء الحقيقي أو المتصنع. كما أنها تعود لطغيان المظاهر الشكلية على المجتمع، والاهتمام بالماديات على حساب القيم الروحية والإنسانية.

السبب الذي لا يقل أهمية عن العوامل السابقة هو انتشار العولمة وانتشار الشركات العالمية في كل دول العالم ولا سيما دول الخليج العربي، فخلقت من شعوبها مجتمعات استهلاكية محضة، فالعولمة استطاعت أن تجعل العالم محكوما بنظام واحد، بحيث تتشابه نغمة الهاتف، وتنعدم الخيارات بين هاتف من شركة (سامسونغ أو أبل)، والغالبية العظمى إما يلبس ماركة أو تقليدها، إما منتج المركز الأوربي أو الأمريكي، أو إنتاج الشرق الأقصى: الصين واليابان وتايلند، البلدان النازعة لمركز جديد.

ينبغي أن أؤكد، إن نقص الوعي على مستوى الهوية الفردية التي تريد أن تشبه الجماعة، وتعتبر أي اختلاف عنهم هو انتقاص لكيانه، حتى لو كان اختلافا يحقق للفرد استقلاليته هو سبب مفصلي لفهم هذه الحالة من التقليد والتبعية وعدم استيعاب الفرد لظروفه الخاصة، ولفت النظر إلى أهمية سك سمة خاصة لهويته الفردية، وما الزي إلا إحدى معالمها الخارجية.

كما إن ازدياد سطحية الفرد، وغلبة الأنا الأعلى الذي حدد صفاته هذا المجتمع، جعلته يسير مقهورا وفق الصورة الجمعية المنتشرة للمثال في المجتمع. فالأمر بالنسبة لي أجد تفسيره في ما يؤكده الفيلسوف السلوفيني سلافوي زيزيك بأن خلف كل شكل من أشكال المتعة في المجتمع المعاصر، خلوقة أو آثمة كان شرعيا أو غير شرعي، "أنا أعلى" يوجهه.

ما أحاول قوله هنا إن الصورة الاستعراضية أمام الآخر شكلت عبئا ماديا على الفرد، كما شكلت رعبا اجتماعيا مؤثرا على سايكولوجية الفرد بدلا من الأريحية المفترضة في التفاعل مع الآخر.

الغرض الاقتصادي التسويقي

من ضمن أغراض استخدامات الصورة الغرض الاقتصادي من خلال التسويق التجاري للبضائع بأشكالها المتعددة فيتم عرض البضائع والمتاجر والمشاريع الصغيرة والكبيرة للمتابعين. هنا النية التسويقية والوظيفة البراجماتية حاضرة كما يقول رولان بارت: « صورة الإعلان صريحة أو على الأقل تأكيدية" (١٩٧٧، ص:153).

ولنأخذ هذه الميزة من منظورين. المنظور الأول إنه مما لا شك فيه أن الصورة لعبت هنا دورا هاما في اختصار الطريق أمام المتسوقين، فأصبح كل شيء مطروح بالإنترنت، مما يوفر الوقت والجهد. لكنه من منظور آخر فتح باب انغماس المستهلك في هذه الثقافة المادية المحضة وشغل الوعي العام بقضايا سطحية بحتة. لدرجة إن الحديث الجماعي أصبح عن البضاعة هذه أو تلك، وحلوى «س» من الطباخين، وأزياء «ص» من المصممات اللاتي شغلن الفضاء التجاري والجمالي أيضا.

ومن الأغراض أيضا تسويق المؤلفين لكتبهم الصادرة حديثا، وحتى القديمة، وهو ما قام به الكثير من المبدعين والمؤلفين بالإعلان عن إصداراتهم الحديثة، وقد اخترت من هذه الغاية سببا لضرب مثال على ازدواجية سلوك ثقافي يمارسه العديد من المثقفين ومن بينهم المؤلفين، بأن يحمل بين طياته الإيجابي والسلبي معا. وقد يتبعها تصوير أيضا لمقالة نقدية منشورة عن هذه الكتب كعامل معزز لتسويق الإنتاج.

والنوع الثاني من عرض الآخر لصور الكتب يكمن في عرض كتب الآخرين من المثقفين والمفكرين والفلاسفة أو اللوحات الفنية مما يشير بشكل مبدئي لاطلاعهم الواسع، لا سيما إن كانت أسماء ذات شهرة وحضور بالفكر العالمي. ولكن ثمة إشكالية هنا، هل هذه الثقافة المعروضة استعراضية أم حقيقية؟

وأرى في حالة الأكاديمي الفرنسي بيير بايار الذي كتب كتاب بعنوان صادم للأوساط الثقافية في فرنسا هو «كيف نتحدث عن كتب لم نقرأها؟» خير مثال لتوضيح ما أقصد. نقل بايار بكتابه خبرته في التعامل مع الكتاب وتاريخ أسرته الثقافي غير الحافل بموروث راسخ في عملية القراءة، فأصبحت القراءة بالنسبة له نشاط غريب.

لنربط هذه العلاقة التاريخية بين القارئ الخليجي والكتاب، فهي شبيهة بحالة بايار في تجربته مع القراءة، نظرا لحداثة الثقافة في الخليج. بايار على حد قول أبو بكر العيادي في عرضه للكتاب:

«يعترف أيضا أنه لم يقرأ للكتّاب الكبار، من أمثال شكسبير و جيمس جويس وفلوبير وبلزاك إلا الأعمال البارزة، ويرى أن ذلك كافٍ للحديث عنهم وإبداء الرأي في إنتاجهم، شأنه في ذلك شأن كل عارف بتعرّجاتها ومضامينها ومراميها».

وهو أيضا، بحسب تعبير العيادي، استطاع الانفلات عن النموذج المهيمن للثقافة الشاملة الكلية القسرية من قبل العائلة والمؤسسات التعليمية. ولكن هذا، كما يؤكد العيادي، وأوافقه تماما فيما ذهب إليه في نهاية عرضه للكتاب، أن هناك ردة فعل غاضبة في الأوساط الثقافية الفرنسية رافضة هذا الفعل على اعتبار إنه تحريض وتشجيع على الإقبال على الثقافة السطحية، ونبذ القراءة.

ما سبق عرضه عن بايار يدفعني لربطه بحال كثير من المدعيين من المثقفين العرب والخليجيين. وحالة بيير بايار، اعتبرها، مرآة عاكسة حال نسبة كبيرة من المثقفين في الخليج ذوي الخبرات القرائية البسيطة وذات المظاهر السطحية في أحيان كثيرة من الاستشهاد بمقولة أحدهم وصورة لكتاب ما، من دون تأمل وتأثر واضح بهذه المضمونات الكفيلة بتحقيق وعي جيد، وإن تحققت القراءة لها فهي قراءة ظاهرية لا تمس العمق، وتكتفي ببعض العبارات الخالية من الوزن الثقافي القيم.

الصورة وسيط لنقل المشاعر:

من ضمن استخدامات الصورة أيضا أنها تغدو في بعض الأحيان وعلى حسب سياق استعمالها معادلا موضوعيا لمن يختارها، فالاختيار لا يكون عفويا بل له قصدية كبرى، لتحقيق غرض في الذهن، أقلها التعبير عبر وسيط بصري عما يجول بخاطر المرء.

لوحة سوزان ياسينسأختار على سبيل المثال صورة من حساب الانستجرام للكاتبة والأديبة العمانية بشرى خلفان التي استخدمت لوحة الفنانة التشكيلية سوزان ياسين. اللوحة فعلا فيها طاقة تعبيرية هائلة حول الحالة التي تشعر فيها المرأة المنقسمة إلى ثلاث نساء، من قرف من الآخر، أو من أناها الآخر، فالصورة تعبر عن أنوات متعددة لشخصية واحدة. استخدمتها الكاتبة لنقل مشاعرها تجاه الآخر عبر وسيط الصورة، من خلال تعليقها تحت الصورة: "هكذا أشعر أحيانا. لا أريد أن أسمعك. لا أريد أن أراك. ولا أريد أن أتكلم معك."

وهذا ما هو إلا مثال من أمثلة على استخدام الصورة في التعبير عن الذات وعن الآخر، ولوضع الرسائل الضمنية فيها لتعبر عن حال الفرد، ومن دون كلام مباشر عبر إرسال رسائل ضمنية من خلال الصور المختارة.

الصورة والبكاء الجماعي:

من أكثر الصور شيوعا، بعد ثورات الربيع العربي ، صور العنف الناتج عن الحرب كالقتلى والجرحى والمحاربين والصور العارضة لبؤس وفقر لأطفال في الملاجئ وكثير من الصور المتزامنة مع الحروب، وما بعدها، مكونة الذاكرة التصويرية للحرب وما بعدها. الهدف من هذه الصور هو التأثير على الأفراد، والرأي العام بهدف التغيير، وتحصيل تفاعل إيجابي. تتحقق من خلال ذلك قيمة إيجابية لاستخدام فن الصورة في وسائل التواصل الاجتماعية، لا تقل أهميتها عن الكلمة المكتوبة بل هي أشد تأثيرا من الكلمة لمباشرة تحقيق التأثير.

لوحة سوزان ياسينلو نظرنا للوحة الفنانة سوزان ياسين المعنونة بـ «الشهيد»، سنجد فيها طاقة تعبيرية كبيرة للدلالة على الموت المكتسح للأب وطفله. تمثلت الموضوعة الحافل بها النص في الموت الجماعي لأجيال متعددة. والغريب في هذه اللوحة هو حالة الهدوء والسكينة والسلام الداخلي المرسومة على وجه الشهيدين، تثبت أن لا راحة إلا الموت في حالات الحرب وانعدام الخطاب الإنساني الحقيقي في العالم.

مثل هذه اللوحة في حالات الحروب والإبادات الجماعية هي أثر للعابرين كما يقول ماريين هاريتش: «الصور تكون آثارا رمزية، ودلالية، أو ارتباطات مادية للناس الذين لم ينجوا». فصورة مثل هذه ، تشكل ما يسميه ماريين هاريتش «خليطا خاصا من البكاء و إعادة الخلق المميز لعمل ما بعد الذاكرة». وهي مؤهلة لتحقيق أثر كبير في نفس متلقيها، بسرعة قصوى.

إلا إنها ليست أكثر أهمية من نصوص الأدب، لأن الأدب من خلال فن الصورة اللغوية لديه من الطاقة على التصوير الفوتوغرافي الحي ما توازي فن الصورة. الاختلاف، بالنسبة لي، يكمن بالوسيط فقط. لوحة ياسين الصادقة والمؤثرة بوجهة نظري تتماس بشكل كبير مع ما تقوله الأديبة الأردنية، ريما حمود، في قصة «ضجيج وصور» عن حالات العنف الناشئة عن الحرب:

«أفزع، أجلس في فراشي قلقة، ألجأ للتلفاز، أفتحه، يركض كل الأطفال المذبوحين إلي بلا أذرع، بلا أقدام، بلا أعين، بلا رؤوس، يلتفون حولي، أغير القناة، أتوقف عند شاب راقص قافز بصوت نشاز، أرفع الصوت، يقف الأطفال حولي ذاهلين، يحدقون بي، أتجاهلهم وأرفع الصوت أكثر، يخزني أحدهم في كتفي، يضع آخر ما تبقى من رأسه في حجري، أرفع الصوت أكثر، فأشعر بدمائهم حارة لزجة تنساب تحت قدمي، أرفعهما عن الأرض، تقترب طفلة بدماغ مكشوف تضع رضيعا بين يدي يبكي بحرقة كلما علا صوته تدفع خيط دم رفيع من مكان رصاصة استقرت في رأسه إلى يدي إلى ثوبه". (بالونات، ص46).

المقطوعة اللغوية السابقة وصفت صور العنف، وبينت أثر هذه الصورة على نفس الساردة، وهو ما أعتقد أنه حدود فن الصورة، فعرض طبيعة التفاعل مع الصور، لا تستطيع اللوحة أو الصورة نقلها، بينما يفلح المحكي اللغوي في التبحر في عوالمه.

ولكن من المؤسف القول إن هذا الغرض المثالي والنبيل من استخدام الصور لإيقاظ الضمير الإنساني، قد ينحرف عن مساره بسبب الممارسة المغلوطة لخدمة أغراض سياسية وإعلامية وحزبية تقوم بتضليل الرأي العام باستخدام صور حقيقية أو مزيفة لتحقيق أجندات خاصة، مثلما راج بالفترة الماضية المزامنة لأحداث الربيع العربي من قضية صدق أو عدم صدق صور الأطفال المقتولين في سوريا بعد حادثة «الكيماوي» الشهيرة في بدايات الثورة السورية، أو في تقييم عدد المتظاهرين في كل قطر عربي، ومما لا شك فيه أن مثل هذه الصور كانت تحاكي العامة من العرب، وليس المختصين القادرين على مساءلة حقيقة الصور والتشكيك بصحتها.

مما لا شك فيه ورغم منغصات الاستخدام الأيديولوجي المتطرف للصورة، فإن الاستخدام الإنساني المحض له الأثر الكبير في توعية الشعوب بمخاطر العنف والظلم. الصورة فجرت إحساس المواطن العربي والعالمي أيضا بالأشياء المقموعة في حياتنا المعاصرة، بحيث تدق دوما ناقوس الخطر، تذكرنا بدورنا الإنساني كما ذكرنا محمود درويش بنظرته الفلسفية الإنسانية من قبل:

وأنتَ تُعِدُّ فطورك، فكِّر بغيركَ

لا تَنْسَ قوتَ الحمام

وأنتَ تخوضُ حروبكَ، فكِّر بغيركَ

لا تنس مَنْ يطلبون السلام

وأنتَ تسدد فاتورةَ الماء، فكِّر بغيركَ

مَنْ يرضَعُون الغمامٍ

وأنتَ تعودُ إلى البيت، بيتكَ، فكِّر بغيركَ

لا تنس شعب الخيامْ

وأنت تنام وتُحصي الكواكبَ، فكِّر بغيركَ

ثمّةَ مَنْ لم يجد حيّزاً للمنام

ها نحن أمام فوضى العنف وعشوائية الألم تختلط مشاعرنا بتناقضاتها تجاه استقرارنا وألم الآخر، كما أوضحت القصة المشار إليها أعلاه، فبعد رؤية كل صورة مؤلمة، نجد أسئلة الوعي تضرب في قاع ضميرنا وتشعرنا بمنغص في هذه الحياة، وتنمي إحساسنا بالآخر، وهذا دور وظيفي عظيم تلعبه الصورة في اقتصاديات الضمير الجمعي وتوجيهه بالشكل المناسب.

وبعد، قدمت في هذه القراءة الأولية، لبعض ممارساتنا الثقافية في الخليج العربي المعكوسة من خلال فن الصورة. ولا أنفي إنها قد تتطابق مع نفس استخدامات بقية البلدان العربية. أيضا أود أن أؤكد إنني لم أقدم قراءات تحليلية بنيوية لمكونات الصورة بوصفها مكون شكلي ومضموني تستحق التحليل. وهذا يفسر عدم استخدامي للصور كثيرا، ولكني قدمت الصورة بوصفها دالا يفسر مدلولا في السلوك الاجتماعي، وهوية المجتمع.

هذه الأغراض المعلنة والخفية جميعا تبين الصورة الجمعية للمجتمع، القابعة بين المجتمعات المترفة، الغارقة في الشكلانية، والمقموعة والمقهورة اجتماعيا لتتبع سلوك الآخر، وتقديم نموذج المغلوب. كما تدرجت هذه الاستخدامات لتبين تعدد أهداف استخدام الصورة، والتي لا تختلف عن الكتابة أو الصورة السينمائية، ولكنها تتميز بسرعة تحقيق الأثر اللحظي والمباشر.

من المهم، أيضا، التأكيد على إن هذه المقالة تبحث في الثقافة العامة (Mass Culture) وليس في الحالات الفردية المتمايزة في أغراض استخدامها، والتي تشكل بالتأكيد حالات فردية مميزة تستحق تأملها وإضاءتها والتي أتمنى أن أستطيع أن أقاربها في المستقبل.

= = = =

المراجع

Barthes, Roland, «The Rhetoric of Image», from Image-Text. Sel. and Reans. Srephen Heath. New York: Hill and Wang, 1977. 32-51.

Barthes, Roland, Camera Lucida: Reflections on Photography, translated by Richard Howard (New York: Hill and Wang). 1981.

Marianne, Hirschs, «The Generation of Postmemory», Columbia University: Poetic Today 29:1 (Spring 2008).

بايار، بيير. كيف نتحدث عن كتب لم نقرأها؟ منشورات مينوي، باريس 2007.

درويش ، محمود. قصيدة « فكر بغيرك»:

http://www.adab.com/modules.php?name=Sh3er&doWhat=shqas&qid=69478

حمود، ريما إبراهيم. «بالونات»، مجموعة قصصية، دار نوفا بلس، الكويت، ٢٠١٤م.

العيادي، أبو بكر. «هل يجوز الحديث عن كتب لم نقرأها ؟»، صحيفة العرب: 12/11/2012

http://www.alarab.co.uk/?p=9765
D 25 أيلول (سبتمبر) 2014     A سعاد العنزي     C 1 تعليقات

1 مشاركة منتدى

  • المؤلم في ثقافة الصورة اننا لانجد نفس الضحكة مرتين ولكننا نجدد نفس الالم نفس الدمعة لنفس السبب في اكثر من صورة فصورة مسيحيي الموصل وهم يحملون اولادهم على ظهورهم سيرا على الاقدام هي ذاتها صورة السوري وهو يحمل اولاده في طريقه الى البوكمال وصورة هدم المباني في غزة بسبب القصف نفسها بالضبط لمبانٍ متهدمة بسبب القصف بالبراميل على الانبار .الالم ذاته والصورة ذاتها.ربما فقط بامكانك تمييز الشارع العراقي بالمفخخات التي هي اقل في بلد اخر والشارع المصري بالمتظاهرين و السوري بالجثث ليبقى الالم هو الوحيد الذي يوحدنا.


في العدد نفسه

كلمة العدد 100: عود الند تضيء 100 شمعة

"إمبراطورية النظرة المحدقة"

جدارية جرنيكا لبيكاسو

ثقافة الصورة: ما لها وما عليها

المفتاح في كاريكاتير أمية جحا