الصفحة الأخيرة - عدلي الهواري
هموم أكاديمية: النظرية/الإطار النظري
التحيز في الوسط الأكاديمي للنظرية والتنظير كاسح، خلافا للحال في الماضي القريب.
كان من الممكن للراغب/ة في إجراء بحث للحصول على درجة الدكتوراه الذهاب إلى مقر الأرشيف الوطني، أو أرشيف مؤسسة رسمية، كوزارة الخارجية مثلا، للتعمق في موضوع ما من خلال دراسة وثائق أفرج عنها أو يسمح للباحث/ة بالاطلاع عليها.
وبعد أن تتم دراسة الوثائق، تكتب رسالة تشمل أقصى ما يمكن معرفته عن الموضوع، دون أن تكون هناك حاجة لدراسته أو عرضه وفق نظرية من النظريات الشائعة في مجال الاختصاص، أو أن تكون خلاصة البحث تأكيدا لصواب نظرية، أو إثباتا لخلل فيها، جزئيا أو كليا.
من غير المرجح في الوقت الحاضر أن تمكن دراسة موضوع دون الاسترشاد بنظرية وعرضه ضمن إطار نظري، بل من لحظة تقديم مقترح البحث، صار مطلوبا الإشارة إلى البعد النظري للبحث.
تعلمنا في دروس الرياضيات بعض النظريات. على سبيل المثال، نظرية تساوي الزاويتين المتقابلتين بالرأس. يتم شرح برهان النظرية، وبناء عليها نحل المسائل في الواجبات والامتحانات.
بعبارة أخرى، النظرية في السياق العلمي لها صيغة محددة يمكن برهانها وتوظيفها في حل مسائل ذات علاقة. في الدراسات الإنسانية والاجتماعية (التي تسمى علوما أيضا) هناك ما يسمى نظريات، ولكنها لا تشبه النظريات الرياضية، فنظرية تساوي الزاويتين المتقابلتين بالرأس ليس لها مؤيد ومعارض. أما في العلوم الاجتماعية والإنسانية فما يسمى "نظرية" لها مؤيدون ومعارضون.
لنأخذ على سبيل المثال نظرية التحديث (modernization theory) التي تتعلق بدراسات التنمية، وكيف تنتقل الدول من مرحلة إلى أخرى أكثر تطورا. عندما تظهر نظرية من هذا القبيل قد تشتهر ويشار إليها كثيرا في الدراسات ذات الصلة، ولكن بعد فترة من الزمن تطول أو تقصر، تظهر نظرية مناقضة.
في سياق التنمية أيضا، انتقدت نظرية التحديث على أساس اعتبارها أن التطور يتم بشكل خطي، بمعنى أن الانتقال من مرحلة تنموية إلى أخرى يتم تلقائيا بعد اكتمال كل مرحلة، بينما الأمر في رأي معارضيها ليس كذلك. وظهرت مقابلها نظرية التعبية (dependency theory)، التي تحمّل الدول التي استعمرت الدول النامية المسؤولية، وتعتبر أنها صاغت الاقتصاد بحيث تكون الدول النامية معتمدة على المتطورة.
مثلما ذكرت في حديثي السابق عن مراجعة الأدبيات (انظر/ي العدد 101) وجدتني بحاجة إلى الإشارة إلى تعريف النظرية في الفصل التمهيدي من بحثي، حتى لا يقال لي إن هذه ليست نظرية، أو إن هذا ليس إطارا نظريا، مثلما قيل لي مرارا هذه ليست مراجعة أدبيات.
ولذلك، ذكرت في الفصل التمهيدي أن بروار (2000، ص 192) يعرّف النظرية بأنها "مجموعة مترابطة من الافتراضات حول الشؤون الإنسانية والعالم الاجتماعي تشرح نواظمها وخصائصها". ويضيف أن النظريات "ليست بيانات وصفية". ويشير هيوبرمان ومايلز (1994، ص 18) إلى أن دور الإطار النظري "تفسير الأشياء الرئيسية التي ستدرس—العوامل أو البنى أو المتغيرات الرئيسية—والعلاقة المفترضة بينها".
سوف نجد في أي دراسات اجتماعية وأدبية نظريات وليس نظرية واحدة. قد تجد/ين نظرية مناسبة لبحثك، ولكن اختيارك قد لا يلقى استحسان المشرف/ة، أو من تسند إليه مهمة تقييم مسار بحثك إضافة إلى المشرف/ة (هذه ترتيبات تحددها كل جامعة لطلبة الدراسات العليا).
عندما أنهيت البحث وبدأت كتابة الرسالة، وجدت أن أنسب إطار نظري لتفسير الظاهرة التي درستها هو تفسير رستو (1967) وما اعتبره متطلبات مسبقة لتحول المجتمعات إلى ديموقراطية. لمست اعتراضا على ذلك على أساس أنها قديمة.
كان رأيي في المقابل أن هذا لا يعني أنها لا تصلح كإطار نظري، فقد لا تفسر كل شيء، وهي بهذا لا تختلف عن غيرها، ولكنها تفسر بصورة أفضل من غيرها الظاهرة قيد الدرس. ليس كل ما هو قديم غير صالح، وإلا لتوقفت الجامعات عن تدريس الفلسفة الإغريقية على سبيل المثال.
مسيرة الراغب/ة في الحصول على الدكتوراه (والدراسة الجامعية عموما)، لا تسير في خط مستقيم، وحجم المعاناة قبل الوصول إلى الغاية قد يكون كبيرا. أسوأ مصدر للمعاناة هو الإشراف، فمن المحتمل أن تتعرض/ي من المشرف/ة لإحباط من خلال عدم الرضا الدائم عن إنجازك.
للمشرف/ة، نظريا، مصلحة في نجاحك، ولكن بعد فترة من الإشراف يتبين أن بعض المشرفات والمشرفين لن يهمهم مصيرك. ومثلما الحال في أشياء أخرى في الدنيا، ستلقى المسؤولية عليك لا على غيرك.
إذا كانت معاملة المشرف/ة لك فوقية أو دكتاتورية أو قائمة على الشك في قدراتك، سوف تكون مسيرتك نحو الحصول على الدرجة العلمية العليا كابوسا، هذا إذا تكللت بالنجاح.
وإذا كانت المعاملة مثل تعامل زميل/ة أكثر خبرة مع زميل/ة أقل خبرة، وفيها الكثير من التشجيع والثقة في قدراتك، لن تكون الرحلة سهلة، ولكن العقبات تكون من نوع مختلف، كأن تتعلق بتوفر المراجع مثلا. والتغلب على هذه العقبات أسهل بكثير من التعامل مع العقبات التي يضعها الأشخاص في طريقك، وخاصة عندما تكون لهم مسؤولية إصدار حكم يقرر مصير محاولتك الحصول على الدرجة العلمية المرغوبة.
= = = = =
Huberman, M. A., and Miles, B. 2002. The Qualitative Researcher’s Companion. Thousand Oaks: Sage Publications.
Rustow, D. A. 1967. A World of Nations: Problems of Political Modernization. Washington, DC: Brookings Institution.
◄ هموم أكاديمية: ع هـ
▼ موضوعاتي