عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

الطيب عطاوي - الجزائر

إليك أيها المبجل


الطيب عطاوينفسي فِداؤُك أيها المعلِّم المبدِّدُ نورُهُ ظلام الجهالة العمياء. نفسي فِداؤُك ونحن نقفُ عند بابك نرجو أن تغفر لنا زلاتنا وتمحو عنا عاراً دفيناً، ولامبالاة هضمناها.

فأيَّة أحرف وأيَّة كلمات تستطيع أن تفيك حقك أيها البطل المنقذ؟ يا من وقفتَ ولا تزال تعلِّمنا كيف نرسم مستقبل الأشراف، ونحذو حذو الأسلاف.

أيامنا تصلبها ذكرياتك الرائعة وأنت تطوف بنا عبر الأحقاب، بين الخِلان والأصحاب، فهل تُرانا نفيك حقك والخامس من أكتوبر [عيد المعلم] يمضي من كل عام؛ أم أنها أهواءٌ جعلتْ منه يوم لتذكُّرك؟

"زمانك بستانٌ وعصرك أخضرُ" أيها المعلم المعطاء، وتذكُّرك لا يسعه يوم أو أسبوع أو شهر أو عام، فأنت في سُويداء قلوبنا كل يوم تحوم. إننا نراك تعبر بنا السنين العِجاف لننزع عنا ما كان يحرقنا زمن النذالة، ويدخلنا أقبية الجهالة.

إننا مساكين في حضرتك أيها المربِّي المصلح، يا من تعبتَ وجاهدتَ وربَّيتَ. ذكرك في الخالدين عظيم، وأجرك عند الله كبير.

إن رسالة المجد جوفاء من دونك أيها الرُبَّان، فسُفننا غرقى في غير وجودك، فما بالها صغار العقول ونفوس الحمقى تهضم حقك وتقزِّم مجهودك؟ ألا تعي تلك العقول أنها كبرتْ ونمتْ، وأكلتْ وشربتْ، ونامتْ ونهضتْ تحت سماءٍ "أنت فيه اليتيمة العصماء" (الذرَّة الفريدة من نوعها)؟

من أين أبدأ وأين أنتهي يا من جعلتَ منا قادة ورؤساء وعلماء، ويا من حقنْتنا بمياه إصْرارك لنكون سادة وطلبة أوفياء، ويا من صنعتَ أجيالاً وأبطالا، يا شمعةً تضيء للسَّاري كل حين وتنيرُ دربه كي يصل برَّ الأمان؟

يا عظيماً في عرينِهِ يتربَّع، من أين أبدأ وأنت وليُّ نعمتنا وحامي وحدتنا؟ يا من طهَّرتنا من أضغانٍ صنعناها من تلقاء أنفسنا، و"خُزعبلاتٍ رضعناها من ثدي أمسنا".

أين نحن منك وأنت تاجٌ فوق رؤوسنا يلمع، وقمر ترنوه أبصارنا ويأبى أن يفارقنا؟ أين نحن منك يا رحيماً يعطف علينا كلما بلغت القلوبُ منا الحناجر، وطوَّقتنا بأرجلها الملوَّثة الصغائر؟

كيف لضمائرنا أن تستيقظ ولأفئدتنا أن تصحو ونحن نلهث خلفك بالكلمات الماحقات ذكرك، المقصيات حقك، السابيَّات قدرك؟

كلٌّ منا لعق من شهْدِك قبل أن ينفخَ نفسه الكِبْرُ، ويمحوَ ذكره القبرُ، فما بالها "أعين الجبناء لا تنام" لمّا أيقنتْ أنها لا تنفعها "شفاعة الشافعين" حينما تفكر أن تمدَّ أيديها على أرزاق الآخرين، وتُطعم لحومنا للحاقدين.

في حضرتك تستقيم الكلمات وتعلن عن فوضاها الحواس. في حضرتك نستسلم لما تمليه علينا أيها المعلِّم، نستسلم غير آبهين للزمن كيف يمضي من أعمارنا، وللساعات كيف "تمرُّ مرَّ السحاب"، نرضى بحُكمك كيفما كان، ونرضخ لقرارك علَّنا نستفيق من أوهامنا، ونحمل رايات حبِّك في كل مرحلة من مراحل تعليمنا.

لمن نشكو همومنا ونبث أحزاننا وموائد العاشقين ليس فيها ذكرُك؟ لمن نقرأ أعمارنا ونحن نستنشق من عطرك، ونأبى أن ننصاع وراءك لأنك معلِّم؟
لمن تكِلُنا أيها المضحِّي بحياته من أجل أن نبلغ العلياء؟ لمن تدعنا ونحن لا نساوي شيئاً في غير وجودك، ولا يطيب لنا الاستظلال تحت أشجار ليست تكسوها روائح طبشورك، ولا تغزوها نفائس حضورك؟

لمن تكِلُنا وألواح أطفالنا شاهقةٌ تنتظر تشجيعك وتوجيهك في آنٍ واحد؟ لمن تدعنا ومآزر تلامذتنا غير مقفلةٍ تنتظر توبيخاتك لتقفلها أياديهم بعد اعتراف وتقصير منهم؟ لمن تتركنا ودفاتر المجتهدين تتلهَّفُ لتصحيحها وإبداء رأيك فيها؟ لمن تتخلى عنا والخطر يحدقُ بأمَّتِنا وأجيالها؟ لمن تدعنا والجهل يغزونا عبر السماوات لنبيع أعراضنا ونتبرَّأ من ماضينا وننسلخ من هوِّيتنا وأخلاقنا ومبادئنا؟ أويعزُّ عليك أيها المعلِّم أن تستسلم لأبواق الجاهلين ونحن لمَّا نبلغ رُشد العِلم بعد؟

أتراها وحدها الكلمات تغفر لنا خطايانا، وتعتقنا من أنانيتنا؟ أم أن زمن الاعتراف لا يسعه حرف أو تسدَّ منافذه الجُمل والعبارات؟

إننا نخاف من أنفسنا أن نعترف بقيمتك، وقدرتك وهيبتك، لأننا نخشى أن ننسب فضل ما ننعمُ فيه إليك، نخشى من بعضنا البعض أن نردَّ لك جميل صنيعك بنا ونحن عجائن طريَّة بين يديك.

أنت الذي صنعتَ منا حدائق العِشق، وبنيتَ بنا أسوار الحق، ورفعتَ بنا أعمدة العِلم، فكيف بنا نغار منك ولا نعترف بعبقريتك ونقول في خِداع لست مُنتِجاً؟

أيُعقل هذا وأنت نور أعيننا وجلاء همومنا، أيُعقل هذا والناس عطشى تنتظر ميعادك، أيُعقل هذا يا معلِّمنا وأستاذ مدارسنا، أيُعقل هذا يا راعي صبيتنا وحادي قوافلنا؟

أنهديك وردة أم زنبقة؟ أم نهديك قلماً لأنك بالقلم علَّمتنا؟ أم أن إهداءك إياه سخرية منك أم من القَدَر حينما نلتفُّ حولك زاعمين أننا نحبُّك و"نتبخَّر بعطرك" تباهياً وسمعة ورياء؟

إيهٍ أيها المعلِّم: ما أشقاها الكلمات وهي تتفنَّن في تبجيلك وتقديسك أمام الملأ، وتنفرُ منك حينما يتوارى الملأ!

ما أشقاها الأفواهُ وهي تدغدغ شعورنا بزيف أحرفها وتنميق تشبيهاتها وسحر استعاراتها لتعلن في حضرتك أنها لا تستغني عن خدماتك، فتبدأ في عدِّ حسناتك، وتعلن في غير حضرتك عن سيِّئاتك!

ما أشقاها العيون وهي "تنظر إليك من طرْفٍ خفي" لتقول إنها ضائعة ناصبة، عارية تنتظر أن تُلبسها أثواب الحِلم، وتسقيها مياه العلم! ما أشقاها وهي تخدع أبصارها ضاحكة غير مستبشرة، تتقاطر من وجوهها حماقات اليأس والغرور لأنك معلِّم!

الطيب عطاويسامحنا أيها المعلِّم إن تعرَّضنا لك بسوء أو سخرية مفتعلة أو غير مفتعلة. سامحنا على قلة عقولنا وحُمق تفكيرنا، فما أنت بالذي نُهينك أو نلعب بمشاعرك أو نصوِّر حياته على مسرح الملهاة.

أنسخرُ منك وأنت منقذنا ورمزُ عزَّتنا؟ أنسخرُ منك يا باني حضارتنا، وصانع أفكارنا ومعلِّم أخيارنا؟ أم أننا لا نفقه حقيقة الحضارة إلا حينما تأتينا عبر نوافذ الجاهلين وأبواق الناقمين؟

سامحنا إن خــنّـا أمانة العلم واستبدلناها بحماقة الجهل. سامحنا لأننا خُدِعنا بما رُوِّج ضدَّك، فأمطرتْنا عيونُ الحاقدين بوابل القهر، وعضَّتنا أنياب الأعداء فغرستْ في مفاصلنا سُمّاً زُعافاً وشلَّتْ حركاتنا فأضحينا نسخرُ منك لأنك لا تُنتج، ومثلك عقلُهُ وكلُّ ما فيه يُنتج.

بالعلم كنتَ ولا تزال معلِّما أيها الأستاذ الفاضل، والنِّحريرُ الماهر، والجِهْبيذُ الحاذق. بالعلم نركع أمام حضرتك لنقول لك "كِدْتَ أن تكون رسولا". بالعلم نحن عبيدُكَ وخَدَمَتُكَ، يا من علَّمتنا كيف نقرأ ونكتب، وكيف نجدُّ ونجتهد، وكيف نحبُّ ونعمل، وكيف نمدح ونفخر، وكيف نسوق بعدك أجيالا، ونفتح إثرك أقفالا.

شكراً عظيماً على كلِّ حرفٍ علَّمتنا إياه، وكلِّ كلمةٍ استنطقتنا إياها، وكلِّ جملةٍ عرَّفتنا فحواها. شكراً جزيلا موصولا إليك ما دامتْ أجوافُنا تتنفس، وقلوبنا تهفو بذكرك، وعيوننا تبصرُ في طريق مجدك. وأيُّ طريق نسلكُهُ إن لم يُذكر فيه اسمُك؟

D 25 تشرين الثاني (نوفمبر) 2014     A الطيب عطاوي     C 2 تعليقات

2 مشاركة منتدى

  • إيه ـ حضرة الأستاذ ـ لا تفي الكلمات،و لا يقدّر بثمن مجهود المعلم المهدور حقّه المبدّد نورُه ،الذي كان يوما مبجلا في ظلّ غياب الإنسان الحقّ بين من لا يدرك ماهية هذه الدرّة العصماء.
    لقد استمتعت بالمقال الذي تناص في ذاكرتي مع طريقة شيخنا الجاحظ الثّاني (البشير الإبراهيمي)،وكذا ما ذكرني بتعابير لميخائيل نعيمة...الحقيقة الحقيقة لا فضّ فوك ،وأدامك الله للعلم والتّعليم .تحياتي أستاذنا.


  • هو اعتراف بأننا مدينون لمن علمنا ووجهنا ومد لنا يد العون عند تتزاحم المعلومات ، ولا نستطيع تبيان مسارات كل منها.
    هو ذاك المعلم المبجل الذي يظل نبراسا وقدوة حسنة لطلابه وعلما مبجلا في زمن أضحى فيه منسيا وغير معترف بجهوداته التي لا تقدر بثمن.
    شكرا لك أستاذ الطيب عطاوي على هذه الوقفة التي قل نظيرها قي زماننا .
    تقديري الكبير وكثير ود.


في العدد نفسه

كلمة العدد 102: المكتبات الرقمية ضرورة

العولمة والحفاظ على اللهجات الجزائرية

قراءة في ديوان البسي شالك

سوف تلهو بنا الحياة: رحيل جورج جرداق

الجاحظ: رائد الثّقافة العربيّة