رانيا مأمون - السودان
مرايا الداخل
كتابات إبداعية: مقتطف
وها أنا أفعلها الآن وأكتب لك، دون تخطيط، أو نية مسبقة، ودون دراية كاملة بما سأكتبه. وجدتني أبدأ في الكتابة — محبوبتك وصوتك المقروء. أحاول بها ومن خلالها أن أتمرأى في مرايا نفسي. أنظرها، وأعيد النظر إليها، ليس بحثاً عما سقط سهواً مني، إنما محاولة للتجديد. كل شيء يحتاج إلى تجديد حتى الإيمان في قلوب الخلق، وأنا الآن أريد أن أجدد نفسي، ليس بنفضك عنها؛ إنما بوسمك فيها أعمق.
أحتاجُ إليك. وأريدُ أن أحادثك. أشتاقُ إليك. وأرغبُ في رؤيتك. أهفو إليك. وأتمني أن تسبقني روحي إلى قبرك، فكم من السنين مرَّت دون أن نلتقي، دون أن أسمع صوتك، أرى ابتسامتك، أتملى في تفاصيلك، دون أن يسحرني محراب صمتك ويأخذني مني إليك، دون أن تلمس يديّ يدك، دون أن يضمني إليه صدرك، دون أن أسمع حبك وأبكي مع حزنك، وأهدئ غضبك الجميل، وأمتصه كما يمتص الرضيع ثدي أمه؟
ولغرابة الأمر الذي قد لا يصدقه الآخرون، أنني لم أرك تغضب لأجل نفسك. كنتَ جميلا حتى في غضبك، بوجهك المقطب وحاجبيك المقتربين من بعضهما، كأنهما عزيزان يودان إلقاء التحية على بعضهما. وكان أكثر ما يثيرني هو نسيانك أن تغضب لنفسك. بالله عليك أخبرني إن كنتَ فعلاً من بني البشر.
أتذكُر عندما قلتَ لي"أتمنى أن أشق جلدي وأدسك جواهو"؟ كنت أتمنى فعلاً أن تخبئني فيك، وأحيا تحت جلدك. هناك أستشعر الأمان أكثر، وأكون قريبة من مجاري الدم فيك. ولكني قلتُ لك: "أخاف ألم الجرح لك،" ولم أكن لأزيد جراحك المفتوحة أصلاً واحداً، حتى لو كان بيدك لا بيد غيرك.
في البدء كانت توسوسني نفسي بأنك لا تحمل لي ما أحمله لك من حب، وأنني لستُ أولى اهتماماتك كما كنت أنت أول اهتماماتي. أغتاظ منك وأنت تكيل الحب لوطن يُلَوِّح لك بقيده، وتدفق العطاء لمجتمع ينظر إليك من علٍ. أخبرتك بشكّي وغيظي، فقلت لي: "ثقي أن حبي لكِ إن كان مجازاً لنا أن نقدِّر الحب هو نفس قدر حبك لي إن لم يَفُقْه حجما." وكنت قد غفلت في انصياعي لوساوسها أن قلبك أكبر حجماً من قلبي.
وطَّنتُ نفسي على القناعة عندما قلتَ لي: "إن وطنك هو قلبك." ولم أكن بالطمع الذي يدفعني لأن أحظى بكل قلبك، فرضيت بطيب خاطر بالجزء المخصص لي. هل كنتُ غبية برضائي؟ أم كنتُ مكتفية بحبك؟ أم تلميذة تحاول أن تتعلم؟ كيف وإلى أيّ درجة تحب وطنها؟
لم تكن تحبني فقط، بل كنت تعلّمني. تعلمت منك الكثير وعرفت من خلالك الكثير الذي كنت أجهله ولا أهتم به. تعلمت منك كيف أسمو بالحب. كيف أعطي دون شرط. كيف أنزع حقاً. علمتني ألا أرضى بظلم، وألا أسمح لأيّ شيء مهما علا قدره، ولأيّ إنسان مهما كان قدره، أن يكبل حريتي أو ينال منها. علمتني ما لا يحصى بكلمات ولا يُعد، يا من لا مثيل لك. فلم أكن سوى فتاة خرجت للتّو من بيتها ومدرستها لتدخل معترك الحياة، وتكون مسؤولة عن نفسها في غربتها.
أعترف لك أنني كنت صغيرة، عديمة خبرة بأيّ شيء حتى الحياة. وكبرت معك. وكبرت بك. وكبرت لك. هل كنت أنتظر أن أكبر على يديك؟ أم كنت تعرف مجيئي الحتّمي إليك لتُكَبَّرني؟ أم أنه قدرنا: قدري وقدرك؟ يا أيُّها الممتد فيَّ باتساع الكون، لِمَ فارقتني؟ أنا التي أحتاج أن أتدثَّر بك، لأقوى على الحياة ومن فيها. أحتاج إليك في عمري المنزلق بعد أيام إلى الأربعين. أحتاج إليك في وحدتي. أحتاج إليك في غربتي. يا من كنت أبي بعد موته. وأخي في بعده عني. ووطني في اغترابي عنه. يا من كنت لي كل البشر. في وحدتي هذي، وغربتي هذي أنت أكثر ما أتمناه. أنت كل ما أحتاج إليه.
طوال سنوات وأنا أسأل نفسي: "ما الذي يتوجب عليَّ فعله بعد أن غادرتني؟ هل أبكي موتك أم أفخر به؟" وبين حرقة البكاء وزهو الفخر يزحف الحزن فيَّ، يحجبني عن سواه، ويضرب مسمار فقدك نَصْلَه عميقاً في نفسي. ترمل قلبي. وثكل وطني. ووُرِيت أنت الثرى. ومازال الجلاد يا عمري يمسك صولجانه. أيّ آلام عانيت؟ وأيّ دماء بصقت؟ وأيّ حمى استباحتك؟ هل كان كثيراً عليه لو عالجك؟ هل كان كثيراً عليه لو أخرجك؟ أم أن هذا بالتمام والكمال ما أراده: أن يسوقك إلى قبرك ويكتم صوتك إلى الأبد. هل ظن أنه نجح في مسعاه؟ وهل ظن أنه ظفر؟ بدأنا الآن في تحقيق حلمك، وسنُخرِج للملأ صوتك، وسنرى ويرى حينها إن كان قد أصاب في مسعاه أم طاش سهمه.
اعذرني على تأخري الذي طال سنوات، تأخري لم يكن إلا رغماً عني. أنت تعرف هذا، وتعرف أني لا أتأخر عنك تحديداً إلا بسبب. وإن كان في نفسك بعض عتب، وإن كان في نفسك طفيف غضب، فشفيعي لديك حبي، ويكفي هو عن كل اعتذار. منذ الآن كن مطمئناً. ومُت كما عليك أن تموت. مُت وتملأك الثقة أنك لم تمت دون جدوى. مُت وأنت جذل أن لموتك ثمنا. دمك وكل لحظة ألم عشتها هي دَيْنٌ مستحق الدفع منذ سنوات والآن فقط سننتزعه انتزاعاً.
أذكر ما سمعته منك يوماً من كلام شهيد أثينا، سقراط، عندما تلوته كأنك تستشعر مصيرك، تستقرئ غدك، وتكشف عنه الحجاب: "فلنواجه الموت بشجاعة كما واجهنا الحياة. ليست المشكلة يا قضاتي في أن ننجو من الموت، بل في النجاة من الجريمة." هذا سقراط قبلك يُعدم جراء فلسفته وفكره وكلمته، ويُعطى قدح السُّم ليتجرعه بيديه، وهو يعرف أنه سيموت بعد لحظات. أيّ قدرة تلك على الموت وأيّ شجاعة! بينكما عصور وآلاف السنوات والقتل مازال كما هو، فقط اختلفت أداته. كانت في حالته السم، وفي حالتك قتلك مرضاً، وترك المرض يستشري في رئتيك، يآكلهما، يتلفهما. القتل واحد رغم اختلاف طرقه وسبله. وكم من الآخرين واجهوا نفس المصير على مر العصور؟ فهل قدر الكلمة أن تكون قاتلة لقائلها؟ وهل قائلها يعلم أنه يحمل رصاصة في فمه ستُعاد مباشرة إلى قلبه؟
عندما تداعى كل شيء فيَّ بعد وفاة أبي جئتني أنت وقلت لي كلاماً كثيراً عن الموت والصبر، كلاما كنت أعرفه، ويعرفه كل الناس. كانت غايتك أن تلملم حزني وتصُرُّه في حيز ضيق في نفسي. سألتك: "وهل يستطيع الإنسان ألا يواجه موت أقرب الخليقة إليه بالحزن والدموع؟" كنت عاتبة على نفسي، ومازلت حتى الآن أتقلّب على جمر الندم؛ لأنه رحل وهو يشتاق إلي، ولأنني كنت بعيدة بما يكفي لأتوه عن قبره، هو الذي كان يدعوني مهجة القلب. أيّ جحود هذا الذي قابلته به وأي خذلان؟ يزورني في حلمي. يعاتبني أحياناً. يضمني ويداعبني أحياناً أُخَر. وفي كل مرة أطلب منه السماح.
وقبل أن تغادرني اتخذتك أبي بعد أبي. وعوضتني الحياة بك، ثم بعد سنوات قليلة جداً كررتَ أنت موته، وأصبحتُ أعيش مرة أخرى بلا سقف أُبُوَّة يظلّني ويمنحني رعايته وحنانه. بعد موتك يا مَنْ غيّرتَ عاداتي، كنتُ أجهل كيف يمكنني مواصلة الحياة دونك. كرهتُ حياتي، وعملي، وأصبح كل شيء لستَ فيه تافهاً وبغيضاً. تلاشت رغبتي في كل شيء. كل شيء ابتداءً من الحياة نفسها وانتهاءً بالكلام. موتك سلبني كل سبب يربطني بالحياة. أصبح الكون بما فيه لا يعدو أن يكون سوى فراغ لا متناهٍ، أصرخ فيه ولا يسمعني أحد. وأنا تائهة أحمل حبك وأمانتك بين يدي ولا أجد مستقرا.
– - - - -
مقطع من رواية فلاش أخضر للروائية السودانية رانيا مأمون. الناشر: الشركة العالمية للطباعة والنشر - مصر (2006).
- غلاف: فلاش أخضر