رعد مطشر - العراق
محمد خضير: بصرياثا
محمد خضير
بصرياثا: سيناريو مملكة سوداء في درجة 45 مئوي
لقطة شبه كاملة؛ تاريخ مفتوح؛ ومكان بصري:
طفلُ الجمعة الناعسُ، الهادئ، المولودُ في الثاني والأربعين من قرنٍ مضى، الآيلُ إلى (معلم الصبيان) قادته أورُ إلى قطاراتها الليلية وأناسها المتعبين، ثُمَّ سلَّمتْهُ إلى (الرميثة) في سيناريو يمتدُّ سنيناً وينتهي ببصرياثا ليطلق منها (مملكةً سوداء) برقمها المشؤوم. هل انتبه محمد خضير إلى ذلك؟
كان عليه أن يتقدم خطوةً خطوةً؛ (وكأنّه بهلوانٌ يتوازنُ على حبلٍ مشدود بين حافتين) منتقلاً من (مرحلة الاكتشاف) إلى مرحلة البرهان على ذلك الاكتشاف، مرحلة البرهان في (درجة 45 مئوي)، ومتحوّلاً من قصص متفرقةٍ في كتاب إلى نصوصٍ متضامنةٍ تضمُّها (رؤيا خريف) وقبلها كان يؤكّد ذلك في البحث عن (برهانٍ آخرَ، عن لغزٍ آخر، كتابةٍ في الزمانِ والمكان) اعني البحث عن (بصرياثا) وانعطافه عنها إلى (الحكاية الجديدة)، وسرد سيرته الأدبية مستنطقاً (الأفكار والهواجس التي تصاحب عملية السَرْد)، واضعاً نصب حياته أنَّ (الصنعة مقصودة في عمل الكاتب...وأن يؤثّر في المتلقي عبر عمله المصنوع بدقة، لا مجال للوقوع في خطأٍ سردي قاتل...إنَّ الخطأ في مرحلة متقدمة من العمل يُفْسد حياة الكاتب كلَّها ويدفعه إلى الجنون أو الانتحار). ولَمْ ينتحر. فقد كانت يداه توأمان تومئان إلى بئر الماضي ومرجعيته، وتستدلاّن بغائيّة المستقبل واستمرار (صحيفة التساؤلات) المصاغة في (قالب الألغاز) أيضاً.
ألغاز مدينته التي (لم يغادرها منذ ولادته إلاّ اضطراراً): رُبَّما غادرها إلى مدينةٍ أخرى. الصوُر فيها تحتشد (أمام عينيه كقطيع من الإبل يعبرُ طرف الجسد المقوس إلى طرفه الأخر). لكنّه بالتأكيد ساح في (مُدن هوميروس وسرفانتس وفوكنر وماركيز وكالفينو وأورويل وويلز وأسيموف وآرثر كلارك وناريان). رأى فيها مسوّدة الطفولةِ، غائراً في نفسه في [بنيةٍ جوهرية أحادية النواة] والى نصوصٍ جديدة، سمّاها (عاتكة/بثينة/ومناف)؛ نصوص تحرثُ في (وجـودٍ متماسكٍ خارج وجودنا الحسّي المحدود).
هل وصلنا إلى (متعة اكتشاف) محمد خضير؟ لا أظن فما زال لديه الكثير من المفاجآت الممتعة. وتصوّروا معي رجلاً عمله جمع الحكايات، فأيّ طريق يسلك؟ وماذا يمتطي؟ ومن يكون ؟
لقطة قريبة. بصرياثا أيضا ودائما:
مجموعة تدخل. سوداء المخلوقات، لها مملكةٌ غريبة. تبدأ بمئذنة تنتظر التوبة (كما لو أنها في قعر أبريق) ينتمي لعصر سحيق، وتنتهي بتابوتٍ (يهبطُ على بساط الظهيرة) نهارُهُ (غابةُ من حرابٍ لاصفة). مجموعةٌ لها (أُمنية قرد) تظهر تحت الضوءِ بلوحةٍ ولبوّة تتمطّى على الجدار، وتطلُّ من (نافذةٍ على الساحة) يُسمع فوقها وعلى برودة تأريخها صوت (الشفيع) الذي يحرّك (شجرةَ الأسماءِ) مراراً حتّى تتساقط من أوراقها (المملكة السوداء) الغريبة الخلائق، والتي تسوّر (الأسماك) في عتمة الدهليز.
لقطة اعتراضية. لا مكان. لا أزمنة:
الحكاية معادل الطفولة وموقد النار في برد الشتاء، والتدوين الشفاهي لعجائز الأمس، أمّهاتنا اللائي ركضنا خلف بكّاءين يتبعهم بكّاءون ومؤلفو قصص، لهم أقرباء بهم (مسٌّ أو سؤال، وكل أيّامهم جُمعات، وحين لا يكون لهم قريب كذلك، يصيرون هم السائلين والقصص عطايا) .
لقطة قريبة جداً. المملكة السوداء. ثانية:
مشهد السائلِ (حائكِ الكلام) في (حكاية الموقد) عن حكايةٍ واحدة في أولِ المساءِ (عندما تسكت عصافيرُ البرد على سدرةِ البيت وتكفّ). تأتي الجارةُ وتروي: عن (تقاسيم على وتر الربابة) تعوي في الليل كصفارةِ إنذار، وتروي عن رجلٍ (كان باستطاعتِهِ أن يمسَّ قاع النهر بقدميه)، رجلٍ كانت حياتُه عاطلة تهزّها ريح العطب في (أرجوحةٍ) سائبة، لعلّها تجدّ في الفوضى غصّة (العلامات المؤنسة)، علامات المُدن الضائعة، السليبة الزمن، المدن التي تصنعها (القطارات الليلية)، تلك القطارات التي كانت تتلوى خارج السكك لتصل إلى (قطار اسمه اليقظة). سيصادفه الجميع (يوماً في مكان) يؤدي إلى (التابوت) تماماً. هل انتهى المَشْهد؟
لقطة انتقالية. بصرياثا. في درجة 45 مئوي. التبخر نهارا:
ينقلنا المشهد أعلاه من مرحلةٍ اكتشاف (المملكة السوداء) إلى مرحلة (البرهان) عليه. تقتربُ (الكاميرا) فتظهرُ غرفة في درجة 45 مئوي، تشمُّ من بعيد رائحة احتراق الكتب فيها وتماسك الرجل الناظر إلى لهيبها. في رائحة الشواء تلك ترى ناسج الحكاية وهو يكتب عن مدنٍ كُتب على أبوابها (العالمُ حيُّ. الوطنُ حيُّ. نحنُ أحياء). فيها يرسم (تاجاً لطيبوثة) ويمحوهُ بارتفاع (الصرخة) التي تجيش في (جوفٍ عميقٍ) يؤدّي إلى (المأوى) حيث (الوقت كلّه ليل. كلّه ظلام. كلّه يقظة. كلّه صمت. كلّه هبوط. كلّه تعرج). إنّه يشبه كلام أعمى في فندقٍ مرقّم. (الحاجُّ) فيه له؛ (السماءُ منفذ أكثر اتساعاً من ممر أو اقل اتساعاً من هوّةٍ). الوقت فيها يركض، والألم منها يغدو (ساعاتٍ كالخيول) العاطلة عن حساب الوقتِ، والمنكمشة من قدوم (اله المستنقعات) في بقعةٍ واحدة، بقعةٍ كان المصلّون فيها (قد انصرفوا ولم يقفلوا بابَ الجامع خلفهم)، فنسـوا (احتضار الرسام) الذي ازداد هبوطاً في غيبوبته نحو (منزل النساء) وليله الذي يهرم بسرعة عجيبة في ليل بصرياثا الغريب .
قطع، ناسج الحكاية، دوما:
[لأنَّ الطريق الصاعد هو الطريق النازل، فقد تصوّرتُ بصرياثا مدينتين، كنتُ موجوداً فيها في آنٍ واحد].
ظهور الأمكنة ـ تلاشي الأزمنة:
داخلي ـ مملكة المعلم البصري ـ ليلٌ دائم:
الحوارات في ظلمة القعر أبداً:
غرفة في درجة 45 مئوي: وسحبتني قدمي إلى قاع بئر الماضي...
تاج لطيبوثة: سأتجه إلى البئر وأجمع ما تهدّم من حجارتها. وجودك في البرج هل هو هروب من هبوط القعر؟
الصرخة: الفم الذي يصرخ في جوفٍ عميق، يجتذب إليه السماء المنجرفة بين ممرّات الحطام.
إلى المأوى: الوقت كلّهُ ليل. كلّهُ ظلام. كلّهُ يقظة. كلّهُ صمت. كلّهُ هبوط. كلّهُ تعرّج.
الحاج: السماء منفذٌ أكثرُ اتساعاً من ممّر، وأقل اتساعاً من هوّة. الجزيرة تهبط ببطء. السماء تبتعد.
ساعات كالخيول: كالخيول تجري في قاع البحر... وأنصتنا للحبر يدوّي في ساعات القبو.
إله المستنقعات: كان المصلّون قد انصرفوا ولم يقفلوا باب الجامع خلفهم، فهبطت درجتي الباب.
احتقار الرسام: تركته يزدادُ هبوطاً في غيبوبتِه.
منزل النساء: الليل يهرم بسرعة. وتدحرج هابطاً الحافات المتوازية وغاب في الظلمة.
كراسة كانون: متى يحدث أن يكون النص مكعباً، مركباً، مرسوماً بأكثر من وجه؟
مشاهدٌ غير مرقـّمة تغرق في القاع ليلاً:
كل شيء يتلاشى في الظلمة، يذهبُ بعيداً حيث (القاع الأسفل من المجتمع العراقي)، وحيث الحرارة التي تنضج فيها (القصص أو تشوي شيّاً أو تطرق طرقاً)، لتتوالى المشاهد في انتظار التوبة، والراحة الجسدية والنفسية في عمق اللوحة ولبوتها، وفي حوار داخلي يفوق الحوار الخارجي أو يساويه:
* (المئذنة)؛ مكان مظلم في (قعر إبريق)، والزمنُ عصرٌ سحيق من الملاذات المفقودة والراحلة مع آذان الغروب، ومع توبة المرأة.
* (أمنية القرد)؛ تغيب في (قعر معتم في الأسفل) للسلّم النازل، ذات صباح دافئ مع نزول الخيول من حائطها لتوقف عبث قرد غجري،
* (نافذة على الساحة)؛ تطل على رائحة الطين في نهار لامع (دافق يشوّه طلاء السقف الأبيض) وتهربُ من الأعمدة إلى أرملة تنادم شبح ثور، تحت موتها في العتمة.
* (الشفيع)؛ هبوطٌ نحو (قعر المنزل) تصل مع آذان المغرب إلى شفيعها (بلذته الغريبة وتوهجه المضيء).
* (شجرة الأسماء)؛ في قاع الماء حيث الأمّ التي تشبه سمكة جرّي في عقل وخيال الفتاة.
* (المملكة السوداء)؛ (حيث يعم الظلام بين أسماك القاع)، زمان ومكان معتم في عمق الحوض المترسب، و(أسماك ميتة ولا تؤكل).
مشاهد خارجية لا تشبه الرحيل:
مشهد1: حكاية الموقد: لكل زمن حكاية بل (لكل مساءٍ حكاية. حكاية واحدة) ترويها جنيّات الجنوب لسدرة البيت، بصوتٍ مشروخ من عجوز تتلوّى، في مكانٍ مشروخ.
مشهد2: تقاسيم على وتر الربابة: (كان الباب مظلماً)، والطريق موحلاً. الزمن ظلامٌ (دامس كظلام القبور).
مشهد3: (الأرجوحة)؛ كان عائداً من هنا إلى (جادة السكون المظلمة بمراوح السعف)، متذكّراً كيف إنه (غاص في النهر) ذات تاريخ.
مشهد4: (العلامات المؤنسة)؛ (يسقط الظلام في الحديقة)، تحت علامات المدن، أبوابها، أسوارها وطرقها الخارجية، تلك علامات ساحات المعارك، الدخان، وحطام الآليات والأسلحة والخرائب والجسور وفردات الأحذية.
مشهد5: (القطارات الليلية)؛ قطارات تخرج من سكتها في الخارج، أما في الداخل فالظلام الخفيف يحتل (الصالة السفلى)، الصالة الخالية، كل شيء تائه في الظلام، الأمكنة، الأزمنة، والشخوص.
مشهد6: (التابوت)؛ في (قاعة ما في مكانٍ ما، تشبه قاعة لحفظ الجثث في مستشفى من المستشفيات) بعد منتصف الليل حيث (النهار غابة حراب لاصفة).
أسئلة الإسترجاع مع صوت قطارات يأتي من جنوب الجنون:
أولاً) نهايات (المملكة السوداء) نهاياتٌ مفتوحة. ماذا ينتظرُ (البصري) محمد خضير من انفتاحها؟
ثانياً) (أمنية قرد) في مملكتها السوداء، رُبَّما تحقّقت في (درجة 45 مئوي)، فهل تحقّقت؟
بلا) أيُّها المعلم البصري، لماذا الرقم 13 لقصص المملكة السوداء هل تهوى الأرقام المشؤومة؟
أيضاً) مَنْ يلتهم الآخر في لعبة طفولتك؛ المملكة السوداء أم في درجة45 مئوي، أو الحكاية الجديدة، أو رؤيا خريف أم بصرياثا؟ أو هل سيبقى الحبرُ ليطفو الراوي بحذرٍ في مدنِهِ ويتلاشى؟
خامس عشر) هل استطعت أن تسدد ديون الماضي المتراكمة بين تنورين؟ أم هل دخلت َإلى مدنٍ لم تصلها في بئر الخطايا القديمة؟
خمسون) لو هُدمت بصرياثا (اليوتوبيا) فهل يمكن هدمها في (الهيتروتوبيا)؟
ثمانون) هل كانت بصرياثا، وعياً مستعاداً، أم يومياتٍ لذاكرةٍ تكتظُّ بالشواهد والقتلى في تسعة مشاهد؟
تسعون وثلاثة) كان بورخس يصطحب سرير أمه إلى كل شقّة ينتقل إليها، وعند موته تمدّد على ذلك السرير قائلاً: (لا أود أن أفارق حضن أمّي، لا أود الرحيل من هنا). هل فارق البصري، المعلم، سرير البصرة إلى مدن نادرة البقاء؟
مئة واثنان) لماذا الهبوط الدائم والتواجد شبه الأبدي في (قعر الإبريق، قاع البئر،نهاية السلالم،الجوف العميق، الهبوط، الهوة، القبو، والظلمة أيضاً)، رغم أن (الانتقال الأفقي والأرضي) لم يحدث (إلا في قصص السفر الحديث)؟
مئة وعشرون) مؤلّفٌ مقنّع يشارك في بناء مدينته، من أيّ مجرّات التأثير أخذ نسيج بنائها؟ وهل غيـّر طريق مجرّاته ليصل إلى بوابه الخروج لتأكيد براهينه؟
محطات في مسيرة حائك الكلام لم يدخلها الظلام:
1) في البصرة كانت الولادة عام 1942.
2) تخرج من الثانوية في البصرة عام 1960.
3) أصبح معلماً عام 1961 في محافظة الناصرية ثم انتقل إلى الرميثة عام 1964.
4) عاد إلى البصرة في عام 1971.
5) قصة الأرجوحة: كانت بداية الشهرة للمعلم البصري، حائك الكلام، ثم أردفها بـ (تقاسيم على وتر الربابة)، ليشيع اسمه رغماً عن الحروب التي يشعلها عاشقو الكراسي، وليتمسك أكثر بأرضه ومدينته بصرياثا، منتجاً، عالماً من السحرِ والتجريب في القصة القصيرة، وليساهم في صناعة مدينته، يغور معها في جذور أصالتها، يسحب ربيعه إلى غرفته (الكائنة فوق السطح، فوق المطبخ) ليفخر في تنورها مملكة سوداء، وخريفاً مصاحباً لرؤيا الرحيل، يفتح صحيفة تساؤلاته لحكماءٍ ثلاثة يمروّن في أطياف الغسق، وفي ماء البصرة (مدينة الأنهار الكثيرة).
6) نشر المملكة السوداء عام 1972.
7) في درجة 45 مئوي عام 1978.
8) بصرياثا في عام 1993 وفيها ؛(لولا المكدّون ما وُجد قصاصون ولولاهم ما وجدنا، من دوننا جميعاً ما وجدت المدن).
9) رؤيا خريف في عام 1995.
10) الحكاية الجديدة في عام 1995، حيث (تبرهن على انتقال القصة من بنية جوهرية أحادية النواة، إلى نظام مدبر، متعدّد النواة).
11) كراسة كانون في عام 2001.
12) يقول عبد الرحمن منيف (إن كل المدن الساحلية هي مدن الثورة والحب)، ويضيف المعلم محمد خضير أنّ (البصري لا يستطيع الابتعاد عن النهر)، لذا ذكـّرته مدينته البصرة، المحاطة بالماء والمفتوحة على الفضاء، كيف عاش كلكامش سيناريو طوفان الحكاية الآتية.
رعد مطشر ـ بين البصرة وكركوك
في ظلمة ما...