عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

مختارات: عبد الله باسلامة - السعودية

وقفة: قـصـص مـن الـحـيـاة


شطارة

أدخل أحد السجون في تركيا بتهمة التهريب، وطار والده من أمريكا لكي ينقذ أبنه من السجن وأحواله، فكيف يسجن أبن العز في بلد متأخر؟ لابد من عمل أي شيء: استخدم النفوذ، الفلوس، الشطارة، الأساليب الشرعية، وغير الشرعية. كانت محاكمة المتهم على وشك أن تبدأ، وكان المفروض أن يحكم عليه بالسجن عدة أعوام، فهذه عقوبة مثل تلك التهمة.

قال الأب: "لا يمكن أن يسجن ابني عدة أعوام وكأنه مجرم عادي. فما العمل؟ لابد من البحث عن مخرج."

وأخيرا، وجد المنفذ. إنه المحامي (...) الذي قفزت به شهرته وشطارته كل الحواجز. ولم تستعص عليه أي حالة كانت كبيرة أم صغيرة، فالكل له أصدقاء. وبهداياه لرغباته مستجيبون. هذه المقدرة ـ والحق يقال ـ لم تكن مبنية على الحق والبرهان، ولم تكتسب بالعلم والمعرفة، وإنما بالشطارة والفهلوة.

يبدأ المحامي يستخدم قدراته، واستطاع أن يؤجل المحاكمة. فرح الأب واستبشر. ولكن لابد من إخراج المجرم (الغالي) من السجن فورا. "حاضر أفندم بعد أسبوع. وبعد شهر. باقي يومان. والحكم يؤجل، والمدة ولم تحتسب بعد.

ويدور الزمن دورته. تتغير الحكومة. وتظهر أخرى. ويستبدل وزير العدل بوزير عادل، والثاني بقاض من نوع آخر. ومع الكل تتغير مواد الدستور. ويصبح التهريب جريمة فظيعة في نظر الدستور الجديد، والوزير الجديد والقاضي الجديد، ولكن المحامي القديم لم يستطع بعد بسط سلاح نفوذه وشطارته على الحكومة الجديدة. والنتيجة تطبيق مواد الدستور الجديد على الغني والفقير والمجرم ـ ابن العز.

وتعقد المحاكمة. يصدر الحكم. بدلا من الحكم بالسجن عشر سنوات، كما كان في بنود الدستور القديم، تطبق عليه اللائحة الجديدة من أحكام التهريب في الدستور الجديد، ويكون الحكم بالإعدام.

الصيت والغنى

مع مطلع كل عام دراسي، وعند إجراء امتحان القبول لطلاب كلية الطب، كان ضمن الأسئلة التي نوجهها للطلبة السؤال التالي:

لماذا أخذت مهنة الطب؟ ولماذا تريد أن تكون طبيبا؟ وتتعدد الإجابات:

فيقول الطالب: "لأنها مهنة إنسانية."

فأجيبه: "وكل المهن إذا كان رائد ممتهنها الخير، فهي مهن إنسانية."

فيقول: "لكي أتقرب بعملي الطبي إلى الله أكثر."

فردي عليه: "وكل مهنة أو عمل متقن أريد به وجه الله، كان العبد المؤدي لهذا العمل قريبا من الله."

فيجيب الطالب (كمبرر آخر): "لكي أخفف بها آلام الناس ومتاعبهم."

فأقول له: "رأيي في ذلك أن آلام الناس ومتاعبهم ليست جسمانية فقط، هناك متاعب اقتصادية وآلام نفسية واجتماعية، فمنغصات الحياة كثيرة."

وهنا تطفو إلى السطح بعض الدوافع الحقيقة، وهي لكي أصبح مشهورا وغنيا.

ويفاجأ الطالب عندما أقول له: "إذا كانت الشهرة (الصيت) هي الدافع الأكبر، فأعلم أن مهنا أخرى، كالفن والرياضة والطرب، تحتل الصحف وتملأ المذياع والتلفاز، وأما الغنى فلقد تبدل الحال الآن، وأصبح صاحب المكتب العقاري ووكيل الشركات من ذوي الغنى.

وفي رأيي أيها السادة: احذروا أن يكون ابنكم من جماعة الصيت والغنى، فمجالات ذلك غير ما يقدم بين جدران الجامعة. ولنغرس في نفوس الأبناء دوافع إنسانية أفضل من الصيت والغنى.

بيت من الورق

عندما يعطى شخص ما القدرة، الصلاحية، المسؤولية، فإنه بقدراته وإمكاناته الذاتية وشطارته يستطيع أن يستقل ويستعمل تلك الصلاحيات.

إذا كان المقصود باستعمال الصلاحيات الصرف، توقيع العقود والشيكات، وإصدار الأوامر، فهذه سهلة. لكن الحصيلة هي الهدف. كما يقولون العبرة بالنتائج. وهي المقياس الحقيقي للرجال. البعض تكون نتاج قدراتهم صرح شامخ، قوي البيان، ثابت مع الزمان، مفصل بعناية، مدروس بأمانة، ومشيد بنزاهة.

والبعض الآخر تكون محصلة ما أخذوه من صلاحيات ومسؤوليات هو بيت من ورق، يعجب النظار، سريع التشييد، شيق القوام، حلو اللمسات الأخيرة، لكن من ورق. مع هبوب الريح، وبمرور الساعات لا السنين، يصبح كومة من رماد. والغريب في الأمر أن الكثير ممن يشرفون على من أعطوا الصلاحيات، يهللون ويصفقون لبيوت الورق على أنها إنجازات وقدرات على الصرف قبل فوات الأوان.

وقلة من شبابنا ـ ولله الحمد ـ يسعون وراء إنتاج بيوت من ورق. قد أعطي الكثير من الصلاحيات والمسؤوليات، فبحثوا عن الأصالة في الإنتاج، عن المنجز المخبر، لا المظهر، يبنون الصرح الذي يبقىـ ويشار إليهم بالبنان. ويفخرون هم وأحبابهم بمعطياته.

الله يعين من كانت تجربته محدودة، فبقصد أو بدون قصد كان إنتاجه بيوت من ورق. وخاصة أن الكثيرين الآن يجيدون التفرقة بين الأصيل النافع والبراق الخادع. لذا أرى ـ لكي يكون نتاجي ونتاجك أصيلا ـ أن تتمثل في كل عمل تكلف به ـ صغر أم كبر ـ قول الله عز وجل: "وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون." صدق الله العظيم. فبهذه سوف تتحول القدرات والصلاحيات والثقة التي أعطيت لنا إلى مصنع إنتاج جذور مسلحة للمستقبل.

طيب العيش

أعجبني قول لقمان الحكيم، أو ما قيل عنه: "ليس مال كصحة، ولا نعيم كطيب العيش." والمعروف أن لقمان كان يتصف بالحكمة. وقد ورد ذكره في القرآن الكريم. أعتقد أن البعض يتفق معي في أن هذا الزمن لم تعد الحكم والأمثال تستوقف الناس أو تسترعي انتباه واهتمام الكثيرين. لقد قَلبَ عصر التكنولوجيا، والاستثمارات، والادخار، واغتنام الفرص [قَلبَ] الفرص والموازيين، فأصبح الربح والكسب وأرقام الرصيد هوى النفوس، والمسيطر على الاهتمام والانتباه، وأصبحت قراءة أسعار الذهب في الصحف هي أول ما يسترعي الاهتمام، ولم تعد حكمة اليوم مما يلفت النظر.

ويعتقد بعض الناس أن بالمال يحصلون على العيش الطيب. ويفسرون العيش الطيب: أفخر أنواع اللحوم والدهون والمشتريات. وبالمال يمكن الحصول على العلاج في أرقى مشافي العالم، وعلى أيدي جهابذة الطب وبأحدث المعتقدات. هذا صحيح. لكن: ليت يمكن شراء الصحة بالمال أو حتى تقليل الدهن من جدار الشرايين ومنع الجلطة. بل قد يكون العكس: نشتري السمنة والترهل وتصلب الشرايين والجلطة القلبية، بقدرتنا على شراء أدسم المأكولات. نشتري الكسل وقلة الحركة بقدرتنا على اقتناء أفخم العربات، وأثرى المكاتب.

طيب العيش في رأيي ليس بما لذ وطاب من الأكل والشراب. وليس بمتعة لحظة من السلوى والصحبة. إنما طيب العيش في استمرارية الرضا والقناعة، وجمع الشمل وسعادة الأسرة، ومشاركة الأحبة والأصدقاء. وقد صدق الحكيم لقمان عندما قال أيضا: "إياك والطمع، وارض بما قسم الله لك، تصن عيشك، وتسر نفسك، وتستلذ حياتك.


مقطع من كتاب وقفة لعبد الله حسين باسلامة. الناشر: تهامة للنشر والمكتبات، السعودية. (1980). الطبعة الأولى.

JPEG - 21.4 كيليبايت
غلاف كتاب: وقفة
D 1 كانون الأول (ديسمبر) 2006     A عود الند: مختارات     C 0 تعليقات