عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

مختارات: زكريا محمد - فلسطين

أهذا هو الوطن؟


أدناه مقتطف من مقالة عنوانها "أهذا هو الوطن؟" بقلم الكاتب والشاعر الفلسطيني، زكريا محمد، الذي انتقل إلى رحمته تعالى يوم الأربعاء، 2 آب (أغسطس) 2023 عن عمر يناهز 73 عاما. المقالة منشورة في مجلة "مشارف". التفاصيل والرابط تحت المقتطف.

::

الشاعر الفلسطيني زكريا محمدثم انحرفنا باتجاه وادي الباذان وصعدنا فيما كان الوادي يهبط عكسنا.

صعدنا وصعدت معا الخضرة. ثم انعطفنا يمينا وصعدنا الجبل إلى طلّوزة. وكنت أسمع بهذه القرية ولم أرها أبدا من قبل أن أعود من منفاي. كانت طلّوزة تعلو وتعلو. وكانت أشجار الصنوبر واللزّاب تعلو هي الأخرى معنا حتى وصلنا إلى القريبة، وكان معنا رجل بلغ مرحلة الشيخوخة أو كاد. كان قادما بعد أربعين سنة. ولم يكن له في الوطن إلا أخت متزوجة في طلّوزة. وكان خائفا ألا تتعرف به أخته وأن ترفض استقباله. ولم تدخل فكرته الخائفة عقلي، إذ كيف يمكن لأخت أن تغلق الباب في وجه أخيها الذي لم تره منذ ثلاثين أو أربعين عاما؟ كانت الفكرة مجنونة، لكن الرجل كان خائفا، ويبدو أن في حياته في المنفى من التجارب ما جعل عقله قادرا على تقبل هذه الفكرة المجنونة. كان يريد منا أن ننتظره لكي يعرف ردة فعلة أخته وزوجها. ولم يكن لدينا الوقت لذلك، فكل واحد يريد أن يمضي إلى أهله وبلدته — ومضينا. وتركناه يقرع باب أخته مترددا خائفا. وها أنا بعد عام كامل أتساءل إن كانت أخته فتحت له الباب وعانقته أم أنها أقفلته في وجهه كما تقفله في وجه شحّاد ملحاح.

وفي الليل وصلت إلى قريتي، فأضاع الليل والزمن والتغيرات الطريق. لم أهتد إلا بعد أن سألت. وحين رأيت الجامع عرفت الاتجاه، وسلكت الطريق نحو بيت أهلي. وبيت أهلي غرفتان من إسمنت لا تغلق أبوابهما أبدا. وهناك بكت أختي، فيما كان أبي نصف غائب عن الوعي يفكر بزمنه الذي مضى محدّقا في الموت الذي يحوم حول المكان.
ولم يكن اللقاء صاعقا. كان عاديا. وكنت أنا بلا وزن.

ومنذ اللحظة الأولى كان عليّ أن أعود إلى اسمي القديم الذي رميته كما يرمى قميص بال. هوذا يعود ويلتصق بي وبجسدي مثل شوك البراري. أنا الآن "داود" لا "زكريا". وعليّ أن أستأنف حياتي باسمي القديم كما لو أنني غبت أسبوعا واحدا فقط. لقد ألغي اسمي "زكريا" — اسمي الذي حملته ربع قرن تقريبا. أمي وأبي وكل من جاء للسلام عليّ لا يعترفون بالزمن الذي مرّ عليّ في المنفى. عيونهم تقول ذلك وشفاههم.

أنا الآن "داود"، وكل ما تغير أن رأسي قد اشتعل شيبا. المشكلة أنني لا أستطيع أن أقبل ذلك بسهولة. أنا زكريا محمد. وزكريا محمد ربع قرن من المنفى. وفي ربع القرن هذا تشكلت حياتي. ليس الاسم ورقة تلصق على الكتف وتنزع في لحظة واحدة. أن تسمّي يعني أن تميّز وأن تخلق. وقد خلقني منفاي وأعطاني اسما. أنا خلقت نفسي وأعطيتها اسما. لم يكن الاسم جميلا أبدا. ربما كان أكثر نظافة من الأول. لكنني اخترته وقبلته. قال لي واحد في المنفى حين عرف أن لي اسما آخر: "عجيب! لم أفكر بهذا، فأنت لا يمكن أن تكون سوى زكريا. إنك تشبه اسمك تماما". أنا زكريا محمد، خالق نفسي، وأنا داود عيد — مخلوق أمي وأبي وبلدتي.

هوذا لقد دخلت قبل ربع قرن حفلة تنكرية وانتهت الحفلة. لكن القناع ظل على وجهي. أنا أحمله منذ ربع قرن. أنا لا أعرف نفسي دون هذه القناع. اسمي هو القناع. أنا هو القناع، ولن أستطيع أن أعود إلى اسمي القديم أبدا.

= = =
المصدر: مجلة "مشارف". العدد 2. 1 أيلول (سبتمبر) 1995.

https://archive.alsharekh.org/Articles/13/2773/61368

D 1 أيلول (سبتمبر) 2023     A عود الند: مختارات     C 0 تعليقات