عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

آمال وحبال

سعيد الأمين - المغرب


نزل من الحافلة وفي يده حقيبة صغيرة الحجم تبدو من شكلها وجلدها المهترئ أنها قديمة الصنع، وأن صاحبها لم يغيرها منذ أن ابتاعها. وقف هنيهة رافعا رأسه في البناء العالي الذي أمامه ينظر إليه ويقول في قرارة نفسه: "كما تركتك، أنت كما أنت، لم تتغير،" فأخرج نفسا عميقا ثم أضاف مُسرا: "وكيف تتغير في عشرين سنة ولم تستطع قبل ذلك قرون أن تنال منك. ها أنت ذا باب بردعين كما عرفتك وعرفك آلاف غيري، لا تزال صامدا مصرا على تحدي الزمان وتأنف أن تركن لهرمك. أما أنا فكما ترى، ليس لي من الفسيفساء ما أخفي به تجاعيد وجهي، ولا صلابة أعمدة تقوم انحناء ظهري، فشتان بيني وبينك." ثم بدأ يتقدم وهو لا يزال يجول ببصره في علياء الباب حتى وقعت عيناه على الطرف الداخلي منه، وقد تمت عملية إعادة تشييده على ما بدا له، فأخذ نفسا طويلا تحسرا على مآل هذا الباب العظيم. لكنه سرعان ما ابتسم ابتسامة شماتة مردفا إياها بحديث في نفسه: "آلمزوق من برا آش خبارك من الداخل، والله أعلم داخل الداخل كيف هو."

اجتاز الباب إلى الداخل وهو ينتقي مواضع قدميه من كثرة روث الحمير، ومن الوحل العالق بين الحفيرات المترامية على أرجاء الطريق، كأنها آثار تركتها حوافر أحصنة العهد الإسماعيلي.

ومن الجانب الأيسر من الباب صدر صوت خافت تلقـفته كل الآذان حتى البعيدة بأمتار من المصدر: شاب طويل القامة، نحيف الجسم، في وجهه شيء كالخشب القديم المخدوش، أزرق الشفاه، أسنانه يغلب السواد بياضها، وهو يهمس - وفي همسه جهر- لأصحابه باللهجة المكناسية "ها هو زاي من ناحية سيدي زبل." وقد كان الشاب يقصد "ها هو قد جاء من ناحية سيدي جبل."

وما إن أتى الرجل ليلتفت وينظر من القادم حتى إذا برائحة تنبعث عن يمينه زادت من انكماش تجاعيد الوجه. تساءل عن مصدر هذه الرائحة، فإذا بعينيه تقعان على كثبان من الأزبال تخفي سيقان أطفال يترصدون الجرذان فيها لاصطيادها. وقال بنبرة لا تخلو من التهكم: "صدقت يا شاب أظن أن اسم ’ سيدي زبل’ هو الأنسب." وما إن استدار ليواجه الشاب حتى إذا بأسوار صماء تقلب حديثه تبسما.

استمر الرجل في طريقه، وبعد أن خطا بعضا من الخطوات، إذا برهط من الناس أغلبهم شباب متحلقون حول أحدهم بسيدي جبل، تساءل:

"ماذا هناك يا ترى؟ أحادثة سير؟ لا، أمر مستبعد. المكان بعيد عن ممر السيارات. شجار؟ لا لا، الأمر لا يوحي بذلك، فلو كان كذلك لما استنكفت الأصوات أن تتعالى، إذا قمار؟ لكن المقامرون ينحنون إلى الأرض."

نفذت منه الاحتمالات وكاد الفضول يقتله لو لم ير ذلك الشاب وقال:

"آه، ها هو صاحبنا، هه، سيدي زبل، ترى ماذا يفعل؟"

وما إن انتهى من حواره الداخلي حتى إذا بقطعة من فئة عشرة دراهم توضع في كف بيضاء بين غابة من الأيد الممتدة نحوها، فأدرك أن الأمر يتعلق بترويج المخدرات.

أزاح يده عن مقبض الحقيبة ممسكا إياها باليد الأخرى من الحزام، وعلقها على كتفه بعد أن أضنت عضلات يده الهرمة. ثبت قبعته على رأسه مخفيا جزءا كبيرا من جبهته وأتبعها بنظارات شمسية يبدو عليها أنها طلقت الموضة منذ أمد بعيد، فلم يعد يظهر من قسمات وجهه إلا ما لم تستطع لحيته بعد ذلك أن تحجبه.

ترك مشهد (التبزنيس) متجها إلى المقهى الواقع خلف السيارات المودوعة على طول الساحة. جلس على كرسي بأرضيتها المحدودة بجدران قصبية، وجعل ينظر إلى زبائنها لعله يعرف أحدا. لكن الجميع هناك لا يتجاوز سنهم الأربعين والتعرف على أحدهم بات أمرا صعبا، خاصة وأن أغلبهم كان في سن المراهقة أو طفلا.

طلب من النادل كوب قهوة واستل من جيب قميصه سيجارة قصيرة القد، وضعها مباشرة بين شفتيه دون أن يتفحص بيده الطرف القطني فيها، فأشعلها بعدما جاءه النادل بطلبه، وسرح به فكره:

عشرون سنة ونيّف، لاشيء تغير، سوى وجوه لم أكن أراها، أو كراسي وطاولات عوضت الحصير في المقهى، وهذا التلفاز بالألوان الذي حل محل سابقه بالأبيض والأسود، وموديلات السيارات التي تتغير عاما بعد آخر، أما الأسوار فكما هي، تخفي المعاناة خلفها. المباني تشتكي من قهر الزمان. الحمير تشارك الناس في الطرقات. حتى كلاب المستودع فهي لا تزال كما كانت مستلقية على قارعة الطريق لا تأبه بأحد من البشر. البشر، الناس، المروك، كلمات لم يكن لها حظ في الحسبان لدي، وكل ذلك من هؤلاء الذين أحبوا العيش تحت الأقدام ورضوا بالذل والهوان، فعشت بينهم كالسيد بين العبيد والجواري، إلا من رحم ربي ممن أشهد لهم بالقطيعة مع النفاقـ إلى أن فعلت فعلتي تلك فتركت الجمل بما حمل.
غير وضعية رأسه نحو الأفق وجعل ينظر في زرقة السماء مكملا تفكيره. أتراك لا تزالين جميلة وضاءة لأن تتركي ضحايا لجاذبيتك.

ترك وجهه نحو الأفق وتتبع لهيب السيجارة بعينيه.

ضحية من كان التهامي؟ ضحيتي أنا الذي قتلته أم ضحية جمالك الذي فـُتنت به؟ أم كلانا ضحيتك؟ هو لأنه زوجك وأنا لأنه لم يسبق لأحد وأن وقف في طريق ما أريد، فكان التهامي ذكيا فطنا حتى ألقى به عناده تحت وطأتي.

اجتر دخان السيجارة ووضع يده على خده:

لا، لم نكن نحن الضحيتين فقط، بل أنت نفسك ضحية لجمالك، فكم كنت وأشهد بذلك مخلصة لزوجك، وذلك ما كان ينبش كبريائي. والرابع الذي هو ابنك: كان أكثر حظا من أبيه في تلك الـ...
فإذا بهمس كسابقه الذي كان عند الباب يخرجه من فكره:

"بوالحبال قادم."

ثم إذا بسحابة من الناس تنقشع شيئا فشيئا عن ذلك (البزناس)، حتى أن وصل إلى المقهى ولا يزال اثنان يرافقانه:

"السلام عليكم."

"عليكم السلام."

"صباح الخير حسن."

"سي حسن كيف أصبحت؟"

"خويا حسن الله إحفظاااااك."

كذلك بدأ حسن بوالحبال ملقيا السلام، فتبادرت الأفواه داخل المقهى ترد التحية بابتسامات وبأحلى الردود.

انزوى بوالحبال في ركن لا يكاد الضوء يبلغه بعدما اتجه إليه مباشرة دون أن يلتفت ليبحث عن مكان آخر يجلس فيه، كأنما قد حجز له. وذلك هو المكان الوحيد من المقهى الذي لا يتجه إليه أحد، ولا أحد يتجرأ هنا على الجلوس فيه اتقاء شر بوالحبال.

رنا بصر الرجل إلى الداخل فجعل ينظر إلى بوالحبال في فضول واهتمام لما يرى من مشاهد تثير استغرابه. حدة الضجيج داخل المقهى تناقصت. يتحدث بوالحبال ومرافقيه مذعنين له وواقفين، أما البقية فكلما مرّ أحدهم بجانبه سلم عليه مطأطئ الرأس في تودد.

تاه الرجل بفكره مرة أخرى يتذكر الماضي وأيامه التي كانت أقرب مما عليه بوالحبال الآن.

وقف بوالحبال والشابان يضحكان مما يحكيه لهما. وفجأة، إذا بصوت لطمة على وجه أحدهما تتفرقع في آذان الجالسين مثيرة استغرابهم ودهشتهم، فعاش الجميع خلالها لحظة ذهول مما عاينوا من انقلاب في حال بوالحبال، إسهاب في الضحك أوقفته لطمة قوية منه. في وجه من؟ في وجه أحد مقربيه.

فأخذ بوالحبال بمجامع ثوب الشاب وقال:

"أين الكيلو والنصف أيها الوغد."

فرد الشاب وهو في موقف لا يحسد عليه:

"أي كيلو ونصف المعلم؟ عماذا تتحدث؟ لا أفهم شيئا."

"أتستحمرني أيها الحقير؟ كيلو ونصف من الشكلاط. انطق أين هو الحشيش؟"

تمتم الشاب وازداد احمرار وجهه:

"ماذا؟ الحشيش ما علاقتي به؟ لا أدري؟"

"ثلاث قطع وضعتها البارحة فوق الطاولة، ولا أحد دخل المكان بعدي غيرك."

"أقسم لك بــ..."

فقاطعه بوالحبال بقبضة من يده كادت أن تهشم فكيه:

"إياك أن تقسم، رأيتك بأم عيني، لا مجال للكذب، وستدفع الثمن غاليا."

وما إن انتهى بوالحبال من كلامه حتى إذا بالشاب يُرفع باستسلام على طاولة كبيرة وسط المقهى، وثبته قرينه بحبال طويلة لا تدع له مجالا للحراك، لفها حول جسمه وأبقى يديه طليقتين.
صرخ الشاب متوسلا:

"الرحمة المعلم، الرحمة، خطأ ولن يعاد."

فرقت بعض القلوب للشاب لما يعلمون من هول الموقف وللرد القاسي الذي لا يستطيع أحد أن يتوقعه من بوالحبال حتى يراه.

"الله يسامح أسي حسن."

استدار بوالحبال بسرعة رافعا إصبعه كعلامة تحذير :

"لا شان لأحد فيما أفعل، وأحذركم أن يتفوه أحد بكلمة."

فلاذ الجميع بالصمت متحاشين ما لا قوة لهم عليه.

وواصل الشاب توسله في يأس دون اكتراث من سيد الموقف الذي وضع يده اليسرى في جيبه وحمل مطرقة في يده اليمنى، فاقشعرت الأبدان دون أن تتصور العقول ماذا يمكن أن يحدث. أقبل عليه ووضع ساق رجله على يده وقال ساحقا الكلمات بفمه.

"إلا الغدر والخيانة، وأظنك قد رسبت في الاختبار، والرسوب معي مكلف جدا."

استل يده من جيبه بسرعة الضوء هاويا بالمطرقة بيده الأخرى على كف اليد الممتدة على الطاولة، فانبعث من داخل المقهى صرخة كانت كافية لاستدعاء الناس من كل أرجاء باب بردعين وتزيمي ودرب الجامع للتجمهر أمام باب المقهى.

أخذ مسماره الثاني من جيبه بعدما تبث الأول اليد على الطاولة، واتجه نحو اليد الأخرى بخطوات متقاربة، وغطى الجميع أعينهم دون أن ينبس أحد بكلمة بعدما لم تترك سرعة ومفاجأة الحادث السابق مجالا للتفكير.

لم يتوقف عن التوسل رغم يأس قاتل وصوت فاتر أملا في النجاة بيده الأخرى.

"الله يرحم عمي التهامي، الله يحفظ لك خالتي خديجة."

دوي كالصاعقة، كذلك كانت العبارتان في أذني الرجل العجوز. أشد من الصرخة السابقة. تصنم لا يدري ماذا حل به.

ماذا؟ التهامي؟ خديجة؟ كيف لم أنتبه والجرح عينه على وجهه؟

تراجع بوالحبال عن ضحيته، فاحمر وجهه وانعقد لسانه احتراما لروح أبيه وتعلقا بحب أمه. طأطأ رأسه واتجه نحو الخارج والطريق تتفسح أمامه من الجموع المتفرجة، وقال:

"احملوا الوغد إلى المستشفى."

خلت أرضية المقهى من المتجمهرين، وركض الجميع إلى الداخل بين رائف وفضولي ومستخبر وشامت، إلا الرجل الشيخ الذي بلغت به الدهشة ذروتها من وقع المفاجأة التي أتت برياح لم يكن يشتهيها .

تاه به عقله مجددا فيما مر بين عينيه من قسوة لم تسبق وأن مرت بباله وهو في أوج جبروته، وما رأى من ردة فعل حسن بعد سماعه اسمي والديه أدرك بها مدى تعلقه بهما وخطورة الأمر عليه هو الشيخ الهرم.

فكان حريا به بالطبع أن ينتكص نحو باب بردعين ناكسا رأسه يجر أذيال الخيبة.


مطلع عمل روائي لم ينشر بعد بعنوان آمال وحبال لسعيد الأمين، المغرب.

D 1 كانون الثاني (يناير) 2007     A سعيد الأمين     C 0 تعليقات