سعد هدابي - العراق
نزيف المومياء: نص مسرحي
الشخصيات: الخادم. السيد يور. السيدة يور. وافد. الشيخ. سارة.
الخطاب المسرحي عبارة عن بانوراما مشهدية مفترضة وفق رؤية فنية تغازل الواقع عن كثب. أقفال بمختلف الأحجام تمثل ملحمة لمقبرة جماعية أسفل تل رمادي دون عناوين أو حتى رائحة موت. الأقفال هي مفردة منشطرة على بعضها وتختزن الزمن وبذلك هي أحجام متحركة (ديناميكية) ضمن منظومة الفعل الحركي الحي، وتشترك افتراضا مع كل ما يدور. ولكل قفل مفتاحه الخاص، فهو ملغوم بالأسرار وتعتمل بداخله ضروب شتى من الإرهاصات. ومن خلف التل تتجسد هالة ضبابية لأفق مدلهم بثوبه الناري عند الأصيل وتشخص (أوروك) بأطلالها الشبحية. وهناك أرجوحة الى جانب التل عائمة في الفضاء وراحت تتحرك بفعل تلقائي، بالإضافة الى إشعاع اخضر راح ينبعث من مغارة داخل التل. على اثر ذلك يدخل الخادم برأسه الموميائي وهو يحمل وعاء من البخار. يتقدم الخادم صوب الأرجوحة المتحركة التي تمثل الوجود غير المرئي للسيد يور.
الخادم: عفوا سيد يور، كنت قد بحثت عنك في كل اتجاه.
يور: ماذا هناك؟
الخادم: سيدتي كانت قد بعثت إليك بهذا المصل. (إشارة إلى الوعاء).
(الأرجوحة تتحرك بغضب)
الخادم: فهمت، أنت تفكر إذن يا سيد يور، معذرة إن اقتحمت عليك خلوتك، ولكن...
(الأرجوحة ترتفع وتختفي ويأتي صوت السيدة يور من الخارج)
صوت السيدة يور: أنت أيها الخادم؟
(تدخل السيدة يور غير المرئية وهي تدفع بعربة أطفال وفيها طفل عبارة عن رأس كبير)
السيدة يور: هو لم يزل غاضبا إذن؟
الخادم: كيف لا وسيدتي لا تلد له سوى الذكور.
السيدة يور: أنوثتي بئر ترتوي منها صبارات البوادي جميعا لو شئت. أفلا يكفي ذلك حتى (تصرخ). تأملني جيدا أيها القذارة، وسيلهج في غورك ثعبان ينفث سم ذكورتك. ثم إن سيدك ما عاد يهتم، أفلا تهتم؟ ما بالك تسمرت؟
(الخادم يدور حول السيدة يور غير المرئية)
السيدة يور: أخائف أنت؟ هيا، هيا، وغادر سبات عبوديتك وسأعتقك إن أعلنت النفير، هيا وتحسسني أيها البليد.
(الخادم يتحسس هيئتها غير المرئية بأنامله ويرسمها في الهواء)
السيدة يور: اجل، هكذا، ملامسة ساخنة أخرى وستجدني أتجسم شغفا، فانا مغرمة بقذارتك مذ ولدتك أيما غرام. أنت يا أنتن الأغوار وأشدها مسخا، هيا.
(الخادم لم يزل يتحسس هيئتها بأنامله)
السيدة يور: هيا وافترس قامتي التي غادرها يور. آه، شوط آخر من الشهقات وسأتجلى لك في هيئة فتاة بدوية، وما عليك سوى أن تشم جسدها الأهيف شما يفتض عفتها ويهبها عارا مجانيا ابد الدهر. هيا واقتنص اللحظة مادام سيدك قد فتح لك ثغرا في أسواري.
(تتحرك يد الخادم التي لم تزل تمسك بالوعاء كمن تدفع به إلى فمه)
السيدة يور: هيا واشرب إكسير النشوة ولا تهتم، فنحن سلالة طارئة لا تحكمنا أعراف أو سنن معهودة ما دمنا في مشوار البدء، لم لا تبدأ؟
(الخادم يشرب ما في الوعاء، فجأة نزل من الأعلى قفص عبارة عن عظام متداخلة لبعض الموتى. يحيط القفص بالخادم، يصرخ الخادم بعد أن يعتصره القفص حتى الموت)
السيدة يور (وهي تخرج وتدفع بالعربة): يور، لا يزال هناك شوط آخر أيها العقيم.
(موسيقى. لحظات ويظهر الشيخ من داخل المغارة وهو يحمل قرص مفاتيح. يحرك المفاتيح فتصطف الأقفال التي تمثل قبورا. الشيخ يقرأ بعض التعويذات ثم يوقد بعض الشموع، وان هي إلا لحظات حتى يظهر وافد حاملا حقيبة السفر. ينظر إلى المكان باستغراب ودهشة. يقع نظره على الشيخ)
وافد: أنت، أنت أيها الشيء؟
الشيخ: أشيئا تدعو أم شيخا يا حليف الحسرات؟
وافد: وكأني بك تعرفني أيها الراعي.
الشيخ: رايتك قبل هنيهة مسرجا لهفتك من ضيق وإعسار.
وافد: ماذا؟ كأنك تدرك ضالتي؟
الشيخ: ضالتك تنأى عنك حرجا يا ولدي.
وافد: لم افهم، لقد تركت في هذا الوادي أهلا وعشيرة، أين هم؟ هل ابتلعتهم الرمال المتحركة؟ أم صاروا مسخا؟
الشيخ: تركت؟ أتقول تركت؟
وافد: نعم، وكان علي أن احضر دليلا بعد عودتي من، من هناك.
الشيخ: أيحتاج المرء دليلا ليجس موضع قلبه يا ولدي؟
وافد: كفاك مهاترة يا هذا.
الشيخ: هكذا إذن، حسنا سأغور كما غارت قبيلتك المزعومة ولن تراني ثانية.
وافد: ماذا؟ ماذا تقول؟ هل غاظك مزاحي أيها الشيخ؟
الشيخ: بل غاظتني خطيئتك يا ابن الهناك.
وافد: لم افهم.
الشيخ: نسيت الجذر بعد أن أورق غصنك.
وافد: أنت تهينني؟
الشيخ: إهانة الأموات إساءة تنهى عنها أعراف أهلي.
وافد: الأموات؟ أتحسبني ميتا يا هذا؟
الشيخ: ليتك كذلك. والله لو أني قدمت محمولا على الأكتاف لأشرت إلى موضع دفني ها هنا.
وافد: كفاك تقريعا أيها الراعي.
الشيخ: يا للخيبة. أنت كغراب جدتي: أضعت ألهنا وألهناك. هجين أنت يا ولدي.
وافد: رفقا بي يا شيخي، فانا ما زلت أجهل مغاليق الأمور.
الشيخ: أيداخلك شعور بالرهبة؟
وافد (وهو يصعد فوق التل): بل يداخلني إحساس بالغربة، مع أن هذا التل المسفوح شاهدي. هنا كنت اجلس عند المساء، أتطلع إلى قرص الشمس الناري وهو يبحر في الأصيل فتتشظى داخل روحي المضطرمة ألاف الرغبات، واستل ناي جدي اليتيم، وتنثال أنغامي شجية حالمة. هناك في هدأة الليل تأتي فاحمة العينين بوجهها السطوع. إنها سارة، زوجتي، تحمل بين ذراعيها يوسف فيغرق الكون بكركراته البريئة، ونلتحف نحن الثلاثة بدفء سعادتنا، وهناك عند الصبح تقف أمي وهي تسجد تحف بها ملائكة عذاب وتركع عند قدميها آلاف الجنات، وملايين الشموس. (يصرخ). أين مني ذلك الأمس؟ أفاجر أنا حتى يضرم القدر بوجهي كل هذا الجحيم؟ أمأفون أنا أم مذهوب العقل فلا أدرك ضالتي؟
(يلتفت وافد فلا يجد الشيخ)
وافد (ينادي): أنت أيها الشيخ، أيها الشيخ.
(ينزل السيد يور بواسطة الأرجوحة)
السيد يور: هلا يتواضع سموك ويترجل عن عرشه (إشارة إلى التل). إنه عرش من رمل فلا تصعر خدك وتغتر. نعم يا صاحب الجلالة، ذلك لأنك في تيه لا يتوانى عن قهرك إن أطبق فكيه اشتهاء.
وافد: ماذا؟
السيد يور: نعم، فالتيه في هذا المكان يلتقم الحصى ويجتر الدجى مذ وطأه ادم في أبجديته الأولى. أعوام عشرة انصرمت وأنا أمشط بأهدابي تضاريس هذا الشق من الكون، اعرف عدد تضاريسه مثلما اعرف أبنائي.
وافد: لا، هذا ماكنت أظن وأخشى. إنه هجير محشو بالعفاريت. ولكن، ولكن لا. إن عفريتا يأنس غربتي لهو اقل وحشة من غياهب الجهل. من أنت أيها المسخ؟
السيد يور: مسخ؟ هكذا وبكل بساطة. ثكلتني أمي إن لم تكن قد فررت لتوك من مصح. أبداً ما كان يصح أن أثق بحملة الشهادات، هكذا هم دائما، يتشدقون بالألفاظ النزقة ويبصقونها على الأسماع وكأن الخليقة سلة نفايات أولاد ال...
وافد: كفاك نهيقا ودعني أتأمل.
(وافد يتناول جذع شجرة هش ويضرب به رأس السيد يور فيتدحرج الرأس على الأرض، يور يطلق الضحكات وترتفع الأرجوحة إلى الأعلى. وافد يمسك بالرأس. لحظات ويظهر الشيخ من مغارته وبيده مكنسة وراح يدفع بالعديد من الرؤوس المطابقة والمشابهة إلى رأس السيد يور الذي بين يدي وافد)
وافد (وهو يرمي بالرأس بين الرؤوس): يا إلهي ما الذي يحدث؟
الشيخ: أفق من غيهب جهلك، وتطلع إلى تلك الصروح المدلهمة (إشارة إلى الأقفال). ماذا ترى؟
وافد: هي أطلال لم أعهدها من قبل.
الشيخ: أتظن ذلك؟
وافد: ذاكرتي لم تغف مذ غادرت والظن لا يمحق بصيرتي فيما أرى. بيد أني أتوجس أحيانا خلط الأوراق.
الشيخ: الم تدرك بعد؟
وافد: لم افهم.
الشيخ: ولن تفهم ما دمت لم تدرك بعد.
وافد: أخائف أنت حتى تهذي بكلمات لا أفقه معناها؟
الشيخ: أنا والخوف ندان لا وشائج بيننا. وكيف يخاف من تجرع المنايا واستوطن ضروبها عاشقا؟
وافد: العشق؟
الشيخ: وأيما عشق، أن أدبر فيه المنو ن نازعته حد العناق، فأنا معه المغيث والمستغيث، فلا أنهره أو حتى أمنعه.
وافد: أي منون تعني؟
الشيخ: من يأتيك مسرجا حربه بلا هوادة.
وافد: الحرب، سمعت. سمعت عنها، هل خضتها؟
الشيخ: خضتها؟ قل كم قرن غفوت تحت ظلالها الحرور؟ وكم أينعت في جنبي من أورام لم تزل روحي تتقيأها كلما أبصرت ظل رصاصة؟ لم اخشها إلا مهابة لها. وكيف لا أهابها وقد أحصيت أسماءها كما تحصي أنت ألفاظك من أفواه ألهناك تاركا خلفك وطنا استحال إلى خارطة مفعمة بالحجابات؟
وافد: الحجابات؟ أي حجابات؟
الشيخ: الحجابات يا ولدي شق في وحل الموت، فيه يشاطر هدهد سليمان حبته اليتيمة مع شبح الموت ليخرس شراهته المرذولة. وكما يستظل الراعي بكفه، يصبح الخلاص أمنية تطير بألف جناح، وأنت تقبع في قاعك اللزج تحلم بجناحي خفاش حقير.
وافد: أنت تبالغ يا هذا، لقد، لقد قرأت عن الحرب، فلم أجد بين ممن أشعلوا فتيلها أو حتى ممن صاروا حطبا لها أن يتحدث بهذا المنطق المهزوز الرخو. كانوا يصفونها بالنزهة، حتى أن نابليون كان يراقصها بنشوة عارمة واصفا إياها بفينوس.
الشيخ: فينوس؟ اقسم لو أنها راقصته الساعة لفر من كفنه. ثم لمَ لمْ يتنزه سموك بين جمراتها؟
وافد: نزهتي كانت اشد إيلاما وأكثر وقعا، فكما تحتاج الحرب إلى يد ضاربه فهي وفي الخندق الآخر أحوج ما تكون إلى يد تمخر عباب المعارف.
الشيخ: المعارف؟ ياه، ما أحوجنا اليوم ليد تمخر عباب جهلنا لنعرف أي النجدين نريد. بل ما أحوجنا اليوم الى صحوة حتى وان كانت صحوة موت.
وافد: شقيت بك يا شيخي.
الشيخ: شقاؤنا أمر يا ولدي، وجل ما أخشاه أن تكون قد وقعت داخل خارطة وهمك.
وافد: بل داخل خارطة انتمائي أيها الشيخ.
الشيخ: انتماؤك؟
وافد: نعم. إن نظرة واحدة لتلك الصروح تكفي لان توقظ في روحي هاجس الانتماء، فكيف بي وأنا أتنسم عبيرها.
الشيخ: لا أظنك كذلك يا صاح، لقد خبرناك كما يخبر المأسور غله.
وافد: أنا المأسور من دون غل يا شيخي.
الشيخ: حشد من الأوهام.
وافد (يصرخ): كف عن مقارعتي.
الشيخ: الم تدرك بعد؟
وافد: لم افهم.
الشيخ: ولن تفهم ما دمت لم تدرك بعد.
وافد: عن أي شيء تتحدث يا شيخي؟
(الشيخ يهز قرص المفاتيح ويدور وسط الأقفال فتتشكل على هيئة دائرة.)
الشيخ: عن فاجعة طفحت بالكيل وأعادت قصة هابيل وقابيل. نعم يا ولدي، فأبونا ادم ما عاد يطعمنا أبجديته الأولى، ولم نحفظ من مسلته غير الفاعل والمفعول، وجريمتنا البكر افتضت بكارتها حتى أضحت حبلى بالأدران، كعاهرة تجهل من واقعها خلف ستار خطيئتها.
.
وافد: سأجن من هزال يقيني، أدركني من شحيح قولك وأطنب بالمزيد.
الشيخ (وهو يدور وسط الأقفال ويهز المفاتيح): آه، قتلتنا الغفلة يا ولدي.
وافد: ماذا تفعل بالله عليك؟
الشيخ: أرعى شياها جائعة نحرت قسرا وبغير شرعة.
وافد: كف عن مقارعتي قلت، فالجوع ينشب أظفاره في أحشائي كنصل آثم منذ دهور.
الشيخ: الجوع يذهب العقل أحيانا ويلقي بصاحبه في فقر الفاقة، بل ويدفعه للكفر إن لم يحترز، فقديما قالوا إذا دخل الفقر إلى مدينة قال له الكفر خذني معك. نعم، فالمعدة الخاوية لا تعرف الإيمان إذا ما قهرت.
وافد: أمدفوع للكفر تراني؟
الشيخ: أراك ملغوما باليأس، وهو اشد ضلالا من الكفر إن لم يدهمه يقين زاجر.
وافد: الآن أيقنت أني برفقة عفريت.
الشيخ: ربما، فأوروك تزخر بالغموض مثلما هي زاخرة باللقى.
وافد: أمط اللثام عن وجه الحقيقة وأنبئني، فلقد جردتني الغربة هناك بلغة الكلام وبلاغته.
الشيخ: غير مأسوف عليك يا ولدي ما دمت قد خسرت حربك.
وافد: الحرب أيضا؟
الشيخ: الحرب مأدبة الشرفاء من الجوعى، فحين ينهمر الردى يرتكن الخانع بملاذه الآسن ويتلقاها الأماجد في عناق حميم.
وافد: الحرب. الحرب. الحرب.
الشيخ: الحرب روض يغفو فيه اليابس على نعش الأخضر، ينعم فيها القحط، ويقحط فيها كل منعم، الحرب لباس من حرير وقطران، الحرب دفء بارد وظلال حرور، الحرب يقين كاذب وباطل حق، يدرك فيها الليل أستار النهار، وينهار أمام سديم ليلها الواحد ألف نهار.
وافد (يصرخ): أجهضتني بكلماتك الحروب يا شيخي.
الشيخ: أنت مقتول بذات الغفلة يا ولدي. ياه لكم تغيرت يا وافد!
وافد: وافد؟ أنت تعرفني؟
الشيخ: يا للخيبة! لكم أبحرت بعيدا! لكنك كنت كمن صنع قاربا جديدا من خشب قديم وأبحر.
وافد: رفقا بي يا شيخي.
الشيخ: أرفق أنت بهدأة الوادي الرقود، ولا تزد من عقوقك وتجحد.
وافد: يا هول ما تقول!
الشيخ: أفق من غفوتك وتأمل تلك المغاليق (إشارة إلى الأقفال).
وافد: أي مغاليق؟
الشيخ: أقبية تجتر الردى، وتختزن الحسرات، الوأد أجهضها الوجود (يبكي).
وافد (يصرخ): الوأد؟ أتقول الوأد؟
الشيخ: لا تصرخ، هم نيام، لا زالوا يمضغون اليورانيوم.
(يبكي الشيخ ويدخل المغارة)
وافد (يصرخ ويتجه إلى المغارة): ويلي، أتحسبني ماجنا ومخفوع الفؤاد فلا أطفق بالبكاء واصرخ. والله لو أن سنابك خيولهم سحقت هامتي لما راعني ذلك أكثر من خبرك ارتياعا.
(يجثو على ركبتيه أمام الأقفال وينثر التراب على رأسه)
يا ويح شرور الدنيا ويا عظيم غدرها، أهكذا أقف عند أطلال أهلي نادبا كامرأة ثكلي فقود؟ أألثم الحجارة منهم تقبيلا، أم أبصق في وجه غربتي هناك؟ أعاق أنا أم جحود حتى أبلى بعزاء أهلي؟ (يندب). وي، وي، ويلي.
(لحظات وينبعث ضوء اخضر من داخل المغارة ويتجسم ما يشبه الضريح وينزل صوت الشيخ)
صوت الشيخ: كعصف مأكول صاروا، وكمضغة عقار يبست عند شفاه محتضر مات قبل قرون، عصفت بهم ريح من لهب ودخان، فهجعت أرواحهم في أديم أوروك دون أكفان أو غسول.
(وافد يزحف تجاه الضريح)
صوت الشيخ: صل، صل لأجلهم يا ولدي، فالصلاة على روح مقهورة كزكاة البدن حتى يبرأ من دائه، فهي تعبر الحجب بغير جواز.
وافد (يشعر بارتجافة في جسده): وكأني بك تراهم دون حجب المغاليق؟
صوت الشيخ: لو نفذت بصيرتك إلى أعماق طهرهم لصارت لك جوازا ولرأيتهم يسبحون في بحر المنون بلا خطيئة. إني أراهم هكذا مذ عانقت بصيرتي أسفارهم المطهرة.
وافد: لم افهم.
صوت الشيخ: ولن تفهم ما دمت لم تدرك بعد، فأنت تعاني شرخا في المؤالفة.
وافد: وكيف لي أن أراهم يسبحون؟
صوت الشيخ: صم عن المطاعم ولذات الحواس ورهب قواك ترهيبا فسيشتعل يقينك وستراهم يسبحون.
وافد: وهل سبحوا جميعا؟ الم ينج منهم أحد؟
صوت الشيخ: لا أحد يعلم، فأوروك غامضة في لججها ومزدانة بالأسفار كعهدها حتى صارت أما للطهر وللأسفار. ولكن حين يكون البدر محاقا تنفرج أوروك وتدلع ماتكتنز في جوفها ويفيض الوادي مترعا بالغرائب إذعانا لنزيف مومياء محزونة.
(مؤثر أنين يختلط مع عواء ذئب موحش، ويتغير الجو العام)
وافد (وهو يتمسك بالمحراب داخل المغارة): ما الذي يحدث يا شيخي؟
صوت الشيخ: إنها هي يا ولدي.
وافد: من هي بالله عليك؟
صوت الشيخ: حتى أن الكثيرين أبصروا طيفها وهي منهمكة بالطواف حاملة ولدك يوسف وابنتك مريم.
وافد: سارة؟ زوجتي وملاذ عمري؟
صوت الشيخ: هكذا تتواتر الأخبار عنها.
وافد: ومتى تظهر؟
صوت الشيخ: إذا ما أريد لها أن تظهر.
وافد: وإذا ما أردت أنا؟
صوت الشيخ: فلتحج نظراتك لتلك الصروح ألف ليلة وليلة حتى يأمنك اهلك.
وافد: ما هذا يا شيخي؟ أيأمنك أهلي إيثارا وأنا الابن...؟
صوت الشيخ: ابن ضال أنأى من غريب وابعد من قصي.
وافد: حسبك أيها العارف فلقد قطعت نياط قلبي فانا الفاقد والفقيد
صوت الشيخ: فلتعلم أبدا يا ولدي: لا يستقيم الظل والعود اعوج.
(تختفي الإضاءة الخضراء. وافد يغادر المغارة)
وافد: واغربتاه. أهكذا أعود فلا أجد غير جلجلة الموت. أين رائحة المسك؟ بل أين عقال أبي وحرمل أمي ودعواتها عند المساء؟ أين تنورها الطيني؟ أمي يا مرآة الطهر، ويا قافلة شعر. ليتني أعلق بنبع أمومتك ثانية دونما رجعة، فحلكة هذا الوادي اشد ظلاما من كل أرحام نساء العالم. كل الكلمات خؤون حين تطال الوصف، إذ لا وصف لشهقة يغتص بها خافق أم.
(يدور وسط الأقفال)
وفد: أين (كاروك) يوسف و(حجلة) مريم؟ أين منابت الكروم وأعراشها؟ أهكذا هن حبيسات أقبية سحيقة؟ من منا لا يرنو الى وقع خطوات طفولته وهو يمرح في الأزقة العتيقة الآمنة؟ صبايا الحارة وهن يعقدن ضفائرهن البكر بخضاب الحناء؟ جدتنا التي تروي لنا حكايا ( السعلوة) و(الغول)، و(ملبس) عطار الحارة صيهود؟ من منا لا يتذكر أهازيج الفرح الأول؟ ترنيمة عرس؟ أو طقطوقة ختان؟ آه، ذبحوا الذاكرة كي ننسى الجذر، أقاموا الحد على كل الأزمان كي ما يبقى زمان. نصبوا مقصلة تحت عواميد النور ليغتالوا الفجر بكل فجور.
(يصرخ غاضبا)
وافد: الفاجرون، الأفاقون يسوحون في العري والمهانة، ويستبيحون مواطن الأهل والجار والحبيبة. يفترشون الطرقات، ويتوسمون شارات صنعت من أقراط صبايا القهر، ويتقلدون سيوفا يطرقها حداد اخرق يمتهن الوأد، ويتلون قسم الفجار بلسان عار مبتل بالدم.
(يندفع صارخا بين الأقفال)
وافد: أيها الغارقون في بحر الصمت، أغيثوا غرابا أمسى ناعقا عند أطلالكم. أي حنوط اقض مضاجعكم؟ والله لو أن مومياءات الكون جميعا حضرت الساعة لنطقت من هول يبسكم.
(يحرك الإقفال)
وافد: أيجمد في عروقكم النبيلة القيح والصديد، وينبض في خارطة عروقي الرخص والمجون؟ نعم لقد ماجنت هناك حتى العظم. كنت العق الرذيلة كما يجتر الخنزير لعابه، حتى سفحت عمري عند أعتاب أرصفة عامرة بالإباحة.
(يبكي ويتجه إلى المغارة)
وافد: نعم يا شيخي نعم، قتلتنا الغفلة، فلكل واحد منا غفلته، وها أنذا أعود متأبطا شهادتي بعد النقود لأبعد السنين وأضعت النجدين.
(يأتي من بعيد مؤثر ضحكات مجلجلة يظهر على إثرها السيد يور)
السيد يور: خطاك الدونكيشوتية لم تبرح ذاكرتي يا سيد وافد. ولطالما أرقني سفرك وأنت تعبر الدنيا، وكم غاظني ألا يكون لك شاخص بهي من بين تلك الشواخص العائمة في هذا البحر الزاخر بالصمت. نعم يا سيد وافد، لقد جيشت أعتى قواي من اجل أن تعود، وها أنت تعود أخيرا، يالسعدي بك! تعال، تعال وتنسم لهفتي وسيشيخ خوفك ويأمن خاطري، وسيكتمل النصاب.
وافد: أي نصاب تعني أيها المسخ؟
السيد يور: نصاب الأهل والعشير.
(يغادر السيد يور، ويبقى وافد بمفرده ينظر إلى الأشياء في دهشة ثم يتجه إلى المغارة بهدوء ثقيل)
وافد: ما الذي يحدث؟ أجبني بالله عليك أيها العارف.
(يدخل من الجانب الآخر سرير قديم يعلوه برقع من القماش وقد جلست السيدة يور داخل السرير وحيدة)
السيدة يور: ياه، لكم تغيرت أيها الحبيب!
وافد: من؟ سارة؟
السيدة يور: لكم اشرأب وجدي إليك، ولكم تكورت خيبة. كانت الأحداق مني تجوب الأفق لعل بعضا من ترائب ظلك في المدى تلوح، فهجرت بعضي ورحت أفتش عن بعض بعضك وأنت في الضفة الأخرى من الدنيا تسيح.
وافد (ينتفض): والله لو أن طيوف الموت احتشدت في قبضتي لأمطرت هذا البعض مني حتى يفنى أثري.
(السيدة يور تمد يدها العارية خارج السرير)
السيدة يور: تعال، تعال أيها الفاتح. تعال وأفتض سور مدينتك المهانة بصولجانك، تعال لاغترف من مائك العذب نطفة شهد، فالمر سمرني إلى سريرنا اليتيم مذ غادرت.
وافد (يجفل): أيتها الحبيبة، ما عهدتك إلا أميرة للحياء.
السيدة يور (وهي تلوح بيدها العارية): دع أجراسنا التي غادرها الرنين تصخب، ولنقم طقسنا الأوحد جهرا وبلا حياء. آه. (تتحدث بلهاث). قلاعي تذوب نشوى أيها الفاتح، وأسواري تمور لهاثا. ها أنذا بين يديك بلا حصون، امرأة وسرير، ما الذي يغريك أكثر من ذلك؟ هيا، هيا، فالكل نيام. أجهز قبل أن تضيع الفرصة، ولك أن تهرب من جديد إن شئت.
وافد: ماذا؟ أتدعينني للهرب من جديد يا سارة؟ ألا يكفي اني هربت إلى داخل روحي وأذعنت لشيطانها وهدرت العمر؟
السيدة يور: يا للخيبة! أتلفظني هكذا وبكل جحود؟
وافد: ألفظ قلبي من بين أحشائي إن أخطأ في ترنيمته المعهودة حين أراك ولكن...
السيدة يور: كلمات، ليست سوى كلمات.
وافد: وما وصف الرجولة حين تنهمر الكلمات يا حبيبه؟
السيدة يور: للرجولة ميدان تهزم فيه الكلمات فتستحيل شهقات.
وافد (بدهشة): ما هذا؟
السيدة يور: ما بالك جفلت؟
وافد: أنت، لست أنت.
السيدة يور (بلهاث فج): فلنجرب إذن.
وافد (يصرخ): كفي عن العيب، يخدش أسماعي هذا اللهاث الأخرق المريع، أفلا تخجلين يا امرأة، يا أم يوسف؟ ثم إني لا أتذكر أن لنا سريرا نأوي إليه لنقتسم الوجد، كنا نفترش الأرض ونقول الشعر.
السيدة يور: للشعر مناقب، فأعتل صهوتي وقل شعرا حتى الفجر.
وافد (بغضب): كفي عن الرخص واحذري غضبي.
السيدة بور: حينما يغضب الرجال، فعلى النساء أن تتوارى مندسة في الفراش بهدوء أفعى، فما من شيء يدرأ أسنة الرجال الغاضبة غير أجساد مثخنة بالجراح. تعال وأثخن
جسدي بجراح لا تندمل أبد الدهر.
وافد: يا ألهي! أبمثل هذه الفجاجة نلتقي يا أم يوسف؟
(يقترب منها، تمسك به وتسحبه إلى داخل السرير المبرقع)
السيدة يور: دع الوجود يتفوه بلقيانا. صار لزاما أن اغرس من صلبك أوتادا تمتد حتى ذلك الأفق اللامتناهي.
(ما أن يدخل وافد السرير حتى تتحرك الأقفال في صخب وتتغير مواقعها، وان هي إلا لحظات فنرى وافدا وقد سقط من السرير وهو يصرخ. وفي نفس الوقت ينسحب السرير الى الخارج ويبقى وافد ممسكا بوجهه بكلتا يديه وراح يتمرغ على الأرض، في حين تظهر السيدة يور من جديد في العمق وهي تستحم أسفل دوش وقد وقف السيد يور وهو يمسك بعصا القيادة على أنغام سيمفونية ترافق حالة الاستحمام، في حين زحف وافد تجاه المحراب. ينتهي مشهد الاستحمام. تنبعث الإضاءة الخضراء من داخل المحراب، ويظهر الشيخ)
الشيخ: هل أدركت الآن يا ولدي؟
وافد (يصرخ): لم افهم.
الشيخ: ولن تفهم ما دمت لم تدرك بعد.
وافد: هكذا أنت مذ أبصرتك. ينازعني فيك اليقين تارة، وتمطرني فيك الريبة تارة أخرى.
الشيخ: حشد من الأوهام.
وافد: أنا مصلوب بالحقيقة لا بالوهم أيها العارف، وسأقبع في هذا الوادي كالفزاعة حين تعرش على هامتها الغربان حتى تتقد بصيرتي وأنفذ.
الشيخ: هل هدأت نفسك الآن؟
وافد: إن بيني وبين نفسي قطيعة لا هوادة فيها. ولدت هنا لتقبرني ها هنا.
الشيخ: أجننت؟
وافد: بل آمنت.
الشيخ: أتريد أن تموت ها هنا؟
وافد: الموت هو سبيلي الأوحد لموافاتهم، وسأحرس هذا الوادي حتى تلتحم روحي بين ثناياه.
الشيخ: ألا تخاف؟
وافد: ما عاد للخوف عرين في قلبي.
الشيخ: لكنك البقية الباقية يا ولدي. كلنا قبور تجوب المعمورة، حاملة رثاءها، قبور تختزن الحسرات ومفعمة بالأسى. قبور تتصل ببعضها فتستحيل جسورا للعابرين من آلهة البشر، مملوكون حتى العظم. وآلهتنا التي صنعناها ما انفكت تخط المسلات بدمائنا، وتهتك أعراضنا، وتستحيي نساءنا. ما أن يبتسم إله حتى ندفع بقربان. ما أن يغضب إله آخر حتى ندفع بقربان أفدح من سابقه. آلهة وقرابين، وسفر من الرخص، مذ حمل قابيل الحجر الأول وأطاح بهابيل، حتى صار للجريمة أحفاد شرعيون. حجر تحت اللسان، وآخر بين العيون. حجر يحصي الأنفاس وآخر يقبع بين الظنون. حجر يشاطرك سريرك، وآخر يترصد خطاك. حجر يمتهن الفتنة ويحرر تهما ويناور، حجر يفتعل الأزمات ويثمل كل مساء بقدح من دم. (يبكي). آدم: أيها النطفة العائمة في رحم الكون، أما آن لك أن تتجلى؟ أن تفترش المدى وتنساب كالشذى؟
(ينسحب الشيخ وسط بكائه إلى داخل المغارة)
وافد (وهو يلحق به): أنا أيضا نزحت من برد الظلمات ولم اصطد في سفري الأوحد غير الزفرات.
(موسيقى تجسد مجهولية العالم الآخر، يأتي مؤثر جلجلة المفاتيح من خارج المسرح فتتحرك جميع الأقفال وتتخذ هيئة قافلة في طريقها لمغادرة الوادي)
وافد (يصرخ): إلى أين؟ لم انتم تفرون مني يا أحبتي؟ (يهتف). يا حادي الركب تريث، لا تستدبر بهم. رفقا بمن أدبرت به الظلمات.
(تظهر سارة في مقدمة الركب، وقد علقت دميتين حول رقبتها راحت تدفع بقفل هو معد سلفا لوافد)
وافد: سارة؟ حتى أنت يا سارة؟ تتقدمين الركب نافرة أنت الأخرى؟
(تتوقف سارة، وكذلك الركب، تنظر، تعود لتدفع بالقفل تجاه وافد، القبر يحاصر وافد من كل الاتجاهات)
وافد (بجزع): أوقفي جلجلة الموت أيتها الحبيبة.
(فجأة يتوقف كل شيء)
سارة: من أنت؟
وافد (بدهشة ولوعة): يا إلهي! والله لو أن رسل الشياطين تجسمت في جبهتي لما جازت لك الطبيعة إنكاري. سلي مقلتيك فحسب يستصرخك رسمي الزاحف إلى قلبك إياه أنا.
سارة (وهي تشير إلى القفل): الآن وقد اكتمل النصاب، فلم يعد في وسع قبرك أن يكون شاغرا بعد اللحظة، فارتكن في جوفه البارد كما يرتكن الخنوع في قاع جبان، فلطالما أوجع روحي قبرك اليتيم هذا.
وافد: ماذا؟ أتظنينني ميتا يا أم يوسف؟
سارة: انظر وجهك يا هذا وتأمل، فقبلاتها قد وشمت وجهك بالطاعون وصرت مسخا لا يستره غير قبر إنفرادي.
وافد: من هي؟
سارة: سيدة النشوة، فاتنة الهلاك.
وافد: كفاك غلوا يا سارة. حدقي في هذا الوجه فحسب وستبصرين أبوتي الحانية.
سارة: وجه من سراب ليس إلا.
وافد: لا، هي تضاريس زمن اغتراب يا وجعي.
سارة: أنكرتنا زمنا، لم...؟
وافد: غفوت فحسب يا حبيبة.
سارة: وها أنت تستيقظ متأخرا، في الوقت الذي كان هو منهمكا بتصنيع الأقفال ونسج الأسرار.
وافد: من هو؟
سارة: السيد.
وافد: أي سيد؟
سارة: من يمتلك سطوة لا تدانيها أي سطوة أخرى مذ غادرت.
وافد (ينفجر): لا، أنا سيد هذا الوادي. أنا من يمتلك الأسرار.
سارة: سيد الغفوات أنت. أبدا ما كان لزاما أن تغفو. غفوتك كانت كالماء العكر الذي تمخض فيه الغدر ليصطاد ضالته. يا للعار. أما أرهفت سمعا صوب وادينا؟
وافد: هوني عليك يا سارة، فما زال في العمر بقية.
سارة: العمر؟ يا لك من واهم. أي عمر هذا الذي تسال بعد أن سفحناه قهرا. كان الموت يهذب بأفراسنا نشوانا طربا، يهب المنايا للجائعين على أرغفة من دم. استباحت الأفواه عنوة فاغتصت بها. بأم عيني للفاجعة نظرت، رأيت شيوخا يجرون كهولتهم فوق السعير ويلعنون الوهن الذي سمرهم. رأيت أشلائهم تتشظى، قلوب تنبض بالغوث، رئات تشهق بالهول. وكما النجوم حين يأفل بريقها كانت العيون تخبو بفتور مخيف وهي تتطلع باهتة إلى غروب أبدي. كان (يور) يحتز الرقاب العصية بمدي من لهيب. تطلعت الى السماء، سمعت نشيج الكنائس، وندب المساجد (إن للوادي ربا يحميه). صرخت بأعلى صوتي: هنا مهد الأنبياء، فهاتوا لنا ألف براق، وألف حجارة من سجيل، وألف ريح عاتية.
وافد: يا للقسوة!
سارة: بل يا للخيبة!
وافد: سارة. (يقترب منها)
سارة (تدفع به بقوة): إليك عني أيها الناعق في يباب أنوثتي، أيها الجمل المتعب في صحراء حياتي.
وافد: ما تقولين يا أم يوسف؟
سارة: إني والله لأستشعرك ملفعا بالخزي فلا تقربني.
وافد: أتلفظينني هكذا أيتها الحبيبة؟
سارة: كما يلفظ البحر أصدافه العقيمة عند السواحل ألفظك.
وافد: سارة.
سارة: وكما ينزع الليل شهبه الكاذبة فيلقي بها صماء في تيه دامس فتستحيل حجرا.
وافد: رفقا بي يا سارة.
سارة: ما دعاك لتحضر أيها الغريب؟، هل أوقدت ذاكرتك بسراج الأمس فحضرت لتستاح؟ (بانفعال) أيها السائح في العري والمهانة.
وافد: ما تقولين؟
سارة: على مشارف وهنك احتضرت رجولتك خارج ميراث الدم. أيا ثغرا في جدار أنوثتي، ويا خسف الأبوة.
وافد: هكذا قدر لنا أن نكون يا سارة.
سارة: هكذا قدر لك وحدك أن تكون. أضداد روحك المهووسة حملتك على جناح التيه فتقنعت بآلاف الرغبات، بيد أن رغبة واحدة أكيدة أقلتك إلى هناك. (تصرخ). الهزيمة.
وافد: ما كنت يوما للهزيمة عاشقا تعرفين. هي الغفلة يا سارة. الغفلة التي تمخر عباب الروح فتسلبها اليقين. (فجأة، يتراجع خائفا). يا إلهي! ما هذا؟
سارة: ما بالك نفرت؟
وافد: أنت...
سارة: ماذا؟
وافد: لست أنت. أين ظلك؟ ليس لك ظل.
سارة: نازعني ظلي لوجدك يوما فذبحته.
وافد: وهذا الوجه المترب؟، أنت، أنت، بلا روح. وكأنك مومياء انبعثت من رقادها.
سارة: راودتني روحي إلى عناق روحك فأزهقتها.
(فجأة تصخب الأقفال على قرع طبول حماسية وتدور الأقفال بشكل مضطرب)
وافد (وهو يدور وسط الأقفال ويصرخ): ما هذا؟ ما الذي يحدث؟
سارة: إننا جميعا هنا رهن أشارته أيها المغفل.
(من بين الأقفال يندفع قفلان صغيران تجاه سارة يرافقهما مؤثر بكاء. تقوم سارة بوضع دمية عند كل قفل. ينتهي البكاء)
سارة: لا زالا مفزوعين. (موسيقى ذات شجن). كنت ألاحقهما عند سفح التل في لهو بريء. كان يوسف مشاكسا تستهويه قمة هذا التل فيفر من بين يدي ويتقافز كالأرنب ليتموضع تلك القمة، ثم يكر متدحرجا ليلتصق بقاع روحي حتى يهدأ بركان طفولته. وكانت مريم كعادتها تنسج أغنيات طفولتها ويصدح صوتها كلما أوغل يوسف في المشاكسة. ونعبر نحن الثلاثة سفر الفصول غير آبهين بما يمكن أن يعكر صفو حياتنا إلا غيابك. ياه، لكم انتظرناك، وعبرنا وعبر الزمان بنا. وذات مساء، وبينما كنا نتطلع إلى أفق نرجوك أن تشخص في حده لاحت لنا غمامة اصطبغت بلون الدم، ما لبثت أن استحالت إلى إعصار راح يمرح بـ (أوروك) ويعبث بأجراسها.
(تتحرك جميع الأقفال بحركة بانورامية ملحمية)
سارة: فأعلنت (أوروك) نفيرها، وأيقظت (كلامشتها) الأبرار لتدرأ الخطر الذي راح يمحق الوجود. كان إعصارا جبارا، عاتيا ومدمرا. أمطرنا بالهلاك حتى قبرنا تحت الأرض. (تنفجر). فأين أنت من كل ذلك يا كلكامش عصرك؟َ
وافد (يصرخ وينسلخ عن شخصيته وكأنه كلكامش): من اجل (أوروك) ابكي وأنوح نواح الثكلى.
سارة: أي سنة من النوم أخذتك؟ طواك الظلام فلا تسمعنا.
(وافد يجثو على ركبتيه ويبكي)
وافد: رفقا بي يا أم يوسف.
سارة: وعكاء هذي الأرض من دنس احل بها.
وافد: إن كانت مطالعي دنس فهي خلة لا استحيها بين أهلي. هيا، هيا، أشهروا سيوفكم وطهروني قبل أن تفيض تلك المطالع ويشمت بي جاري.
سارة: سأطهر نفسي منك أولا دون سيف يحتز رأسك. أنت طالق يا كلكامش. (تختفي).
وافد (يصرخ): رفقا بي يا أم يوسف.
(يتغير الجو العام. يظهر السيد يور وهو يضع قناع الوقاية على وجهه، ويتدلى منه خرطوم، وراح يمسك بعصا القيادة، وتنبعث السيمفونية من جديد. يقتاد السيد يور طوابير الموتى من خلال الأقفال بحركات انفعالية حتى يظهر الدخان من بين الأقفال. وافد يدور وسط الدخان ويعاني من حالة الاختناق. يور يدفع بالقفل الفارغ تجاه وافد وهو يضحك بنشوة.)
السيد يور (بنشوة منتصر): الليلة سيكتمل النصاب.
(وافد يجد نفسه منقادا تجاه القفل وبلا شعور، ثم يسقط عند باب القفل في الوقت الذي يقتاد فيه يور الطابور ويغادر. يظهر الشيخ من جديد. يقع نظره على وافد.)
الشيخ: الم تدرك بعد؟ (يوقد شمعة عند رأس وافد.)
(ومن الجانب الأخر يدخل وافد جديد حاملا حقيبته، ينظر إلى المكان بدهشة)
وافد الجديد: لم افهم.
الشيخ (وهو يضرب على رأسه بعد أن يرى وافد الجديد): لن تفهم. لا زلت لم تدرك بعد.
(انتهت).