عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

بهاء بن نوار - الجزائر

وحشة الأنصاب (*)


(*) هذا النص على لسان نصب الشاعر أبو الطيب المتنبي. النصب أنجزه الفنان العراقيّ، محمد غني حكمت، سنة 1978. المزيد من المعلومات في هوامش النص.

.

إنه الليل مرّة أخرى. وحدي من يظلّ متيقظا في مثل هذه الساعة. جميعهم مضوا إلى بيوتهم، ومن لم ينم منهم حتى الآن فلا شكّ أنه على وشك أن يفعل بعد قليل. أشدّ أطراف عباءتي عليّ قليلا (من قال إنّ مثلي لا يتحرّك؟) وأغمض عينيّ، لا لأستجلب بعض النعاس، فقد نمت طويلا وبأكثر ممّا يكفي. أغمض هذين الثقبين فقط، لأتذكـَّر وأستحضر بعضا ممّا يمرّ بي في نهاراتهم.

كلّ صباح أخرج من هذا المسخ الفولاذيّ الذي يصرّون على أنه أنا. ألقي نظرة على قاعدتي الإسمنتيّة المرتفعة قليلا أكثر ممّا يجب، وأبدأ جولتي اليوميّة. أحيانا ألقي التحيّة عـلى من يصادفني من بقـيّة الأطياف الهائمة على أوجهها مثلي، وأحيانا أخرى أكتفي بإيماءة خفيفة، أو أصعّر خدّي، وأمضي في سبيلي متجاهلا الجميع.

لكلّ منّا ما يبحث عنه هنا كلّ صباح (وإن كـان أغلبهم قد انطفأ وهج الحياة فيه حتى بعد مماته). بعضهم ينقب كلّ لحظة بين ذرّات التراب علّه يجد أثرا ما ممّن أحبّهم وخذلوه بالغياب. بعضهم لا يزال يبكي، ويحلو له أن يسكب دموعه في ذاك النهر (الذي أرى سـواده قد ازداد!). يزعمون أن الدّموع (دموعهم) هي سرّ حياة المدينة، وهي وحدها نبضها الدّافق.

بعضهم لا يزال كما عرفته منذ ألف عام: ينقب دوما في أكوام النفايات. وأنا: أنقب في أكوام الزمن، وأبحث عن وجه ذلك الإله الذي يلاحقني. وحدي من يعقـل بينهم، ووحدي من يحمل عنفوانه الأوّل معه أنـَّى حلّ، وأنـَّى شاءت أمزجتهم المريضة أن تضعني.

(وأنّى شئت يا طرقي فكوني ...)

لم يعد مهمّا لي أين أكون: تارة تحيطني الكتب ويواجهني النهر. تارة أخـرى أجد نفسي وحيدا في ذاك المكان اللامكان. يصمّ أذنيّ ليلا ونهارا دويّ عرباتهم، وعواء كلابهم، وتلك الطعنة النجلاء خلفي لا تزال تنزف كلّ حين.

الآن يعيدونني إلى الكتب؛ إلى حيث كنت أول مرّة، ويضعون شبيها آخر لي، تفـصلني عنه بضع مسافات لم تشجّعني يوما على رؤيته لولا ما سمعته من بعضهم يوما من أنه أوسم مني، وأنقى جوهرا.

(يزعمون أنه أنقى لأنه أتى في زمن أنقى!)

ألقي نظرة عجلى عليه ذات صباح؛ يبدو أوسم قليلا ممّن شاءوا لي أن أكونه قبل سنوات (قد تكون ثلاثين عاما بحسابهم).

ذراعه الأيمن مرفـوع (أراهن أنه ينزله حالما يختفي الجمع) ورأسه شامخ، يكاد يشــبه رأسي الترابيّ الأول لولا تعاظمه الزائف، وسذاجته المستلذة نظرات الإعجاب التي تمسحه كـلّ يوم (ألا تكفيني تشظيات نفسي وانقساماتها ليـضيفوا إلى عذاباتها تشظيات جسدين/ سكنين آخرين كلاهما هش وموقوت؟!)

منذ أن خذلني جسدي الترابيّ الأول تعلمت ألا أثق كثيرا في جسدي البرونزيّ هذا؛ تعلمت ألا أركن أبدا إلى أيّ مسخ فان، ترابيّا كان، أم فولاذيّا، أم شمعيّا، أم حتى هوائيّا.

تعلّمت منذ بضع ليال أن أسير أنى شاءت لي خطواتي أن أسير؛ أحيانا أبتعد كثيرا عن مقامي وآوي إلى أوّل حفرة غائرة تصادفني أو أسفل أيّة نخلة، أو شجرة.

ألوّح بسيفي الصدئ الموهوم أحيانا، وأطلق أحيانا أخرى قافية هادرة أو قافيتين: أعلم جيّدا ألا أحد من أحياء المدينة الموتى سيسمعـها، ولذلك أتمادى قليلا (ربّما كثيرا) في رفع صوتي. أفعـل ذلك علّ الآخرين من أمثالي (ولا أحد مثلي قطعا) أعني علّ غيري من ذوي الجثث الفولاذيّة الضخمة يصرخ أيضا، أو يلوّح بسيفه من كان ذا سيف منهم.

أمرّ كلّ صباح بعنترة (1) الجاثم فوق دابّته (لماذا ليس لي أنا دابّة مثله؟). لا يزال سيفه كما عهدته: صدئا دوما، ولا يزال على صدئه الفاضح ذاك مشهرا كلّ حين.

JPEG - 6.1 كيليبايت
تمثال عنترة: بغداد

تتظاهر يمناك يا عنترة بالتيقظ كلما ملأ الحشد الساحة، وحين يدبّ الخدر فيها قليلا تغافلهم جميعا وتلقي بحملها العزيز إلى يسراك. وليلا حين تختلي بنفسك، وتضمن ألا أحد من أولئك الفانين سيراك، تنزل عن صهوتك المطهّمة تلك. تركل خوذتك الثقيلة، وتلقي يمينك أو شمالك بما تحمل، ثمّ ترتفـع همهماتك المجهشة. في مثل هذه اللحظات فقط تتحرّر من دور البطل المغوار الذي يريدونك أن تكونه.

مضى زمن البطولات، وثوب الفارس الصنديد هذا لم يعد يلائمك: ارتديته زمنا ما، كي لا تكون نعلهم، وكي لا تنام أو تستيقظ على إيقاعهم. الآن أراك تودّ أن تمتلك حريّة أن تكون أيّ شيء آخر عدا كتلة الصّدأ هذه التي أنت عليها: ربّما يلائمك الآن أن تكون مهرّجا، أو خمّارا، أو قوّادا، أو لصّا، أو رجل ثلج، أو فزاعة حقول.

لا يزال يستهويك اسمٌ آخر، وزمن آخر، ووجه آخر أيضا؛ تطاول به الشمس إن شئت، أو تطمره في الرّمال. نحيبك بات اليوم يضجرني، لذا قد لا أمرّ عليك مرّة أخرى، أو ربّما (ولأنك الأقرب إلى نفسي) أباعد بين مرّات المرور. ربّما عليّ أن أعذرك قليلا؛ فلا شيء في النهاية أفـجع من وحشة صنم صدئ وحيد، ما من يد تمتدّ ليلا لتجفف دمعه، أو لتمسح الغبار عنه.

لم أعلم قبل أن الوحدة ثقيلة جدّا هكذا، قد تكون تلك المرأة هي من عــلّمني ذلك. أسمعها كلّ ليلة تهمس له بما لا أدري، وأراه يصغي إليها بكلّ ما تبقى فيه من جوارح. ظننتهما عاشقين منسيّين (2)، خلّفهما هذا الزمان أو ذاك، لولا أن همس تلك المرأة لا يريد أن ينتهي. إنهما الوحـيدان اللذان لا يهيمان على وجهيهما مثلي نهارا، ربّما وجدا حياة أيّما حياة فيما تقوله شفتاها (ظننت ما أقوله أنا وحدي هو ما يهب الحياة).

JPEG - 21 كيليبايت
ثمثال: شهرزاد وشهريار

حديثهما لا يكاد ينتهي، ووحدتي لا تزال تنهشني، حتى هذه العباءة البالية لم تعد تقوى على ردّ جحافل الصقيع الآتي. (ما أتعس وحشة الأنصاب!). أتسلّل (ولا أدري من أين تعلّمت هذه العادة القبيحة) إلى ركن قــريب منهما (منها) وأسترق السمع لما تقول:

بلغني أيّها الملك السّعيد أنه كان في قديم الزمان رجل تاجر اسمه "عبد الرحمن" قد رزقه الله بنتا وولـدا، فسمّى البنت: "كوكب الصّباح" لشـدّة حسنها وجمالها، وسمّى الولد: "قمر الزمان" لشدّة حسنه.

أف! الحكايات القديمة نفسها! هل نضب خيالك أنت أيضا، ولم يبق في جعبتك غير سيف الملوك وبديعة الجمال، وعـمر النعمان، وضوء المكان؟ والإسكافيّ معروف، والعاشق والمعشوق، والحمّال الأحدب، والتاجر الأعور؟

ألا تزال مخلوقاتك البائسة تلك تنتظر "هادم اللذات ومفرّق الجماعات"؟ وهل ما تزال حكايات بعضهم تكتب بالإبر على آماق البصر؟ ليعتبر بها من يعتبر؟ ألا تزال مدينة النحاس كما عهدتها شامخة الأسوار؟ وكنزها المرصود ذاك، أما زال ينــتظر من يفكّ طلاسمه وألغازه؟ أمَا زال حرّاسه متيقظين أم أنَّ النوم باغتهم كما يكاد أن يباغتني الآن؟ هل غادر جنّك العاصون وشياطينك قماقمهم؟ أم أنهم لا يزالون ينتظرون عفو المبجّل؛ سيّدهم "سليمان"؟ وسندبادك الخائب ذاك؟ ألا يزال يوهمنا بالرّحيل دوما، ثمّ يعود؟

أتريدين إرباكي؟ هل سأغرم بك؟ وهل سأرى ذلك الإله فيك؟ إن فعلت يوما، هل سأجلس بين يديك كما يجلس هذا الأبله الآن لأتلقف كلّ ما تقولينه؟ هل ستخدعينني حينها مثلما تخدعينه؟ وهل ستشغلينني عمّا وطنت النفس له؟ هل ستسرقين مني (كما سرق الزمان وأهيله) عمري، وجـذوتي، وشبابي؟ أم أن ما بيننا لن يزيد على سويعة عجلى نعتصر دقائقها الفانية وثوانيه. ثمّ صمتٌ. ورمادٌ. وفلاةٌ تجيب إلى كلّ شيء غير اللقاء (3).

تعلمين أن قصصك القديمة لن تخدّرني. هل ستخترعين أكاذيب جديدة تشبهها؟ هـل ستحدّثينني عن سندباد جديد، وعشاق جدد، ومجانين عصريّين؟

أم أنك ستحدّثينني عن بطولاتي أنا وفتوحاتي:

بلغني أيّها الملك السّعيد، ذو الرأي الرّشيد أنه كان في قديم الزمان وسالف العصر والأوان في أرض السّواد ملك يقال له... (سأختار فيما بعد اسما يلائمني)

وكان له عسكر وأعوان، وخدم من الإنس والجان، وذهب كثير، ومال لا تفنيه النيران، وكان ذا عزم وإقدام، يلقى الأسد ولا يبالي، ويجندل الــ...

تماطلين الموت يا امرأة! لقد حلّ منذ زمن بعيد. سيّافك القديم الذي تخشينه انتحر، وتبعه بقـية البائسين القدامى، لكنّ الجدد منهم كثيرون وسحناتهم تتغيّر دوما تغيّر أمزجة هذا الزمان. أراهم يندسّون في كلّ مكان؛ في مخادع النخل، ومجرى النهر، وبين ذرّات التراب!

(حتى أنا تشتبه عليّ أحيانا ملامحهم!)

رأيت أحدهم يتختل قربكما ظهيرة ذلك اليوم؛ ظننته أحد العشاق المفلسين يتلصّص عليكما قليلا كما يفعل العشرات من أمثاله كلّ يوم. لكنه كان أحدهم (ما أكثر ما تختلط ملامح القتلة، والعشاق، والأطفال في هذا الزمن!) فلم تكد خطواته العجلى تحمله بعيدا حتى دوّت حديقتكما، وتشظت هنا وهناك بعض من أطرافكما.

لو علمت أنه منهم لجندلته قـبل أن ... (لكنني لا أملك سيفا!) ربّما كنت أستعير سيف عنترة الصدئ ذاك لولا أنه بخيل جدّا به. أو أدعــوه ليذود عنكما بنفسه، فتبرأ جراحات نفسه وتشفى أسقامها. لو علمت أنه منهم لما بخلت عليكما بالنجاة، رغم أنّ ارتخاء جلسة رَجُلك تغـيظني كثيرا.

ربّما كنتُ أغار منه على صحبتك، وربّما كنتُ أعلم بما دبّره القدر لكما، وكنتُ أقوى على منعه لولا أن تواطؤا شرّيرا عصف بي حينها، وجعلني أصمت، وأشيح بوجهي كما اعتدت أن أشيـح من حين إلى آخر: قد يكون التواطؤ نفـسه الذي جعلني أشيح عنهم أيضا يوم بدأت نظراتهم تداعب رأس أبي جعفر (4)؛ كأنني حسدته حينها على مجده الغابر، الذي لم أنل (على همّتي واقتداري) ذرّة من مثله.

JPEG - 5.7 كيليبايت
تمثال: أبو جعفر المنصور، بغداد

ربّما شعرتُ بحسد مشابه نحو حفيده الآخر (5)، الذي بلغني أنه لا يزال تقبره جدران إحدى القاعات. يقـولون إنه سيظل متواريا، ولن يرى النور أبدا ما دام يتشبّه بأعدائنا المجوس، ويرتدي ما يرتدون.

لم يبق أمامي الآن غير ذاك السكّير (6)، وإنني لأشعر (ويا للعجب!) بألفة غير قليلة نحوه. وحده فيما يبدو فـَهـِمَ اللعبة. ووحده لا يزال إلى الآن يسخر منهم؛ يخرج لسانه عابثا، ويعبّ من كأسه النشوى. يجلس كلّ يوم متربّعا في مقامه ذاك؛ النهر وراءه، وأطلال ما تبقى من خرائب المدينة أمامه، وما بينهما قهقهاته المدوّية، وعيناه اللتان تخترقان الخراب ولا تريانه.

JPEG - 5.6 كيليبايت
تمثال الشاعر أبو نواس، بغداد

لم تكن قهقهاته (وأنا العاقل الرزين) تعجبني، لكنني منذ بضعة أشهر وليالٍ بدأتُ أنـدم قـليلا أن لم أكن مثله. لا أزال رغم ما أسمّيه الآن ندما أحمل معي جرثومة الوعي الشـقيّ تلك أينما حللت: أفتح عينيّ على سعتهما، وأشهر أذنيّ؛ أحدّق في كلّ شيء حتى في الظلام، وأتسمّع حتى على فــحيحهم ذاك الذي يكاد يفقدني الصّواب.

(يسابق سيفي منايا العباد...)

أعدائي؟ دماؤهم دوما مسفوكة، وبقايا جيفهم متناثرة. لا أزال كاهنا أعمى يحيا ويتحرّك بالكلمات، يفصّل أحلامه كلمات، ويبصق خيباته كلمات ويعـلن ندمه الأخير كلمات أيضا. جنته وجحيمه الكلمات. خوارقي الكبرى، وفتوحاتي أراها الآن ملحا ودخانا، ولا أدري هـل يرى ذلك اللئيم ما أرى، أم أنه يخترق أفكاري، أم أن كأسه المثقبة تلك بدأت تغريني.

هل سيقتحمني أخيرا نداؤها الدّامي؟ رشفةٌ واحدةٌ. رشفــتان. ثـلاث رشفات. لن أغرق أكثر، فقد لا أجد في قعرها وجهَ ذلك الإله الذي يلاحقني.

= = =

الهوامش

(*) وضع نصب المتنبي أولا في ساحة المكتبة الوطنية في وسط بغداد، ثمّ أزيح إلى أحد الشوارع المؤدية إلى حي الأعظميّة، ليعاد مجدّدا، كما علمت، إلى ساحة المكتبة. وقد أنجز نصبٌ آخر لهذا الشاعر في مدخل الشارع الذي يحمل اسمه.

(1) المقصود تمثال عنترة المنتصب وسط ساحة تحمل اسمه في حي الأعظمية وسط بغداد.

(2) المقصود نصب شهرزاد وشهريار في شارع المتنبي وسط بغداد، وقد تعرّض لمحاولة تفجير تحطّم فيها جزءٌ كبير من ذراع شهرزاد.

(3) إشارة إلى بيت المتنبي:

وللخَوْدِ منّي ساعةٌ ثمّ بيننا = = فلاةٌ إلى غير اللقاء تُجابُ

والخود: المرأة الناعمة.

(4) نصب أبي جعفر المنصور مؤسّس مدينة بغداد وسط شارع المنصور، وقد تعرض للتفجير، وسقط رأسه على الأرض.

(5) نصب هارون الرشيد، ولم يعرض أبدا، لأن زيّه كان فارسيّا، وكانت الحرب العراقيّة الإيرانيّة حينها في أوج التهابها.

(6) نصب أبي نواس يتوسط الشارع الذي يحمل اسمه في بغداد، وقد جرت محاولة لتفجيره. ولحسن الحظ، لم يصب الضرر سوى كأسه التي ثـُـــــقــــــِّبــت.

D 1 كانون الأول (ديسمبر) 2010     A بهاء بن نوار     C 0 تعليقات