فكري داوود - مصر
عـمـر طـويـل للسيدة
مئة وعشرون عاما عمر السيدة. جيش جرار تواتر من الأحفاد وربما أحفاد الأحفاد. ها هو خبر إحدى حفيداتها (الحوامل) يصل، بين يدي الطبيب، وفي لحظة فارقة، هاجمتها المنية، إلى سمع السيدة الثقيل، يصل صوات النسوة.
يدور عقل السيدة قليلا، تأخذه السرحة بعيدا بعيدا، تعود بها عشرات السنين، تحط بها عند البنت (زهرة) صغرى بناتها آنذاك، يعاود سمعها صوات مماثل، يفرج صدرها عن زفرة أسيانة، ظلت حبيسة منذ زمن، وعلى سيرة عجوزات القرية ـوقتهاـ يصب لسانها اللعنات.
هل قلصت السنون الطوال من سطوتهن؟ ربما.
يغمرهن الاتشاح بالسواد، في وجوههن وهاد الأيام، وهضاب السنين، تعلو جباههن عتمة المعتادين على نكبات الدهر، خبرات الناحية هن: دايات، دلالات، أشباه ساحرات، ونائحات.
وفي وردة ابنة السيدة، آنذاك، احتارت حيرتهن، والجنين شبه المكتمل، في بطنها ربما نفق، نفوق النهار أمام سواد الليل.
ومن يقوى على الجزم بالنفوق؟
فتاواهن متضاربة، لا تجتمع إلاّ قليلا، على أن السكون داخل البطن، ربما كان عارضا سرعان ما يزول.
والبنت وأمها بآخر فتاواهن تتعلقان، لا تريدان لخيط الأمل أن ينقطع، مكانتها لدى الأم غير منكورة، فسرها البعض بكونها آخر العنقود، "وآخر العنقود سكر...".
لا تجد السيدة نفسها جوابا يشفي الغليل، إذا ما سُئلت عن سبب محدد لتلك المكانة.
والبنت بأهداب الساكن بطنها متعلقة. قالت السيدة من بين الأنياب، لنجرب الحكيم يا حكيمات الـعصر؟ قاطعتها إحداهن صارخة: "لا حكيم غير الله."
...
وحال الناحية لم تكن تخفى، نائية بنفسها كانت، كقط أجرب معزول عن البشر، أو عنزة عجفاء جائعة، تدور حول ذكر التوت بحثا عن ثمر، للخارج منها حساب، وللداخل إليها ألف حساب، ترث النسوة فيها حيوات النسوة، ويرث فيها الرجال خنوع الرجال.
تتمتم الداية في غضب: "يا عيب الشوم. حكيم!"
ما عندنا حريم ينكشف على رجال.
تزوم النائحة: "بيتك بيتك، ما يدخل إبرتك غير خيطك."
وهن بالناحية الخيط والمخياط. ولا حكيم دون إذنهن. يستغرقهن الاجتماع، تفضحهن عيونهن زاعقة: "أنقطع عيشنا بأيدينا."
تصيح الداية من جديد: "أنسمح للغريب بالاطلاع على الحرمات؟"
تحت أقدامهن ترتمي السيدة، وفي عيني ابنتها المعلولة يصيح التوسل.
وإذنكن يا حكيمات العصر لنا مراد.
أخذت الغفلة أقلهن خبرة، قالت: "لا بأس إذن، شريطة لحاقنا بركب الذاهبين."
...
فوق رؤوسهن سدلن الطُّرَح، كغربان سود حول حمامة شهباء، فوق بطنها الموجوع تنحط يد زهرة رابتة، راجية من الساكن داخلها، أن يلبي طلب الرجاء.
خمسة عشر عاما في حضن رجلها، لم يرتفع ذيلها أبداً عن وليد. قلن لها آنفا:
"أرضك بور، وقناتك لا ماء فيها."
وجاء ذلك الساكن بطنها، ليزيل عن أرضها البوار، ويجري بقناتها الماء، عله ِيكمل زرعه، ويرم زهره، ليصير ثمراً رطبا، يكشف عن أوجه جديدة للحياة.
تتدافعها أيديهن ممثلات الرفق، وفي قلوبهن غضب الخائفين، على الرزق من الزوال، تطرح ملامحهن السؤال: ترى هل ينجح دونهن الحكيم؟
...
يواصل الصوات الطازج وصوله إلى سمع السيدة الثقيل، خبر حفيدتها على مرات يأتيها. بقى الوليد، فيما آثرت أمه ـ الحفيدة ـ الرحيل، والدار بالخلق تعج، والناحية لم تعد نائية بنفسها عن الدنيا، وعجوزات القرية لم تعد لهن سطوة تذكر، ومن الطبيب إلى الطبيب، يمكن للمعلولة أن تنتقل، ولم يشفع ذلك للحفيدة كي تصحب وليدها في البقاء، و...
تقفز أمام عيني السيدة، مشاهد زهرة من جديد، مائة عام ربما مرت على المشاهد، سطوة العجوزات آنذاك سائدة، والحكيم عزيز عزيز، وفوق طاولة بيضاء، يتمدد جسد فلذة الكبد، ببطن منفوخ، تواجه عيناها سقف الحجرة، آملة في اختراقه، علها ترصد موضع القمر، طالبة نبراس ضيائه، الذي يملأ الكون. أناتها تقطع نياط القلب الرحيم، وقلة الحيلة حالَّة، امتدت شفتا الحكيم دهشة، ولسان حاله يقول:
"هجم سواد الليل، ماذا حملكن على التأخير؟"
محاولات عديدة جرت: ولابد للميت أن ينفصل عن الحي.
لحظات مليئة بالعرق والرجاء، أنينها الواهن يحاول الصمود، علت وجهها مساحة شاسعة من تسامح، كروح ملك مأمورة، حول الرؤوس تحوم.
يومها انتقل نظر السيدة، بين الوجوه المتشحة بالسواد، فاصطدم بوجه النائحة المتهلل، موقنة أن الميت فوق الطاولة، صار ميتين.
المفاتيح
- ◄ قصة قصيرة
- ● وماذا بعد؟
- ● النظّارة
- ● خرابيشُ خطّ
- ● بقرة حسين
- ● تاريخ