عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

كريمة الإبراهيمي - الجزائر

حب بديل


الحب هو ألا نقول أبدا إننا آسفون (اريك سيغال، روائي أميركي)

.

إنها تشبهني بما يكفي لأن تكون أنا. تساءلتُ مرارا وكلما اضطهدني الوجع: هل يمكن أن توجد أخرى مني صادفها الحب يوما ومنحتها الحياة متعة الرغبة لتتذوق طعم الأشياء؟ استبعد ت الأمر، أو بالأحرى كنتُ متأكدة من أنها حتى لو وُجدت لما كانت غير نسخة عني تطابقني في الألم.

لقد رمقتني بعينين صافيتين لا تخلوان من دهشة حين اصطدمت بها تخرج من دار أمل للحضانة. كانت تصحب طفلا جميلا، ما لبث أن سحب يده من يدها وركض نحو السيارة ينادي: "بابا، بابا."

نادته: "أيمن." وعيناها ما زالتا تحدقان بي. ابتسمت. ولحقت بالطفل. وغابت في السيارة التي لم ألمح سائقها.

إنها تشبهني. بل إنها أنا. كررتُ لنفسي وأنا ألج دار الحضانة. وضعتُ علبة الحلوى أمام الأطفال ثم رحتُ أداعبهم واحدا واحدا. تذكرتُ أن دار الحضانة صارت جزءا من أيامي. وفي كل يوم يتكرر المشهد ذاته مع زوجي.

"أتوسل إليك اقبل. أكاد أموت من الوحدة."

يرد غاضبا: "قلتُ لك مرارا لن أتبنى طفلا غريبا. أنا أحبك أنت ولا أريد أطفالا. "

"ولكن . . ."

يثور ثم يتركني ويخرج. تستقبلني الجدران الباردة ودوائر الوحشة. كنت أدري أن شيئا ما قد تغير في حياتنا معا. فهو ما يكاد يدخل البيت حتى يغادره وكأنه لا يريد أن يشعر بوجودي فيه. كان يعرف منذ البدء أني لا أنجب، ولكنه أصر على الارتباط بي. إنه يكرر لي دائما: "أحبك. دون أطفال. ألا تفهمين؟"

أجل لم أكن أفهم. فأقسى شعور تمر به امرأة أن تنام إلى جانب رجل تعرف أنه يفكر بأخرى. أظل مستيقظة يكسوني ثلج سريرنا. بينما يغط في نومه العميق مع وجه أخرى. أحاول أن أداعب لحظاتي الباردة وسريرنا الثلجي فأعود إلى عمري الأول. إلى ضحكتنا الأولى يوم مد كل منا يده إلى الرف ليلتقط الكتاب ذاته: قصة حب (*).

اعتذر كل منا للآخر. أذكر يومها أنك قلت لي: "سندفع ثمنه نحن الاثنين وسنمتلكه معا. توافقين؟"

قلتُ: "أدفع ثمن كتاب لن أقرأه."

وضعتَ يدك على رأسك ثم قلت: "سنتفق على أن يقرأ كل منا صفحتين كل يوم ويسلمه في اليوم التالي للآخر."

"صفحتين؟" قلتُ.

قلتَ: "هكذا لن يشعر أحدنا بظلم الآخر."

قلتُ: "ومن سيأخذه في النهاية؟"

قلتَ: "سنفكر في ذلك في حينه."

واشترينا قصة حب، واستقبلنا معها الحب في صباحات ماطرة وقطرات ندى تتلألأ فيها ابتسامات عيوننا. استقبلنا الحب في أفراحنا الطفولية ونحن نقرأ الصفحتين كل ليلة ونتحايل على صفحات أخرى.

وكان أن أحببتك. أقمتُ على أهدابك وزرعت وردا. وغنيت باسمك على شرفات الفجر. أحسستُ للحظة ما أنني امتلأتُ بك واحتواني قلبك الأرجواني. وحدث أن كنت سعيدة. يوم باغتتني يداك بذاك الخاتم ذي الفص السماوي. فركضتُ بلهفة لاحتضان البحر.

طوقتني بعينيك وبقبضة أحلام. أقسمت بعيني والقمر ألا امرأة اقتحمت عمرك وأقامت فيه سواي. وبلهفة عمري الذي رهنته لك صدقتك. امتطيت زورق الحلم وجلت معك تحت مطر تدفق فجأة ليعري وجهك المزروع كذبا.

عراك المطر من قصة الحب التي انتقيناها معا. عراك من قصائد بايرون التي طالما سيجت بها قلبي. وحده كذبك الجميل كان يتراقص في فراغي المهول.

"وحدك زهرة هذا العمر. لا بديل عنكِ إلا أنتِ."

تشعلني الكلمات إذ أمضيت كل هذا العمر عاشقة لكذبك الجميل. أفقتُ فجأة على انكسار وهمي بك، فما كانت إلا ألوانا متباينة تتقاطر لكنها تشكل وجهك.

يومها تقاطعتُ معها بدار الحضانة. تأكدتُ مرة أخرى أنها تشبهني بما يكفي لأن تكون أنا. ابتسمنا وتعارفنا. حدثتني عن رجل أحبها جدا، وتركته. غامرت ْ نحو بلاد بعيدة. ركضتْ. بكتْ. وجربتْ. لكنها عادت لتجده مازال باحثا عنها. تزوج امرأة تشبهها فقط ليشعر أنها معه. لكنه مازال ينتظرها بكل الشغف. تزوجته وكان ابنهما شاهدا على قصة الوجد الكبيرة.

وحدث أن كنت أنت نقطة اشتركتُ فيها مع امرأة تشبهني. كنت زوجي. وكنت زوجها. شعرتُ بدوار وأنا أراك تذوب في قلبي وفي حديثها كقطعة ثلج حارة. أدركتُ أخيرا سر البرد الذي يسكن سريري. أدركت سر غيابك عن البيت وإصرارك على أنني أغنيك عن الأطفال. أدركت سر الحب الذي اشتعل فجأة وانطفأ. فقط لأنني كنت النسخة البديلة وحين حضر الأصل بهتت كل ألواني. كنتُ مجرد حب بديل.

دارت الأرض بي. كان الفراغ رهيبا حولي. وكنت ككرة تتطاير في فضاء شاسع.
عدتُ إلى بيتك الزجاجي. لم أكن قادرة على أكثر من البكاء الجاف. زجاج كثيف كان يتكسر في داخلي وأنت تدخل صامتا.

"آسفة على كل الحب." قلتُ، وخرجتُ.

شيء واحد كان معي: قصة حب. تساءلت وأنا أخطو نحو الجهة المقابلة من الشارع: "كيف يمكننا ألا نتأسف سيدي الكاتب على الحب حتى ولو رأيناه يموت؟"

= = =

(*) قصة حب عنوان رواية للكاتب الأميركي اريك سيغال. حولت إلى فيلم من بطولة آل مكغرو ورايان اونيل (1970).

D 1 نيسان (أبريل) 2009     A كريمة الإبراهيمي     C 0 تعليقات