عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

سوسن أمين - مصر

رواية: اتفاقية الساعة


النص أدناه مقتطف من رواية قيد الطبع أهدت الكاتبة "عود الند" نسخة إلكترونية كاملة منها.

سوسن أمينحشد كبير وجد في جنازته ملاذا للتعبير عما أصابنا. شيع مصحوبا بالثناء والإشادة. أسرع النعش بنا بصورة مذهلة كعصفور قاصدا أيكه أو محبوب يسعى للقاء الأحبة.

رحيله فجر الجمعة وسرعة التجهيز والجامع الذي امتلأ عن آخره في صلاة الجمعة بشارات جاءت كلها مطمئنة. غياب حازم ألقى على عاتقي المسؤولية ودورا ثقيلا حرصت على تأديته كما لو كان بيننا.

حضوري الغسل ونزولي القبر لأواريه الثرى زادني هما فوق الهموم المكدسة. ومع ذلك أشفقت على المسكين الذي عندما يعود سيجد أباه وقد تنحى.

عند القبور تهون الدنيا، ففي اللحد يستوي ما نتقاتل عليه وما نزهده. ففقط بنظرة إلى كل تلك الأجداث المرصوصة وشواهد القبور المتلاصقة استشعرت قيمة أني ما زلت أحيا، وأدركت قيمة تلك الفرصة التي لا يحظى بها كل من هنا.

أربك الجميع تزامن العزاء والخطاب المعلن عنه مسبقا. خروجنا المتدافع إلى الشارع أنسانا فقيدنا وأعادنا فتية نهرع إليه إذ دعانا كما في أيام الثورة الأولى. ميدان التحرير بحر هادر من لحوم الرافضين لقراره المصرّين على استمراره في موقعه.

نفس توسل خالتي وبناتها صباحا عند خروج فقيدهم الغالي. سحبي معهم في تيار التعدي على حرية من يأبى إلا أن يتركنا أخذ مني البقية الباقية من عافيتي الخائرة، وتركني في الرمق الأخير على شفا السقوط في هاوية أقدام المتدافعين هنا وهناك بشدة، لاستحالة الخروج من نهر جارف ضفتاه نساء يبكين ويلطمن الخدود، ورجال يصرخون بأعلى صوت "ابقى؛ ابقى"، فالشعب اختار زعيمه برغم النكسة، فهو يراها بالنسبة لقامته العملاقة مجرد كبوة لا بد أن يتخطاها. فمن ذا الذي يرضى أن يدفن أباه حيا حتى ولو كان مصابا أو مهزوما؟

هذا هو العزاء الحقيقي الذي استحقه في هذا اليوم كل منهما.

* * * * *

وكأن كل شيء بعد المأساة جائز: "وأن أتنحى تماما ونهائيا عن أي دور سياسي..."

كيف يعقل أن نقبل. ألا يكفي عمي.

بصرختها التي أرعبتني وإسراعي إليها وأنا كلي يقين أنه لا يمكن أن يخذلني. لم ينتظر الصباح. كانت ليلته من الصعوبة بحيث أتمها بالكاد، ومع الأذان ودعته نسائم الحياة لتنضم خالتي لجموع أرامل هذا المنزل، ويخيم الحزن عليها بمخلبه الأبدي.

ارتميت عليه أحتضن البقية الباقية من الأب الذي لم أعرف غيره أبا.

برودة الموت ورهبته تحدث بالبدن قشعريرة غريبة كالواقف على بحر لجي تخطفه الوحدة. قدسية الرحيل برمتها أحاطت أجسادنا المكلومة فكستنا بالسواد من أول لحظة.

لها تنحى لتتسلم القياد ولأول مرة. كونه قعيدا لم يسلبه أبدا الهيمنة. صوت الرجل في البيت لا يوازيه شيء يا هدى حتى ولو كان همهمة. يشعرك أن الدنيا دنيا. حتى بعد الحادث ورحيل ماجد والحزن الذي خيم بظلاله على الأسرة بأكملها وعدم مقدرته على المشاركة في الحياة أو الحركة إلا أنه ظل دعامة هذا البيت لنا ولكل الأسر من حولنا.

طنط آليجرا تستشيره في كل أمورها: كيفية السيطرة على سامي وسمير بعد موت أبيهم في سن حرجة. إيجاد مشتر للعزبة. المعاملة مع المستأجر الذي يحاول اغتصابها منها. والموافقة على المهندس إسحاق بباوي كخطيب لسيسيل كانت شيئا أساسيا وإلا ما تمت الخطبة وخاصة أنه كان حديث التخرج وإمكانياته المادية ضعيفة. وساطتي عنده بدافع من سيسيل عجل بالموافقة. وطنط بهية تأخذ رأيه في كل صغيرة وكبيرة وفى اختيار المستأجرين لشقتها المفروشة.

الشلل انتصر على الأطراف، لكن العقل ظل متقدا يعمل بكفاءته الأولى، إلا أنه ظل لآخر أيامه يبحث عن ملابسات ما جرى: أكان عبد الفتاح مخمورا أم مخدرا؟ أم أن ماجدا هو من كان يقود مستغلا حب عبد الفتاح له بالرغم من تحذير عمي بألا يسمح لمن لم يتجاوز السابعة عشرة بالقيادة؟

لن أنسى ما حييت منظره وهو ينصرف يوم الحادث ضاربا عنقه بكفه، مؤكدا لعمي الولاء والطاعة. عنتريته الزائفة أضاعت رقبته التي لم تف بمسؤوليتها ليستمر بعدها في البكاء ليومين كاملين دون أن ينبس ببنت شفة، لتجده زوجته الثانية صباحا ميتا في سريره.

أكان انتحارا أم موتا طبيعيا؟ ما عرفنا. رحلا ليدفن معهما سرهما، ومن منهما كان المتسبب في تلك المصيبة. ظل السؤال المحير لنا جميعا ليومنا هذا.

= = = = =

غلاف للرواية من تصميم الكاتبة.

غلاف رواية سوسن أمين

D 25 كانون الأول (ديسمبر) 2013     A سوسن أمين     C 0 تعليقات