عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 
أنت في : الغلاف » أرشيف أعداد عـود الـنـد » الأعداد الشهرية: 01-120 » السنة 8: 84-95 » العدد 91: 2014/01 » العلوم الاجتماعية وتشكيل العقل النقدي

سفيان بدراوي - الجزائر

العلوم الاجتماعية وتشكيل العقل النقدي


العلوم الاجتماعية ودورها في تشكيل العقل النقدي للطالب الجامعي

سفيان بدراويدور العلوم الاجتماعية في تشكيل العقل النقدي لدى الطالب الجامعي، هي محاولة منا لتسليط الضوء على أهمية هذا الحقل المعرفي ضمن نطاق المعرفة البشرية من جهة، وأهميته في ظل التحولات والأحداث المعاصرة والراهنة على المستوى المحلي، الإقليمي والدولي.

كذلك هي محاولة لإبراز أهمية العلوم الاجتماعية ودورها في تشكيل "وعي الوعي" لدى دارسيها عموما والطلبة خصوصا، هذا الوعي الذي نسميه "العقل النقدي" أو "العقل الإبداعي" - مع التحفظ على التسمية-، حيث نسعى إلى إيصال رسالة إلى الطلبة مفادها أننا ضد الفكرة النمطية المليئة بالأفكار المسبقة والسلبية عن هذا الحقل المعرفي - العلوم الاجتماعية- والتي نلاحظها ميدانيا على مستوى الممارسات اليومية بما فيها الخطاب المتداول لدى الكثيرين من خلال ألفاظ تعبر عن هذه الوضعية.

إننا نؤكد على الدور المحوري الذي تلعبه العلوم الاجتماعية في عملية بناء الفكر الإنساني وفي تشخيص ونبش خفايا الواقع المعاش على مستوى الفرد، الجماعة والمجتمع ككل، وفي نفس الوقت نحن نتساءل عن أهم معالم هذا التأثير على البناء الذهني للطالب؟

=1= لماذا العلوم الاجتماعية؟

تعد العلوم الاجتماعية والإنسانية كعلم الاجتماع وعلم النفس وعلم النفس الاجتماعي والأنثروبولوجيا، من بين العلوم المهمة والضرورية، التي تكتسب أهمية متزايدة في الوقت الحالي، لفهم ودراسة التحولات والتغيرات الاجتماعية والسياسية الحادثة في أي مجتمع وخصوصا مع الأحداث الراهنة.

ويؤكد التقرير العالمي للعلوم الاجتماعية بعنوان "الفجوات المعرفية"الصادر عام 2010 عن منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونيسكو) والمجلس الدولي للعلوم الاجتماعية، على أن العالم الآن بحاجة أكثر من أي وقت مضى إلى العلوم الاجتماعية للتصدي للتحديات الكبيرة التي تواجه البشرية.

وقالت إيرينا بوكوفا المديرة العامة لمنظمة اليونيسكو: "إن علماء الاجتماع ينتجون أعمالا تتسم بجودة استثنائية وبقيمة علمية هائلة، لكن (....) المعارف المتعلقة بالعلوم الاجتماعية في غالب الأحيان أقل المعارف تقدما في المناطق التي تشتد فيها الحاجة إلى هذا النوع من المعارف".

كما يرى غودموند هيرنيس، رئيس المجلس الدولي للعلوم الاجتماعية "أن العلوم الاجتماعية باتت تتسم بطابع عالمي حقيقي حيث إنه يتم تدريسها بالفعل في كل مكان، كما تنتشر نتائج بحوثها على نطاق واسع". ويذهب إلى أنه إذا كان على العالم التصدي للتحديات التي يواجهها في الوقت الراهن وفي المستقبل فإنه يحتاج بصورة حيوية إلى مزيد من العلوم الاجتماعية التي ينبغي أن تتسم بنوعية أجود، وهوما يتطلب فهم كيفية مسيرة العالم وعلى أي نحو يتفاعل الناس بعضهم البعض.

وفي ظل المتغيرات العالمية المتصارعة التي يشهدها العالم الإنساني الآن، تتعاظم أهمية العلم والمعلومات كأداة للتقدم الإنساني وتحقيق التنمية، وفى حال إقرارنا بأن العلوم الطبيعية هي سبيل المجتمعات نحو التقدم التقني والتكنولوجي، يكون لزاماً ألا ننسى أن العلوم الاجتماعية بدورها هي أداة للتخطيط لعمليات التنمية البشرية والاجتماعية ومحركا أساسيا لكافة عمليات التغير الاجتماعي ومركزاً للحركات الاجتماعية.

وهذا يدل على العلاقة المتبادلة بين الفكر المتمثل فى العلم وبين الواقع، فالعلم كشكل أعلى للمعرفة يتأثر بالواقع الاجتماعي ويسهم في تغييره على نحو يجعله أكثر ملائمة للفكر الحديث، وذلك عن طريق إعمال العقل وتبنى النزعة النقدية التي تجعل الإنسان أكثر وعياٌ وأكثر قدرة على إيجاد واقع اجتماعي يتلاءم مع حاجات الإنسان ومتطلباته.

فالعلوم الاجتماعية تعمل على رفع المستوى الذهني والفكري لدى أفراد المجتمع ومن ثم تزويد الفرد بمواقف واتجاهات سلوكية تعمل على خلق مجتمع قادر على الارتقاء بذاته والتكيف مع المستجدات والتحولات المعاصرة.

وهذا ما دفع العالم المتقدم إلى الاعتماد على هذه العلوم وتشجيعها والعمل على مساندتها من خلال تقديم كافة أنواع الدعم والإمكانات لها كي تقوم بدورها في خدمة المجتمع وتنميته، الأمر الذي جعل الولايات المتحدة الأمريكية تقوم بإطلاق اسم خاص على العقد الحالي من الألفية الثالثة وهو"عقد السلوك" وهذا يدل على مدى أهمية العلوم الاجتماعية ومشاركتها في إحداث التقدم والتغير.

فلم يعد إحداث التغير مقصوراً على العلوم الطبيعية فحسب بل باتت العلوم الاجتماعية قاسماً مشتركاً في عملية التغير، ذلك التغير الذي يمر به العالم أجمع والذي اجتاح كثير من مظاهر الحياة على سطح الأرض وعمل على إحداث تحولات سريعة ومفاجئة أدت إلى قيام الإنسان المعاصر بتعديل رؤيته إلى العالم الجديد السريع التغير والبحث عن معنى جديد للإرادة الإنسانية ومحاولته تحرير نفسه من القيود التي تكبل انطلاقه لتحقيق ذاته والقدرة على التعامل مع التحديات التي تواجهه، والرغبة في التخلص من الأوضاع التي لا تتفق مع رؤيته الخاصة وطموحاته.

=2= الطالب الجامعي في الواجهة:

يمثل الطالب الجامعي أحد الفاعلين الاجتماعيين ضمن النسق الجامعي، بل أكثر من ذلك فهو فاعل اجتماعي يمثل فئة "الشباب الجامعي"، الشباب حامل الأفكار، هدف المشاريع التنموية ومهندس مسارها واستدامتها.

إن فئة الطلبة اليوم وخاصة في بلداننا العربية والاسلامية تمثل قوة اجتماعية، من الخطأ إقصاءها من أي مشروع تحديثي أو تنموي، فهي قوة خامدة ومورد استراتيجي للبلد.

إن حديثنا عن الطلبة الجامعيين لا يعني طلبة العلوم الاجتماعية فقط، بل حتى الطلبة في باقي التخصصات في شتى العلوم والمعارف، ذلك يرجع إلى الأسباب التالية:

= إن طبيعة المعرفة اليوم هي متكاملة، حيث أن فروع العلم بقدر ما زاد تخصصها بقدر ما زاد تميُعها وذوبانها مع بعضها البعض في الكثير من الأحيان.

= بقدر ما استفادت العلوم الإنسانية والاجتماعية من العلوم التقنية والطبيعية، بقدر ما زادت حاجت هذه الأخيرة للأولى، فكثير من فروع المعرفة هي وليدة هذا التبادل والتزاوج مثل الأرغونوميا.

= البيئة التقنية ليست بمعزل عن البيئة الاجتماعية، وبالتالي حاجة العقل التقني للعقل الاجتماعي لخلق و/أو تعزيز التكيف.

من خلال هذا نكون قد عززنا موقفنا السابق الذكر حول أهمية العلوم الاجتماعية.

لكن الآن الواجهة هي الطالب الجامعي، فالمأزق هو مأزق الأفكار المسبقة، حيث أن العقل الطلابي اليوم على مستوى الممارسات التي نلاحظها داخل الجامعة، هو عقل متأرجح بين إعادة إنتاج الممارسات الاجتماعية الشعبية - المنتجة خارج نسق الجامعة- وبالتالي هيمنة المجتمعي على المؤسساتي من جهة، والعلاقة الأداتية مع عناصر التشكيلة المؤسساتية - الإدارة، الأساتذة، الدروس والمحاضرات، إلى آخره من جهة أخرى.

إن حقل العلوم الاجتماعية بالنسبة للطلبة مبرمج قبلياً في أذهانهم كمكان لمن لم يسعفه الحظ للحصول على معدل جيد في الباكالوريا وبالتالي عدم القدرة على اختيار التخصص المطلوب اجتماعياً، أو النظرة إلى بعض التخصصات وبالتحديد علم النفس كقريبة للعلوم الطبية، كذلك تأثير المحيط الأسري على خياراتهم في كثير من الأحيان بسبب امتداد فترة مسؤولية الأولياء حسب كينيث روبرتس[1]، بالرغم من أن البعض يرى أن ذلك تضاءل في الوقت الحالي من بينهم منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية التي رأت أن "قدرة الأسرة على تقديم النصح والإرشاد لأبنائها الراشدين وإعالتهم قد تضاءلت بوجه العموم"[2].

هذه الثقافة التي نفضل أن نستعمل بدلها المفهوم الذي جاء به جيرت هوفستد[3] وهو "البرمجة الذهنية"، بمعنى أن هذا النمط من التفكير أو السلوك هو جماعي ولديه قوة دفع للفعل الاجتماعي[4] –إنه يتقارب لحد ما مع مفهوم الهابيتوس (الملكة) عند بورديو.

من المفارقات البسيطة هي التداول الاجتماعي لبعض مظاهر الحياة الاجتماعية كالأكل، اللباس، المسلسلات، الأفلام، مباريات كرة القدم، نكت وسكاتشات، إلى آخره، بلذة كبيرة من خلال ممارسات وحوارات ساخنة، مقابل ابتعاد أو مقت التطرق للمواضيع الأكاديمية ذات العلاقة بالعلوم الاجتماعية، بالرغم من أن المظاهر السالفة الذكر هي مواضيع خام للتداول الأكاديمي في هذه العلوم.

=3= العلوم الاجتماعية والدور المفترض لإعادة البرمجة:

حقيقة تفرض أهمية العلوم الاجتماعية في الوقت الراهن، إعطاءها الدور الأساسي في تشكيل وبناء العقل النقدي للطالب الجامعي، هذا العقل الذي يجب أن يكسر صندوق الأفكار المسبقة التي تتحكم فيها العواطف، الثقافة السائدة والمهيمنة مجتمعياً، بل حتى الفائض في الكبت حسب التعبير الفرويدي الذي يتعدى الجانب الغرائزي إلى جوانب اجتماعية واقتصادية وسوسيو- سيكولوجية، إلى آخره.

إن العلوم الاجتماعية بما تحويه من تخصصات معرفية تهتم بالفرد (علم النفس)، الجماعة (علم النفس الاجتماعي)، المجتمع (علم الاجتماع) والثقافة (الأنثروبولوجيا)، تشكل أداة لإحياء العقل لدي الطلبة الشباب، ومصدراً لحرية العقل من خلال ما توفره من أدوات ومناهج تجعل الباحث والطالب يخضع المعلومة كيف ما كان نوعها لعقل يثير مشاكل للتفهم والانتقاد، إنه عقل التفكيك بالمعنى الذي يعطيه إياه أنصار البنيوية التفكيكية.

كل هذا في عالم التكنولوجيات الحديثة للإعلام والاتصال، التي يقال عنها نوع خاص من المعرفة، بظهور ما يسمى بالفضاء التكنوفيلي [ فضلنا نقل كلمة Technophiles إلى العربية كما هي حتى نتفادى أي خلط في الترجمة]، والتكنوفيلية كما تقول سيلفي أوكتوبر تتعلق باستعمال الوسائط التكنولوجية حتى بدون معرفة الشباب للوظائف التكنولوجية سواء من حيث البرمجة أو بنية الشبكة، إلى آخره[5].

=4= من أجل تفكير نقدي وإبداعي:

التفكير هو جهد أو نشاط عقلي يبذله الفرد دون توقف عند النظر إلى الأمور، ويأخذ هذا الجهد صورا مختلفة كالمقارنة والاستنباط والتحليل والتركيب، إنه ما يحدث عندما يحاول الفرد أن يفكر في مشكلة أو في حلها.

إن ما نقصده بالتفكير النقدي هو كل عملية ذهنية قائمة على المنطق والإبداع، أي الجمع بين نوعين من التفكير:

التفكير المنطقي: وهو التفكير الذي يهتم بالمبادئ العامة للفكر الصحيح التي تساعد على الوصول إلى النتائج الصحيحة،وعدم الوقوع في الخطأ.

التفكير الإبداعي: الذي هو نشاط عقلي يتصف بعدم النمطية،وبالخروج عن مسار التفكير المعتاد المألوف،ويؤدي إلى إنتاج يتصف بالإبداع.

إن أهمية العلوم الاجتماعية بالنسبة لتشكيل العقل النقدي لدى الطلبة، تكمن في أنها تستطيع أن توسع دائرة الخيال المعرفي الذي يعتمد على تدفق الأفكار وتعددها، يتعرض لكل الأفكار الممكنة، يأخذ الأفكار المرتبطة وغير المرتبطة بالمشكلة أو الحالة حتى لو كانت أفكاراً غير عملية، كما يتبع كل المسارات حتى قليلة الاحتمال، كما أن دور العلوم الاجتماعية في هذه المسألة أيضا يكمن في إزالة بعض العوائق التي تعرقل التفكير النقدي والإبداعي مثل:

= التسرع وبناء الأفكار على الأحكام القيْمية.

= المعوقات الإدراكية والتقيد بأنماط محددة من التفكير.

= الخوف من الظهور بشكل مختلف عن الآخرين.

= الخوف من اتهام الآخرين لأفكارنا بالسخافة.

= التسليم الأعمى للافتراضات أو القيود من الذات.

الخاتمة:

في الأخير لا يسعنا إلا أن ننوه بأهمية العلوم الاجتماعية كحقل معرفي، ودورها الحاسم في تغيير الذهنيات والأحكام القيمية السائدة، وندعو جميع من اتهمها أي اتهام إلى إجراء المصالحة معها، وإلى تغيير نظرته نحوها ولملا أن يجرب جديا التفكير من خلالها وأن يستفيد منها أولا لتطوير أدائه الذاتي، السلوكي والتواصلي، وثانيا للرفع من قدرات ممارسته العقلية، فلقد أثبت التجارب أن العلوم الاجتماعية ساهمت في تطور أنماط التفكير الإنساني بدرجات عالية وفي ظرف زمني لا يتعدى 6-7 عقود، فساهمت في بروز نماذج تنظيمية على المستوى المؤسساتي والمجتمعاتي، إلى آخره، ودليل ذلك ما يجري اليوم في الحقل المسمى بالتنمية البشرية.

= = = = =

الهوامش

[1]- كينيث روبرتس: اندماج الشباب في سوق العمل والتوجيه المهني: الرهانات الجديدية، مستقبليات، مجلد18، عدد04، مكتب اليونسكو الإقليمي للتربية في الوطن العربي، عمان، الأردن، 1988، ص544.

[2]- Coleman (J) etHusen (T):Devenir adulte dans une société en mutation, Organisation de Coopération et de Développement Économiques, Paris, 1985.
نقلا عن: كينيث روبرتس، مرجع سابق، ص 544.

[3] - voire les deux travaux de Hofsted : Geert HOFSTEDE: "VIVRE DANS UN MONDE MULTICULTUREL" Les éditions d’organisation. 1994.
Geert HOFSTEDE et Daniel BOLLINGER : « LES DIFFERENCES CULTURELLES DANS LE MANAGEMENT », Les Editions d’Organisation, 1987

[4]- الفعل الاجتماعي من المفاهيم المفتاحية في علم الاجتماع، يعرفه ماكس فيبر " على أنه سلوك إنساني يَدخًل سلوك الآخرين ويتأثر بهم"، ويعرفه إميل دوركايم" على أنه طريقة في التفكير والشعور والسلوك موجهة حسب نماذج جمعية" أنظر:
غي روشي، مدخل إلى علم الاجتماع العام، تر: مصطفى دندشلي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت،1982، ص29.

[5]- Sylvie (O) : Pratiques culturelles chez les jeunes et institutions de transmission: un choc de culture?, DEPS, France, Janvier2009, p04.

D 25 كانون الأول (ديسمبر) 2013     A سفيان بدراوي     C 5 تعليقات

3 مشاركة منتدى

في العدد نفسه

تهنئة بالسنة الجديدة 2014

كلمة العدد 91: ثلاث سنوات على محاولات التغيير في العالم العربي

تكامل العلوم الإنسانية والتقنية

رؤيا القص/قصّ الفكرة

قراءة في رواية الدخان