كتاب: بيروت 1982: اليوم ي
ما بعد بيروت: الرؤية القيادية الغائبة
د. عدلي الهواري
من الحقائق المعروفة أن ياسر عرفات كان يتعرض إلى انتقادات داخل فتح ومن فصائل م ت ف. وكان ذلك منذ وجود المقاومة الفلسطينية في الأردن. وعندما وقع الغزو الإسرائيلي للبنان، وحوصرت بيروت، أصبحت الأولوية للتركيز على المقاومة والصمود. من معارضي عرفات المعروفين، الصحفي الفلسطيني، حنا مقبل[1]، الذي كان ذات يوم رئيس تحرير مجلة «فلسطين الثورة». كتب حنا مقبل أثناء الحصار مقالة جاء فيها ما معناه أن هذا ليس وقت الانتقاد. للأسف ليس لدي نسخة من المقالة لأنشر منها مقتطفا.
ومما لا شك فيه أيضا أن صورة عرفات أثناء فترة الحصار تحسنت كثيرا في عيون الجماهير المتابعة للتطورات من الخارج، وكانت تشاطره خيبة أمله من تخاذل الأنظمة العربية تجاه تقديم الدعم للمقاومة المحاصرة في بيروت. ولذلك، كان لديه رصيد إضافي من الشعبية والتقدير، وكان يجب أن يستثمره في مصارحة مع الشعب الفلسطيني يقيّم فيها المرحلة الماضية، ويقدّم أو يطلب رؤية بشأن المستقبل.
الشعور بخيبة الأمل من الأنظمة ما كان يجب أن يستمر طويلا، فتخاذل الأنظمة ليس جديدا، وحتى لو كان كذلك، حركات المقاومة يجب أن يكون اعتمادها الأساسي على القدرات الذاتية أولا، فمأساة فلسطين أحد أسبابها دور الأنظمة العربية سواء في مضمار السياسة أثناء فترة الاستعمار البريطاني لفلسطين («الانتداب»)، أو في مضمار القتال بعد قرار بريطانيا الانسحاب من فلسطين بعد أن مهدت الأسس لقيام كيان جديد قادر على مواجهة أكثر من جيش عربي لا لشيء إلا لأن الدول العربية في ذلك الحين كانت أكثر تخلفا مما هي عليه الآن، ولم يكن القرار في يدها حقا.
وممارسة العمل السياسي لا تتم وفق ما هو معروف في العلاقات الشخصية، فأن تحب شخصا أو تكرهه لا يصلح كأساس لممارسة السياسة. خيبة الأمل في القادة العرب لا تجيز أن تخرج المنظمة من بيروت معتقدة أن السعي إلى حل من خلال إنشاء علاقة مباشرة مع الولايات المتحدة سيكون هو الطريق السليم.
رغم الأداء البطولي للمقاومة في بيروت، إلا أن هذا لا يعني انتفاء الحاجة إلى تقييم المقدرة القيادية لقادة الفصائل الفلسطينية التي عرفناها منذ ظهور المقاومة في الأردن بعد حرب 1967، بل إن الخروج من بيروت جعل التقييم حاجة ملحة. هذه القيادة خسرت المعركة في الأردن عام 1970 وخرجت من عمّان، وخسرت المعركة أيضا عندما تم تجميع المقاتلين في أحراش جرش عام 1971، فانتقلت المقاومة إلى لبنان، وهناك حظيت القيادة بفرصة أخرى كي تبقي شعلة المقاومة من أجل تحرير فلسطين مستمرة.
كانت هناك أصوات في لبنان في ذلك الحين ترفض أن تكون قيادة المرحلة في الأردن نفس قيادة الوضع في لبنان. وأحد من كانوا يرفضون ذلك حمدان، مسؤول إقليم فتح في لبنان. ولكنه خسر الحجة كما يقال، وخسر موقعه أيضا.
من غير المعقول أيضا أن تنسينا المقاومة البطولية أن هذه القيادة لم تحسن إدارة مرحلة بيروت، وتتويجها بالخروج المؤلم لمن خرج، ولمن شهده شخصيا، أو شاهده على شاشات التلفزيون. وعندما تخفق ذات القيادة في قيادة مرحلتين، من غير المنطقي أن نتعامل مع الأمور بمنطق أنبياء ومؤمنين. لا يعني الحديث عن عدم إدارة المرحلة كما يأمل الإنسان الفلسطيني أن هذه القيادة لم تواجه عقبات حقيقية، فمن الإنصاف القول إن مراحل التقاط الأنفاس بين معركة وأخرى، مع إسرائيل، أو مع نظام عربي أو قوى معادية للثورة، فترة قصيرة، ولكن هذا لا يعفي هذه القيادة من التقييم على المجمل الذي لم يكلل بالنجاح للأسف.
تحدثت أعلاه عن رصيد إضافي حققه عرفات أثناء حصار بيروت. وللأمانة العلمية في التحليل يجب أن أقول إن هذه الصورة لعرفات لم تكن حقيقية مئة في المئة. فترة وجودي في المجلس الفلسطيني في أميركا الشمالية منحتني الفرصة لأن أرى الجانب غير الظاهر من الصورة، وهو المتعلق بتعويله على إمكانية إقناع الأميركيين بالاتفاق معه على صيغة تؤدي مثلا إلى تعديل قرار 242، بل وبدا لي أنه كان مكتفيا بأن يجري حوار مباشر بين المنظمة والولايات المتحدة كمفتاح لحل يكون راضيا عنه.
الخطأ في موقف ياسر عرفات فيما يتعلق بهذا الجانب أنه يدل على أنه لا يعامل الداعم الأول لعدوه كخصم، بل كطرف منحاز قد يمكن إقناعه بالعدول عن الانحياز لطرف واحد، وهذا غير وارد، وأكدته التجارب العربية مرات عديدة. ثانيا، اعتقد عرفات أن فتح حوار مباشر معه سيؤدي إلى حصوله على أشياء مختلفة عما تعرضه عليه الولايات المتحدة في عروضها العلنية أو عبر قنوات اتصال غير معلنة، وهذا أمر غير واقعي، فمنظمة التحرير ليست الاتحاد السوفيتي ليمكنها أن تتعامل كند مع الولايات المتحدة.
تبين لي في تلك الأيام العصيبة أن عرفات والقيادة الفلسطينية القريبة منه لا يعيان كيف يعمل النظام السياسي في الولايات المتحدة، فتصريح متعاطف قليلا مع الشعب الفلسطيني من سناتور أو عضو مجلس نواب لا حظ له في أن يتحول إلى سياسة أميركية. ولذا أن يلتقي خالد الحسن مع هاملتون أو غيره ما كان سيؤدي إلى سياسة أميركية جديدة.
قبل خروج عرفات من بيروت، كان ينتظر ذات يوم على الطرف الآخر للحصول عبر التلكس على نص مقابلة أذيعت ضمن برنامج تلفزيوني من برامج يوم الأحد السياسية، التي تعتمد على مقابلات مطولة مع شخصيات أميركية بارزة. كان عرفات مهتما بالحصول على النص وعلى عجلة من أمره، ولم يكن ممكنا تزويده به فورا لأن الشبكة التلفزيونية لم تكن لحظتها أتمت عملية تحويل الكلام إلى نص مكتوب. ولكن مهما قال هاملتون في ذلك اليوم، ما كان سيثمر سياسة أميركية تقدم للفلسطينيين أكثر من الموقف المعروف الذي ترثه إدارة من أخرى، ولا يكون من ضمن السياسات التي تتعرض للتغيير.
ومع أن صورة عرفات عندي تغيرت، إلا أنني عندما أكتب كباحث، أعود فأذكّر بأنه خرج من بيروت برصيد أكبر من الشعبية والتقدير. وكان يجب أن يستثمر هذا للحديث بصراحة مع الشعب الفلسطيني ويقيّم المرحلة السابقة ويقدّم أو يطلب تصورا للمرحلة القادمة.
بعد الخروج من بيروت كنت أتطلع إلى الاستماع من أي قيادي فلسطيني إلى رؤية لمرحلة ما بعد بيروت. كان بعضهم يأتي إلى الأمم المتحدة، وكانت تعقد لبعضهم اجتماعات عامة، أو لقاءات صغيرة لعدد محدود من الأشخاص. لم يقدم أحد رؤية جديدة لأنه لم يكن لديه، وهم يريدون الاستمرار في مواقعهم القيادية وبنفس الأساليب التي نعرف أنها في المراحل المهمة لا تكفي لإدارة معركة سياسية أو عسكرية بنجاح. ولذا فمبررات القلق على مستقبل القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني لم تكن ترفا فكريا، أو رغبة في مناكفة سياسية، بل مخاوف مشروعة، فليس معقولا أن يطلب من الشعب الفلسطيني تقديم التضحيات دون أن تكلل تضحياته بنتائج إيجابية لعموم الشعب. أما أن يكون المطلوب من الشعب الفلسطيني أن يقدم رجاله ونساؤه وأطفاله وشيوخه التضحيات ليظل هذا الرجل أو ذاك قائدا، فهذا غير مقبول لأن حياة الإنسان ليست رخيصة، والتضحيات قدمت من أجل فلسطين وشعبها، وليس من أجل شخص أو مجموعة أشخاص.
ماذا كان يمكن عرفات أن يفعل في وقت تمتعه بشعبية ورصيد إضافيين بعد الخروج من بيروت؟ كان يجب أن يعقد اجتماعا للمجلس الوطني الفلسطيني ويلقي فيها خطابا يقيّم فيه المرحلة السابقة ويقدم أو يطلب (أكرر هذا) رؤية للمرحلة القادمة. في تصوري أنه كان أمامه خياران. الخيار الأول أن يصارح الشعب الفلسطيني ويقول إن الكفاح المسلح كسبيل حتمي وحيد أثبت أنه غير ناجح. التجربة أثبتت أنه لم يكن الوسيلة الوحيدة، كما أن تحقيق الانتصار من خلاله ليس حتميا. وطبعا من يمتلك الوعي الفكري كان يمكنه أن يدرك أن هذا الشعار غير صحيح دون أن نحتاج إلى تجريبه. ولكن لنقل إنه كان شعارا غايته الحث على المقاومة، ونجح من هذه الناحية، ولكن حركات المقاومة يجب ألا تكون أسيرة شعارات، بل تعتمد على فكر علمي منهجي.
لو اختار عرفات هذا الخيار، لوجب أن يقول للشعب الفلسطيني إن مرحلة ما بعد بيروت لا يمكن أن تكون مرحلة كفاح مسلح فقط، وليس أمام الشعب الفلسطيني إلا السعي إلى حل سلمي بوسائل سلمية، ولكن لأنه قاد الشعب الفلسطيني على أساس الاعتماد على الكفاح المسلح، فإن احترامه لسجله النضالي وتضحيات من استجابوا لهذا الشعار، لا يمكن أن يكون القائد الذي يقود مرحلة السعي إلى حل سلمي، ولذا لا بد من الاتفاق على قيادة جديدة لمرحلة جديدة، وبوسع قادة المرحلة الجديدة أن يستفيدوا من خبرته السياسية إذا أرادوا ذلك.
الخيار الثاني أمام عرفات كان أن يقول للشعب الفلسطيني إنه حاول أن يحقق له أهدافه، ولكنه لم يفلح، وإن المقاومة بمختلف أشكالها، ومن ضمنها المقاومة المسلحة، لا غنى عنها لأي شعب خاضع للاحتلال. ولكنني، أي عرفات، لم أعد الرجل المناسب للمرحلة الجديدة من المقاومة، ولا بد من إعطاء فرصة لجيل آخر يقود المرحلة الجديدة. وهكذا يتنحى هو وجميع قادة الفصائل، ويتولى القيادة أشخاص جدد يمهدون الطريق لقيادة جديدة تملك رؤية لا تعيد إنتاج تجارب الماضي.
لو نفّذ عرفات أحد الخيارين لخُـلّـدت صورته كقائد للشعب الفلسطيني ظل وفيا للأهداف التي وعد الشعب الفلسطيني بتحقيقها، وعندما أدرك أنه غير قادر، أفسح المجال لغيره. ولكنه للأسف لم يختر أحد الخيارين، بل واصل السير على الدرب الذي أوصله إلى القبول بحكم ذاتي سقفه أدنى مما كان معروضا من قبل.
مما لا شك فيه أن أي عمل سياسي أو ثوري سوف يضطر إلى القيام بعمل تكتيكي لخدمة الهدف الاستراتيجي. ولكن التكتيك كأسلوب دائم للتعامل مع التحديات والظروف الطارئة وصفة محكومة بالفشل كما تبين في بيروت وبعدها. في نهاية المطاف لم تفلح التكتيكات والصيغ المرنة، واضطر عرفات لقراءة نص مكتوب من وزارة الخارجية الأميركية مقابل فتح الولايات المتحدة حوارا مباشرا معه، ولم يدم الحوار طويلا. إضافة إلى ذلك، رغم وجود وفد فلسطيني يفاوض في واشنطن، ويتلقى تعليماته من عرفات، كان عرفات يجري مفاوضات سرية في أوسلو وقاد الشعب الفلسطيني إلى مستنقع لا أحد يعلم متى وكيف سيمكن الخروج منه.
بالخروج من بيروت انتهى أيضا دور منظمة التحرير الفلسطينية، وأي دعوات إلى تفعليها تدل في رأيي على عدم استيعاب المرحلة التي تُوجت بالخروج من بيروت. لقد ناضل الشعب الفلسطيني وضحى كثيرا من أجل أن تحصل م ت ف على صفة الممثل الشرعي والوحيد. ولكن التطبيقات العملية لهذه الصفة ظلت مشوبة بالتعقيدات، فالحصول على هذه الصفة كان في واد، والتمثيل الحقيقي ظل في واد آخر، فعلي سبيل المثال، كيف يكون تمثيل الفلسطينيين الذين يحملون جنسيات دول أخرى.
طبعا الغاية من الحصول على صفة الممثل الشرعي الوحيد كانت سحب المتاجرة بالقضية من أيدي الأنظمة العربية، وسحبها أيضا من أيدي شخصيات فلسطينية مستعدة للتعاون مع إسرائيل في التوصل إلى حل يكون وفق التصورات الإسرائيلية، التي أنشأت ما سمي «روابط القرى» وكانت تسعى إلى التعاون مع رؤساء بلديات من أجل التوصل إلى حلول سقفها كان دائما حكما ذاتيا في الضفة الغربية وقطاع غزة.
ومن المؤكد أيضا أن أمل قيادة م ت ف كان تحول اعتبارها ممثلا شرعيا وحيدا إلى اعتراف دولي يجعلها طرفا في الجهود الهادفة إلى التوصل إلى حل للقضية الفلسطينية. وقد نالت م ت ف اعترافا من العديد من الدول، وتم فتح سفارات، وحصلت م ت ف على صفة مراقب في الأمم المتحدة. ولكن هذا الاعتراف لم يتوج بتحول م ت ف إلى طرف مقبول في محاولات التوصل إلى تسوية بسبب عدم الاعتراف الإسرائيلي والأميركي بالمنظمة.
كان من نتائج اعتبار م ت ف ممثلا شرعيا وحيدا اختزال هذه الصفة وهذا الحق في شخص رئيس اللجنة التنفيذية للمنظمة، وخاصة بعد انفجار الخلاف داخل حركة فتح في عام 1983. من الأمثلة على ذلك، ما ورد في تعميم أصدرته الهيئة التنفيذية لعموم فروع الاتحاد العام لطلبة فلسطين يحمل تاريخ 24/8/1983 عن جولة لوفد من الهيئة في بعض الدول الأفريقية. وقد جاء في التعميم:
«وأكدت المنظمات الأفريقية خلال المباحثات دعمها وتأييدها الكاملين لمنظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد بقيادة الأخ أبو عمّار وأدانت التدخلات الخارجية في الشؤون الداخلية للمنظمة وعبرت عن وقوفها لاستقلالية القرار الوطني الفلسطيني».
إن تمثيل هيئة لشعب ما لا يرتبط بشخص رئيس الهيئة، وإذا حصل ذلك تتقلص الصفة التمثيلية كثيرا إذا لم تصبح لاغية عمليا. وفي نهاية المطاف، اختفى الاختلاف بين أن تكون م ت ف ورئيس لجنتها التنفيذية، عرفات، الممثل الشرعي الوحيد.
توجه أحيانا انـتـقادات إلى مـسألة استـقلال القـرار الفـلسطيني، وبعـضه مـشروع بالـتأكـيد، وخاصة عـندما ينظر للأمر مـن ناحـية الـممارسات العـملية التـي تخـتــزل م ت ف في شخص رئيس لجنتها التنفيذية، الذي كان أسلوبه القيادي عرضة للانتقادات حتى في أحسن الأوقات التي مرت فيها المنظمة. أما عندما تذهب الانتقادات إلى أبعد من ذلك، واعتبار مسألة استقلال القرار برمتها خطأ، فإن الانتقادات تتجاوز حدود المعقول، فالمؤكد أن القضية الفلسطينية تضررت بسبب تعدد الجهات التي فرضت وصايتها على الشعب الفلسطيني. والحقائق في هذا الشأن واضحة منذ كانت فلسطين خاضعة للاستعمار البريطاني.
ومثلما لم يكن المقصود من حصول م ت ف على صفة الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني أن يختزل ذلك في شخص رئيس لجنتها التنفيذية في ذلك الحين، لم يكن المقصود من استقلال القرار الفلسطيني وضعه في تصرف شخص واحد أيضا ليفعل به ما يريد باسم الاستقلالية.
ولكن مناقشة هذه التفاصيل يجب ألا تنسينا المسألة الأكبر التي أناقشها هنا، وهي انتهاء دور م ت ف بعد خروج المقاتلين والقيادة من بيروت، فالقرار فيها اختزل في شخص واحد، وبعد التوصل إلى اتفاق أوسلو أنشئت السلطة الفلسطينية التي تدير حكما ذاتيا محدودا. وأصبحت م ت ف كيانا أجوف. والدعوات إلى تفعيل دور م ت ف ستؤدي في حال نجاحها المشكوك فيه كثيرا إلى إعادة إنتاج التجربة التي فشلت في الماضي. هناك أسئلة عملية سوف تطرح نفسها من قبيل قوات جيش التحرير الفلسطيني. ليس لدي إجابات عن الأسئلة المشروعة، والنقاش حولها مسؤولية جماعية. ولكن بناء على التحليل المنطقي لما آلت إليه تجربة م ت ف ووضعها الحالي، من غير المعقول العودة إلى صيغ وهياكل من الماضي، وخاصة أنها لم تكن ناجحة إلا جزئيا ولفترة محدودة.
الشعب الفلسطيني بحاجة هذه الأيام إلى صيغة جديدة تمكنه من مواصلة النضال. قد تكون صيغة النضال ضد نظام التفرقة العنصرية في جنوب أفريقيا مناسبة، فالمؤتمر الوطني الأفريقي كان تجمعا لقوى مختلفة، وكان للمؤتمر جناح عسكري، واعتمد النضال أيضا على مقاطعة نظام التفرقة العنصرية، حيث أفلحت حركة سحب الاستثمارات من جنوب أفريقيا في حمل النظام العنصري على التفاوض مع القائد السجين، نيلسون مانديلا، على نظام جديد قائم على المساواة.
تجربة النضال ضد نظام التفرقة العنصرية وغيرها من تجارب سيكون فيها دروس مفيدة للنضال الفلسطيني، ولكن استنساخ التجارب خطوة غير حكيمة، ومن الممكن أن يحصل تطبيق مشوه لتجربة ما، فالاكتفاء بالمقاطعة على سبيل المثال لن يكفي. والاكتفاء بالكفاح المسلح لن يكفي، وهو كما مورس في الماضي لم يكن السبيل الحتمي الوحيد لتحرير فلسطين كما قال الشعار. والمقاطعة إذا نجحت ذات يوم كما نجحت في جنوب أفريقيا، ستظل هياكل التحكم بالاقتصاد والمال على حالها، وسيظل الفلسطينيون مواطنين يتمتعون بحقوق متساوية ظاهريا، ولكن الفقر سيظل منتشرا، وسيكون هناك تفاوت كبير بينهم وبين من كانوا مسيطرين عليهم.
هل سينتصر الشعب الفلسطيني في نضاله ذات يوم، ويتحرر من الاحتلال، ويعود اللاجئون إلى مدنهم وقراهم؟ كان الحديث عن تحرير فلسطين يتم على أساس أن هذا حتمية تاريخية. ولكن حذار من التعويل على الحتميات التاريخية. لا شيء حتميا في التاريخ. وهناك أناس يؤمنون بأن النصر سوف يتحقق ولو بعد زمن طويل، ودليلهم على ذلك من التاريخ، ممثلا بتحرير القدس من الصليبيين بعد نحو مئة سنة. رغم أن هذا المثال من التاريخ مهم، ولكن ما حدث يوما في التاريخ قد لا يتكرر، فكل عصر له ظروفه.
في ظاهر الأمور، تبدو احتمالات انتصار الأمر الواقع انتصارا نهائيا قوية جدا، فهناك سلطة فلسطينية حريصة على علاقة ودية مع الاحتلال الإسرائيلي؛ وقطاع غزة محاصر منذ سنوات؛ والأوضاع العربية تدهورت كثيرا بعدما بشرت التطورات في نهاية عام 2010 وبداية 2011 بأن الدول العربية مقبلة على تغيير يحرر الجماهير المقموعة. ولكن قوى الثورة المضادة تحركت وأجهضت ما جرى، وسعت إلى تغيير أنظمة أخرى. ولم تعد تحاول إخفاء استعدادها للتعاون مع إسرائيل.
بعبارة أخرى، الخروج من الأوضاع الراهنة مليء بالصعوبات، ولكن هذه ليست دعوة للاستسلام للأمر الواقع، فتواريخ الشعوب مليئة بالأمثلة على النهوض رغم صعوبة الظروف، والنهوض مرتبط دائما بقوى طليعية تقتنع أغلبية الشعب بأنها تعمل من أجل تحقيق أهدافه في التحرر من الاحتلال والهيمنة.
في العدد 104 من مجلة «شؤون فلسطينية» (تموز 1980)، يروي ممثل م ت ف في لبنان، شفيق الحوت، تفاصيل نقاش حدث في ندوة عقدت له في جامعة هارفارد الأميركية في نيسان 1979. ويشير إلى نقطة مهمة أثارها في الندوة أستاذ بولوني (بولندي) لم يذكر اسمه في مقالة الحوت. ومن الواضح أن الحوت أدرك أهمية النقطة التي أثارها الأستاذ، بدليل الإشارة إليها في بداية المقالة. وهي نقطة تجعل التفاؤل بانتصار الشعب الفلسطيني قائما على أسس واقعية. قال الأستاذ البولندي:
«أنا واثق بأن شعب فلسطين، مثل أي شعب آخر في هذا الكوكب، يعشق حريته وحقه في سيادة نفسه. وبالتالي فهو ضد الاحتلال الإسرائيلي ولا يمكن أن يستسلم له مهما تعرض لأنواع القمع الجماعي والإرهاب المنظم الذي تقوم به إسرائيل. فمهما فعلت إسرائيل، فإنها لن تتفوق على من سبقها من قوى النازية والعنصرية وكل الأيديولوجيات الاستعمارية. وفي النهاية، لا بد للشعب الفلسطيني من أن ينتصر وأن ينتزع حقوقه الوطنية والإنسانية. ومن هذا الفهم أريد أن أطرح سؤالا محددا يتعلق بما يعرف بـ«النضال الجماهيري» [...] مع كل التقدير لظروفكم النضالية، فإني أشعر أحيانا بأن منظمة التحرير الفلسطينية لم تعط هذا البعد النضالي ما يستحقه من عناية واهتمام. وهو في رأيي بُعـد لا يقل أهمية عن النضال المسلح والنضال السياسي وكل أنواع النضالات الأخرى. أكثر من ذلك، أنا من المؤمنين بأن النضال الجماهيري هو أب هذه النضالات جميعها» (ص 4-5).
هذا تفاؤل واقعي غير معتمد على حتميات تاريخية، ولا على نبوءات دينية، وإنما على نضال جماعي. وهو أيضا مناقض لمنطق الاستسلام والقبول بالأمر الواقع. ولكن لا تزال هناك حاجة ماسة إلى حوارات حول أفضل السبل للخروج من الواقع المحبط الراهن. وللأسف أدت وسائل الإعلام الاجتماعي إلى زيادة النزعة الفردية، واعتقاد أن للحملات على صفحات الإعلام الاجتماعي مفعولا سحريا، مثل تغيير الأنظمة. ورغم أهمية الإعلام الاجتماعي كمنبر بديل لإيصال معلومات لا تنقلها وسائل الإعلام التقليدية، إلا أنه ليس البديل للعمل الجماعي المنظم، وبدون هذا لا يحدث تغيير على أرض الواقع.
ومثلما نجحت منظمات المقاومة الفلسطينية بعد حرب 1967 في تحدي الأمر الواقع، وتحقيق حالة من الالتفاف الجماهيري المبهر حول المقاومة، سيمكن لهيكل أو هياكل جديدة تحقيق نجاح مماثل، ولكن من المؤكد أن كسب ثقة الجماهير سوف يحتاج إلى جهود كبيرة وأسلوب مختلف في التعامل معها. ورغم صعوبة الظروف وكثرة التحديات، إلا أن الشعب الفلسطيني تواق إلى الخروج من الحالة المتردية التي يعيشها، ويتطلع إلى نشوء حالية نضالية قادرة على إدارة الصراع بكفاءة، وتتمكن من تحقيق الأهداف التي لم يكف الشعب الفلسطيني منذ مئة عام على النضال وتقديم التضحيات من أجل تحقيقها.
الخاتمة: المقدمات تقود إلى النتائج
ظهر بعد حرب تشرين الأول (أكتوبر) 1973 أن هناك احتمالا قويا للتوصل إلى حل للنزاع العربي الإسرائيلي. وقد عقد مؤتمر دولي للسلام في جنيف في الشهر الأخير من عام 1974، ولكنه لم يعقد سوى جلسة افتتاحية.
شهدت الساحة الفلسطينية نقاشات كثيرة حول هذه المسألة، فلو حصل سلام في ذلك الحين، لعنى انسحاب إسرائيل من الأراضي العربية التي احتلتها في عام 1967، بما في ذلك الضفة الغربية وقطاع غزة. وهاتان المنطقتان جزء من فلسطين، وظلتا في أيدي الجيوش العربية التي خاضت حرب 1948.
في عام 1974، تبنت م ت ف رسميا برنامجا سياسيا مرحليا، وهو الذي اعتبر في ذلك الحين بداية الانحراف عن الأهداف التي انطلقت الثورة الفلسطينية من أجل تحقيقها، أي تحرير كامل فلسطين. البرنامج السياسي المرحلي[1] عرف أيضا ببرنامج النقاط العشر. ويلاحظ على صياغة النقاط تكرار الحديث عن النضال من أجل كذا وكذا. ولكن لب الموضوع كان في البند الثاني من البرنامج:
«تناضل منظمة التحرير بكافة الوسائل وعلى رأسها الكفاح المسلح لتحرير الأرض الفلسطينية، وإقامة سلطة الشعب الوطنية المستقلة المقاتلة على جزء من الأرض الفلسطينية التي يتم تحريرها، وهذا يستدعي إحداث المزيد من التغيير في ميزان القوى لصالح شعبنا ونضاله».
تتميز صياغة هذا البند بأنها تتحدث عن إقامة سلطة مقاتلة على جزء يتم تحريره، بينما ظروف المرحلة التي صدر فيها البرنامج كانت متعلقة بحل سلمي يفترض أن يؤدي إلى الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي العربية بما في ذلك الضفة الغربية وقطاع غزة.
تعد صياغة هذا البرنامج مثالا على اللغة التي تستخدم للتمويه على المعنى المقصود حقا. لا أحد سيعترض على إقامة سلطة مقاتلة على أي من المناطق التي يمكن تحريرها، ولكن ما كان مطروحا في ذلك الحين حل سلمي يفضي إلى انسحاب من الأراضي التي احتلت عام 1967، وطبعا سيكون الحل نتيجة مفاوضات لن تتنازل فيها إسرائيل عن شيء دون مقابل، والدليل على ذلك، تجربة كامب ديفيد واتفاقية أوسلو وما بعدها. في الحالتين، كانت الترتيبات الأمنية على رأس الأولويات الإسرائيلية، وإقامة سلطة مقاتلة بعد هذه المفاوضات ضرب من الأوهام.
منطقيا أيضا، الجهة القادرة على تحرير جزء من الأراضي الفلسطينية، وإقامة سلطة وطنية مقاتلة عليها، هي جهة سيكون بمقدورها تحرير بقية المناطق. ولكن كما أسلفت، هذا البند لم يكن تبنيه لتحقيق الهدف الذي يوحي به نص البند. الغاية الحقيقية من تبنيه الانخراط في الحل السلمي المتوقع آنذاك، فالنقاش في الساحة الفلسطينية لم يكن نقاشا نظريا حول مرحلية النضال، بل كان يتم على ضوء معطيات أفرزتها حرب 1973، وكانت تشير إلى إمكانية التوصل إلى حل سلمي عبر مؤتمر دولي.
النقطة العاشرة في البرنامج المرحلي قالت: «على ضوء هذا البرنامج تضع قيادة الثورة التكتيك الذي يخدم ويمكن من تحقيق هذه الأهداف».
كان من نتائج هذا التفويض أن القيادة لم تعد تمارس السياسة أو دورها القيادي بوضوح، ولم تعد هناك صلة بين الممارسات والمواقف التكتيكية من جهة، وبين الاستراتيجية من جهة أخرى. ووصل أسلوب التكتيك إلى نهايته الكارثية المتمثلة في التوصل إلى اتفاق سري في أوسلو.
= = = = =
[1] النص الكامل للبرنامج المرحلي متوفر في موقع وكالة الأنباء الفلسطينية، وفا:
http://info.wafa.ps/atemplate.aspx?id=4897
= = =
ملحق الطبعة الثانية
مقدمة الملحق
تضمنت الطبعة الأولى من كتابي هذا، بيروت 1982: اليوم «ي»، مقتطفات من شهادات لأشخاص كان لهم علاقة بما حدث في لبنان عام 1982، وأدى إلى خروج م ت ف وقيادتها ومقاتليها من بيروت. لم أتمكن في الطبعة الأولى من نشر مقتطفات من رواية نبيل شعث بشأن الاتصالات التي أجراها في الولايات المتحدة أثناء الحصار الإسرائيلي لبيروت بتكليف من عرفات. واقتصر ذكر شعث على ما ورد في أحد التلكسات المنشورة في الكتاب.
بعد صدور الطبعة الأولى في العام الماضي، تمكنت من الحصول على نسخة من كتاب شعث: «حياتي: من النكبة إلى الثورة». قرأت باهتمام الجزء المتعلق بدوره في الاتصالات الأميركية-الفلسطينية أثناء حصار بيروت. وعليه، أضفت للطبعة الثانية مقتطفات مما كتبه في الفصل الرابع عشر: «ملحمة بيروت: حزيران (يونية) 1982» (ص 493-540).
قبل عرض المقتطفات والتعليق عليها، أود أن أشير إلى نقاط تتعلق بالمذكرات. أسمع وأقرأ كثيرا انتقادات لروايات بشأن أمر ما ورد في ذكريات أشخاص كتبوا عن دورهم في مؤسسة فلسطينية ما أو النضال الفلسطيني بشكل عام. كلما سمعت رأيا كهذا من شخص أعرفه أشجعه على كتابة روايته، وهكذا تتعدد الروايات، ويتمكن المهتمون من الحصول على صورة واقعية لما كانت عليه الأمور.
دون تعدد الروايات، ستظل الرواية المنشورة هي المرجع الوحيد للمهتمين بشأن ما. ومع مرور الزمن، تصبح هذه الرواية التي قد تكون مفتقرة إلى الدقة، أو بعيدة عن الواقع، الرواية المرجعية المتداولة. في نهاية المطاف، عندما يكتب أحد عن موضوع ما، ولم يكن طرفا فيه، أو شاهدا عليه، سوف يستعين بما هو منشور، فإذا كان المنشور رواية واحدة، في كتاب أو مقال، ستظل المرجع الوحيد الذي يستعين به المهتمون بالكتابة عن مسألة ذات صلة.
رغم أهمية المذكرات كمصدر للمعلومات ووسيلة للتوثيق، إلا أن التعامل معها يجب أن يكون بتمحيص المعلومات والآراء. من المحتمل كثيرا أن يبالغ كاتب المذكرات في دوره في الأحداث، أو أن يتعامل مع الحقائق بانتقائية، فيغفل ما لا يتوافق مع روايته، أو يقلل من أدوار الآخرين، وهكذا. هناك اهتمام أكبر في السنوات الأخيرة بكتابة مذكرات ونشرها. تشتهر مذكرات أصحاب الأسماء المعروفة الذين تسعى بعض المؤسسات إلى تبني مذكراتهم لنشرها والترويج لها والرواية التي يراد ترسيخها كرواية مرجعية وحيدة.
أتمنى أن أرى مقابل رواية كل اسم مشهور أكثر من رواية لنفس الحدث لأشخاص أقل شهرة، ولكنهم عايشوا التجربة وكان لهم دور فيها. في أوج النضال الفلسطيني، قبل الخروج من بيروت، كان نكران الذات صفة شائعة. الأغلبية كانت تعمل وتضحي بصمت. لذلك نحن بحاجة لروايات إضافية بخصوص كل حدث. الذكريات فقط مهمة وخاصة عندما يكون كاتبها منخرطا في التجربة وأمينا في الكتابة عنها. لكن الروايات التي نحتاجها أكثر من غيرها هي الروايات الموثقة. نريد أن نرى مصادر أولية يمكن دراستها وتحليلها.
أعود الآن لذكريات شعث. بعد التفكير في المكان الأنسب للمقتطفات من روايته بشأن الاتصالات التي أجراها في الولايات المتحدة، قررت أن أنشر المقتطفات وتعليقاتي عليها ضمن ملحق يضاف إلى آخر صفحات الطبعة الثانية. إيجابيات ذلك أن الصورة الموثقة التي تضمنتها الطبعة الأولى ستظل كما هي، فالغاية في الأصل من إصدار الكتاب نشر الوثائق كما شرحت في مقدمة الطبعة الأولى، فهي أهم للباحثات والباحثين من التعامل مع آراء أشخاص.
المقتطفات التي رافقت الوثائق كانت لوضعها في سياق أوضح، وتسليط الضوء على الآراء المختلفة لأشخاص عايشوا التجربة من مواقع مختلفة. ونظرا لقيام شعث بدور في الاتصالات الفلسطينية-الأميركية، من الضروري لاكتمال الصورة الإشارة إلى دوره وما قاله عنه في كتابه. وقد أصبح هذا ممكنا في هذه الطبعة.
رواية شعث للاتصالات لا تعتمد على وثائق كما هي الحال في توثيق الكتاب اتصالات جواد جورج، المدير التنفيذي للمجلس الفلسطيني في أميركا الشمالية. لذلك، قد يتفق ما يقوله شعث مع ما ورد في الوثائق، وقد يختلف أيضا. في حال الاختلاف، سيكون في محتوى الوثائق والتلكسات الرواية الأدق والأوثق.
للتعامل النقدي مع رواية شعث مبررات إضافية، فقد كان عضوا في المجلس الثوري لحركة فتح، وضمن أعضاء رئاسة مؤتمر الحركة الذي عقد في عام 1980، وكان رئيسا لمركز التخطيط التابع لمنظمة التحرير. وكان أستاذا جامعيا، وهو حاصل على الدكتوراه من جامعة بنسلفانيا الأميركية عام 1965.
توثيق المقتطفات من الكتاب في الهوامش (أسلوب شيكاغو):
النسخة الورقية:
1. عدلي الهواري، بيروت 1982: اليوم ي (لندن: عود الند، 2018)، ص - -.
توثيق النقل من الموقع:
يحذف من التفاصيل أعلاه رقم الصفحة، ويضاف إليها رابط الصفحة المنقول منها.
توثيق الكتاب في قائمة المراجع:
الهواري، عدلي. بيروت 1982: اليوم ي. الاتصالات الفلسطينية-الأميركية أثناء الحصار الإسرائيلي لبيروت. لندن: عود الند، 2018.
عنوان الكتاب يكتب بخط مائل أو يوضع تحته خط.
- بيروت 1982: اليوم ي
- غلاف كتاب بيروت 1982: اليوم ي. المؤلف: د. عدلي الهواري