كتاب: بيروت 1982: اليوم ي
تحليل ونقاش: صبرا وشاتيلا: الضمانات والمسؤولية
د. عدلي الهواري
أود هنا أن أعرّض الفقرة أعلاه للتمحيص الواجب، مثلما فعلت في حالات أخرى، خاصة وأن بين يدي الوثائق المتعلقة بالاتفاق مع فيليب حبيب. بناء على ما ورد في الوثائق، لا يمكن القول إن القيادة أغفلت هذه المسألة. لكن الملاحظ أن الضمانات كانت فضفاضة، فالقيادة تقول إنها تريد ضمانات، فيرد الوسيط الأميركي نقدم لكم الضمانات، دون الإشارة إلى إجراءات عملية. أقصى ما قيل إن الفلسطينيين غير المقاتلين سوف يعاملون وفق القانون اللبناني، وإنه تم الاتصال ببعض الأطراف اللبنانية المعادية للفلسطينيين وإن هؤلاء قدموا أيضا ضمانات ولكنها غير محددة.
صبرا وشاتيلا: الضمانات والمسؤولية
عندما حصلت مذبحة صبرا وشاتيلا، كانت هناك أحاديث كثيرة عن إغفال القيادة الفلسطينية مسألة الحصول على ضمانات لأمن مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في المفاوضات مع فيليب حبيب. وفي أعقاب الانتفاضة/الانشقاق في حركة فتح عام 1983، صدر كتيب صغير عن «كوادر الحركة الانتفاضية في فتح» عنوانه «من أنت يا عرفات؟؟» وجاء في الكتيب عن مسألة الضمانات ما يلي:
«وإننا نعتبر عرفات شريكا متضامنا بالمسؤولية مع الصهاينة و[حزب] الكتائب عن ذبح أهالينا في صبرا وشاتيلا وذلك لأنه لم يهتم قبل إصداره الأوامر بالانسحاب من بيروت، بتأمين سلامة ومصير اللاجئين في هذه المخيمات».
أود هنا أن أعرّض الفقرة أعلاه للتمحيص الواجب، مثلما فعلت في حالات أخرى، خاصة وأن بين يدي الوثائق المتعلقة بالاتفاق مع فيليب حبيب. بناء على ما ورد في الوثائق، لا يمكن القول إن القيادة أغفلت هذه المسألة. لكن الملاحظ أن الضمانات كانت فضفاضة، فالقيادة تقول إنها تريد ضمانات، فيرد الوسيط الأميركي نقدم لكم الضمانات، دون الإشارة إلى إجراءات عملية. أقصى ما قيل إن الفلسطينيين غير المقاتلين سوف يعاملون وفق القانون اللبناني، وإنه تم الاتصال ببعض الأطراف اللبنانية المعادية للفلسطينيين وإن هؤلاء قدموا أيضا ضمانات ولكنها غير محددة.
بعبارة أخرى، لم تكن الضمانات بصيغة إجراءات واضحة مثل قيام القوات متعددة الجنسيات بحماية المخيمات بعد انسحاب المقاتلين من بيروت. ورغم الحديث المتكرر عن الضمانات، والتوصل إلى اتفاق تذكر فيه كلمة ضمانات، إلا أن ذرائع دخول الجيش الإسرائيلي بيروت والمخيمات سبقت إتمام الخروج، إذ كانت هناك مزاعم إسرائيلية عن بقاء مقاتلين فلسطينيين، وتم التأكيد في الوثائق على ضرورة أن يكون خروج المقاتلين كاملا.
وبعد انتهاء المغادرة، وغياب القوة القادرة على حماية المخيمات، تمت العودة إلى السيناريو المعد مسبقا والمؤجل التنفيذ إلى ما بعد انتهاء المغادرة، وهو إحياء ذريعة بقاء مقاتلين فلسطينيين. وهكذا تم دخول المخيمات في وقت لم تعد الضحية قادرة على الدفاع عن نفسها أو اللجوء لأحد لحمايتها. وحتى اغتيال بشير الجميّل لم يكن أكثر من ذريعة لتنصل كل المعنيّين من المسؤولية عن غياب ضمانات ملموسة لأمن أهالي المخيمات.
هل كان بوسع عرفات الحصول على ضمانات أفضل؟ هناك إجابتان ممكنتان، واحدة على أساس المعطيات الواقعية، وأخرى نظرية.
أما واقعيا فإن ورقة القوة الوحيدة التي كانت في أيدي القيادة الفلسطينية هي المقدرة على الصمود داخل بيروت، وله الفضل في تمكين القيادة من التفاوض على خطة خروج بشروط ساهمت في صياغتها، ولم يحدث إلقاء سلاح واستسلام أو خروج تحت حماية هيئة الصليب الأحمر الدولي. ولكن وكلما زادت فترة الحصار كلما زاد ضغط مؤيدي المقاومة اللبنانيين على القيادة من أجل التوصل إلى اتفاق للخروج من بيروت. لذلك، أقصى ما حصل عليه عرفات في المفاوضات مع فيليب حبيب هو خروج آمن للقيادة والمقاتلين وهم يحملون أسلحة خفيفة، وهو بالتأكيد أفضل من إلقاء السلاح والاستسلام أو الخروج تحت حماية الصليب الأحمر.
أما الإجابة النظرية عن السؤال فهي نعم، كان من الممكن الحصول على ضمانات أفضل لو تم التركيز على تفاصيل مسألة الضمانات مثلما تم التركيز على مجيء قوة متعددة الجنسيات، وخروج المقاتلين وهم يحملون أسلحة خفيفة. يقول عرفات في شهادته المعاد نشرها في هذا الكتاب إنه فاوض الأميركيين عشرة أيام على تفاصيل موكبه والتحية التي ستقدم له وقت خروجه. إن هذا القول يدعو إلى طرح تساؤل مشروع: ألم يكن أكثر أهمية أن يفاوض عرفات على تفاصيل ضمانات الحماية مثلما فاوض على تفاصيل الموكب والتحية؟ لو فعل، لربما حصل على ضمانات محددة أكثر. كل هذا يجب ألا يجعل المرء ينسى أن أفضل ضمانة كانت وجود المقاتلين في بيروت، وبخروجهم فقد الباقون في بيروت أهم ضمانة.
المسؤولية الأولى عن المذبحة يتحملها المنفذون ومن مكّنهم من التنفيذ، وهذا يعني إسرائيل وحلفاءها في لبنان. ولكن الكثير من المسؤولية أيضا يقع على عاتق الولايات المتحدة والحكومة اللبنانية نتيجة عدم الوفاء بتعهد وواجب حماية أهالي المخيمات.
صبرا وشاتيلا 2: موريس دريبر
الوسيط الأميركي، موريس دريبر، يحمّل الإسرائيليين الكثير من المسؤولية عن المجزرة، ويعترف بأن الضمانات التي قدمت للفلسطينيين لم يتم الوفاء بها. جاء ذلك في نفس المقابلة التي اقتطفت منها روايته عن المفاوضات مع م ت ف.
س: هل اعتقدنا [الأميركيون] أن الإسرائيليين كانوا متورطين في هذه المأساة؟
دريبر: طبعا. أحد أجزاء سجلات التحقيق الذي حدث لاحقا أظهر أني شخصيا كنت على اتصال مع الإسرائيليين للاحتجاج على المجازر. عندما علمت بالأحداث، أمليت رسالة لتوجيهها إلى وزير الدفاع شارون وأعطيت للوسطاء الإسرائيليين. حمّلته المسؤولية الكاملة عمّا كان يحدث، لأنه كان مسيطرا سيطرة كاملة على المنطقة، وكان يمكنه وقف المجازر لو أراد ذلك. كان الوضع صادما. فعلنا كل ما يمكننا لوقف المسيحيين. كان وضعا مثيرا لليأس وصعبا.
س: هل شعرت أن الإسرائيليين كانوا يحاولون خداعك، أم أن الجيش كان يتصرف بصرف النظر عن [المسؤولين] المدنيين؟
دريبر: الأسبوع كله أظهر أنه لا يمكن الثقة بالإسرائيليين في تلك المرحلة. بعد يومين سمحوا للميليشيا المسيحية بدخول المخيمات الفلسطينية. أنا لا أعلم علم اليقين أنه كان هناك قرار للحكومة الإسرائيلية متفق عليه للقيام بأعمال محددة. الأحداث ربما حدثت بالصدفة، ولكن من المؤكد أن الإسرائيليين تحركوا إلى ما بعد الخط المتفق عليه حول بيروت، منتهكين بذلك الكثير من التزاماتهم. هذه الحقيقة يعترف بها أشد مؤيدي إسرائيل في الإدارة [الأميركية] لأنه خلال أيام وافقت إدارة ريغان على عودة القوة متعددة الجنسيات إلى لبنان. ما كان لذلك أن يحدث لو لم نشعر بالذنب لأن جميع وعودنا وضماناتنا بشأن سلامة العائلات الفلسطينية انتهكت. أعيد المارينز في تلك المرحلة بسبب الشعور بالذنب.
صبرا وشاتيلا 3: الدور الإسرائيلي في صبرا وشاتيلا
أدناه مقتطف من كتاب «صبرا وشاتيلا: أيلول 1982» للباحثة اللبنانية بيان نويهض الحوت. الناشر: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت، 2003.
سادسا: الدور الإسرائيلي التمهيدي لدخول الميليشيات
من الواضح أن المجزرة ما كان يمكن أن تحدث لولا التمهيد الإسرائيلي لها. ويمكن حصر عناصر هذا التمهيد بما يلي:
= محاصرة مخيم شاتيلا ومنطقة صبرا وشاتيلا كلها بحيث يصبح الخروج والدخول مرهونا بالإرادة السياسية. وقد منع الإسرائيليون الناس فعلا من المغادرة. والسؤال: لماذا منع النساء والأطفال إن كان الهدف هو البحث عن «المخربين المسلحين» كما قالوا؟
= إشاعة جو من طمأنينة كاذبة بين سكان منطقة صبرا وشاتيلا من فلسطينيين ولبنانيين. وقد بدا أن بعض الجنود الإسرائيليين لم يكن حقيقة يعلم شيئا عن الحدث القادم المجهول، فكان قول هذا البعض للناس أن يعودوا إلى بيوتهم لا يحمل معنى إرسالهم إلى الموت، لكن هذا البعض يمثل الأقلية بين الجنود الإسرائيليين. والدليل أن أقوال الآخرين كانت تتضمن معرفة ما سيجري. ومن هنا، كان يهم الذين يعرفون ما سيجري تجميع السكان وحصرهم داخل المنطقة المحاصرة؛ أي منطقة صبرا وشاتيلا.
= الإيحاء بأن المطلوب هو تسليم السلاح فقط، فمن يسلّم سلاحه يسْلَم، وفي إمكانه العودة إلى بيته مطمئنا. هذا ما وزعوه بالمناشير وما أذاعوه بمكبرات الصوت.
= القصف المركز من أجل حمل السكان على الهروب إلى الملاجئ التي تعتبر الأمكنة المثالية لارتكاب مجزرة. فكيف يقوم بهذا القصف من يدعي أنه جاء للحماية؟ وهل بالقصف يقتل «المخربون» وحدهم؟
= التنسيق بين الفريقين الإسرائيلي والميليشيوي اللبناني قبل المجزرة. ويتضح هذا من خلال الأسئلة التي طرحها على السكان «أغراب» في سيارات «غريبة»، عن مواقع الملاجئ، كما يتضح من خلال القصف الإسرائيلي الذي لم ينقطع مجبرا السكان على التجمع في الملاجئ (وقد ثبت فيما بعد أن «نزلاء» الملاجئ هم الذين كانوا عرضة للقتل الجماعي، كما كانوا هم أول من تعرض للقتل).
= انسحاب الجيش الإسرائيلي من الأماكن القريبة جدا من منطقة صبرا وشاتيلا، وخصوصا من محيط مستشفى عكا. وقد اتضح أن ذلك الانسحاب لم يكن إلا انسحابا مبرمجا من أجل فسح المجال للميليشيات المهاجمة كي تدخل من تلك الجهة وتتحمل المسؤولية بمفردها. وهكذا تكتمل مسرحية الاقتحام من دون أن تتحمل القوات الإسرائيلية أية مسؤولية، وكأنها لا رأت ولا سمعت! وبالتالي فليس لها ضلع مباشر!
= توقف القصف المركز من قبل المدفعية الإسرائيلية وتوقف القنص قبل دخول القتلة، والبدء بإنارة المنطقة مع حلول الظلام، بحيث تحول الليل إلى نهار.
= السماح لبضع مئات من الميليشيات المسلحة بدخول المخيم والمنطقة بحثت عن ألفين وخمسمئة مقاتل مسلح. أي عقل يقبل ذلك؟ إسرائيل لم تتنصل من معرفتها بدخول القوات اللبنانية بحثا عن المقاتلين أو «المخربين» كما تدعوهم، وكما تدّعي. لو كانت إسرائيل تعتقد حقا بوجود ألفين وخمسمئة مقاتل لكان يلزم للقضاء عليهم أو اسرهم أو قتلهم عدد أكثر جدا من بضع مئات لا تتعدى ستمئة عنصر وفقا لأبعد التقديرات، في ذلك اليوم الأول (ص 118-119).
= = =
ما الخلل في اتصال م ت ف مع الولايات المتحدة؟
أول مأخذ على اتصالات م ت ف بالولايات المتحدة أنها كان تتم بالسر، ولا يوجد قرار سياسي يجيزها من اللجنة التنفيذية للمنظمة، أو المجلس الوطني الفلسطيني، أو حتى حركة فتح التي يتزعمها عرفات.
ثاني المآخذ أن الاتصالات السرية تعني ممارسة العمل السياسي دون الصدق مع الجماهير، التي كانت توهم في الخطابات بأن الولايات المتحدة عدو، وفي السر تجري محاولة إقامة صلة معها.
ثالث المآخذ أن الاتصالات السرية تنتج عادة صفقة سلبية للطرف الصغير/الضعيف. اتفاقية أوسلو كانت اتفاقية سرية. ولا يحتاج المرء للإطالة في الحديث عن عواقبها الوخيمة على الشعب الفلسطيني.
المأخذ الرابع أن هذه الاتصالات تشير إلى اقتناع القيادة بما قاله السادات عن أن 99 في المئة من أوراق الحل في يد الولايات المتحدة.
خامس المآخذ، وهو الأهم، أن السعي إلى إقامة اتصال مع الولايات المتحدة يدل على خلط في تحديد الأعداء. إسرائيل لا تستطيع أن تقوم بما تقوم به من أعمال قتل وتدمير دون الدعم المادي والمعنوي الذي تحصل عليه من الولايات المتحدة. وبالتالي، مع أن إسرائيل هي الأداة المباشرة في القتل والتدمير، إلا أنها تحصل على هذه الأسلحة من الولايات المتحدة. في القانون، الذي يساعد مجرما يكون شريكا في الجريمة حسب مقدار المساعدة.
عندما يتحدث المرء عن تحديد العدو والصديق، فهذا يعني ضمنا أن المقصود هو السياسات والممارسات العدوانية، ولا يعني أن الشعب الأميركي بكامله عدو. الحكومات لا تقبل هذا التمييز، وجزء كبير من الشعب الأميركي لن يقبله أيضا. ولكن هذا التمييز موقف صحيح، فبين فئات الشعب الأميركي المختلفة متعاطفون مع القضية الفلسطينية. ومن الممكن زيادة هذا التأييد باستخدام وسائل نضالية مناسبة. من الأساليب المستخدمة حاليا مبادرات المقاطعة الاقتصادية والأكاديمية لإسرائيل.
= = =
وجهة نظر في منطق القوة
تصرفت إسرائيل عام 1982 وكأنها دولة كبرى، فهي تغزو بلدا بنيّة إقامة نظام سياسي يكون على وئام معها، وفي الوقت نفسه وجهت ضربة لسورية، ومن خلال هذه الضربة وجهت صفعة للاتحاد السوفيتي وأسلحته مثل بطاريات صواريخ سام المضادة للطائرات، وطائرات الميغ التي تمكنت الطائرات الإسرائيلية من إسقاط العديد منها.
الغرور كان سمة تنفيذ عملية الغزو ومحاولة رسم خارطة سياسية جديدة في المنطقة، فالعملية تقوم على فكرة استخدام أقصى حد متوفر من القوة لتدمير الخصوم وحملهم على الاستسلام أو توجيه ضربة قاصمة لهم. ولكن منطق القوة يغري فقط من لا يحسنون التفكير في تبعات الأشياء، ولا يلتفتون إلى دروس كثيرة من التاريخ بشأن حدود منطق استخدام القوة.
يظن المؤمن بالقوة كسبيل لفرض واقع على غيره أنه نجح لأنه يرى نتائج ملموسة لأفعال القوة، ولكنها تكون قصيرة الأجل، وسرعان ما يجد صاحب منطق القوة نفسه وسط مشاكل أخرى من صنعه بعد أن ظن أنه حلّ مشكلة.
لقد كان واضحا لبعض المسؤولين الأمريكيين الذين ورد ذكرهم في الكتاب أنهم كانوا مدركين أن منطق القوة الإسرائيلي لن يؤدي إلى إنهاء القضية الفلسطينية. ولكنهم في الوقت نفسه، لا يتعاملون مع الأمور من منطلق الانحياز إلى الموقف المبدئي الصحيح، بل لم يمانعوا أن يغتنموا فرصة الغزو لتحقيق أهداف أخرى مثل إخراج القوات السورية من لبنان.
ولكن وهم التصرف كقوة عظمى لا يخفي حقيقة أن إسرائيل ليست كذلك. هي تحظى بتوفق عسكري لأنها لا تواجه مشكلة في الحصول على أحدث الأسلحة من الولايات المتحدة. وأسطورة الجيش الذي لا يقهر هي مجرد أسطورة، ولا بد أن الجيش الإسرائيلي ظن أنه قوة لا تقهر بسبب الحرب الخاطفة والنصر السهل الذي حققه في شهر حزيران عام 1967. ولكن سرعان ما تبين له أنه كأي جيش آخر يمكن أن تلحق به الهزيمة إذا كان الطرف الآخر في المعركة مستعدا لها ومصمما على القتال. وخير دليل على ذلك معركة الكرامة (آذار 1968) التي وقعت بعد أقل من سنة من حرب حزيران، حيث ترك الجيش الإسرائيلي بعض آلياته في الكرامة، وشاهد أهالي عمّان هذه الغنائم في ساحة أمانة العاصمة.
وجاءت حرب عام 1973 أيضا دليلا آخر على أن أسطورة الجيش الذي لا يقهر وهم آثاره السلبية يحصدها من يصدق هذا الوهم. صحيح أن القوات الإسرائيلية استعادت زمام المبادرة في هذه الحرب، ولكن هذا لا يلغي حقيقة أن الحرب كان يمكن أن تنجح في توجيه ضربة قاصمة للجيش الإسرائيلي. من عدم الحكمة اعتبار حرب 1973 مماثلة لحرب 1967 لناحية قدرة الجيش الإسرائيلي على الانتصار في أي معركة مع جيش عربي، فكما قلت نجحت الحرب في البداية وكان يمكن ألا تتمكن إسرائيل من استعادة زمام المبادرة العسكرية لو أحسن إدارة المعركة، ولم يقع خلاف بين القائد العسكري، سعد الدين الشاذلي، والرئيس المصري، أنور السادات، على كيفية المضي قدما بها.
لقد ظلت المقاومة الفلسطينية الطرف الضعيف الذي يجعل إسرائيل تشعر أنها لا تزال قوية، ومن خلال الضربات لها توجه رسالة للدول العربية الأخرى أنها لا تزال القوة الساحقة في المنطقة. وقد حاولت مجددا إظهار ذلك على أرض الواقع من خلال تنفيذ الغزو في عام 1982. ورغم الانهيار السريع للمقاومة في المناطق الجنوبية، إلا أن إسرائيل وجدت نفسها غير قادرة على اقتحام بيروت بسهولة احتلال مناطق أخرى من لبنان، وأن مقاومة زحف الجيش الإسرائيلي لا تعتمد على بطاريات صواريخ وما إلى ذلك من أسلحة الجيوش التقليدية.
ويمثل اقتحام بيروت بعد خروج المقاومة منها خير مثال على نذالة عسكرية، وخاصة عندما يشرف المسؤولون عن هذا الجيش على اقتحام مناطق سكان عزل. ورغم أن خروج قوات م ت ف من بيروت ثمن باهظ دفعته المنظمة، وتطلب بدوره أن تدفع بيروت وأهاليها ثمنا باهظا طيلة حوالي ثلاثة شهور، إلا أن هذه الحرب أعلنت بكل وضوح أن عصر الحروب الإسرائيلية الخاطفة قد انتهى، فإذا كان أقل من عشرين ألف مقاتل تمكنوا من الصمود حوالي ثلاثة شهور، فكيف سيكون الحال لو كانت المعركة بين أعداد متكافئة من المقاتلين، وتكافؤ في الأسلحة المتوفرة للطرفين؟
سرعان ما وجد الجيش الإسرائيلي نفسه معرضا لعمليات في مختلف المناطق التي احتلها في لبنان. وخطته السياسية لفرض معاهدة سلام على لبنان لم تعمر طويلا، فقد أسقط اتفاق 17 أيار 1983 بين إسرائيل ولبنان. وبعد أن تخلص من م ت ف، سرعان ما ظهر له خصم أشد بأسا، مما اضطره في عام 2000 إلى الانسحاب من الجنوب اللبناني. ومن الواضح أن إسرائيل لم تتخل عن منطق استخدام أقصى ما يتوفر لها من قوة في الهجوم على خصمها، فهي كررته في عام 2006، ولكنها وجدت نفسها تخوض حربا امتدت أكثر من شهر، وهذا دليل آخر على أن حروب إسرائيل الخاطفة انتهت. ووجدت إسرائيل نفسها أمام خصم يفرض عليها معادلة ردع: تل أبيب مقابل بيروت، والقدرة على توجيه الصواريخ إلى أي مكان في فلسطين.
منطق القوة استخدمته إسرائيل ثلاث مرات ضد غزة، وفي كل مرة تزيد جرعة التدمير دون أن تقصر فترة المعركة. ولو كانت المقاومة في غزة تحظى بالدعم والعمق المتوفر لحزب الله في لبنان لكنا بصدد معادلة مختلفة عند الاعتداء على غزة. أما بالنسبة إلى تكثيف الاستيطان في الضفة الغربية وجعل إقامة دولة فلسطينية أمرا مستحيلا، فهذا سيؤدي إلى نتيجة غير مقصودة، وهي أن الصراع سوف يستمر على أرض فلسطين دون أن يمكن استخدام الأسلحة التي تستخدمها إسرائيل في الحروب على غزة نتيجة التداخل السكاني. وفي حال بقاء قطاع غزة معزولا جغرافيا، فإن معادلة الاعتداء عليه مرشحة نظريا للتغير أيضا، بحيث يصبح المقاومون فيه مثل لبنان قادرين على فرض معادلة ردع من قبيل: غزة مقابل تل أبيب. كل الاحتمالات ممكنة، لأن الأمور لا تبقى على حالها.
توثيق المقتطفات من الكتاب في الهوامش (أسلوب شيكاغو):
النسخة الورقية:
1. عدلي الهواري، بيروت 1982: اليوم ي (لندن: عود الند، 2018)، ص - -.
توثيق النقل من الموقع:
يحذف من التفاصيل أعلاه رقم الصفحة، ويضاف إليها رابط الصفحة المنقول منها.
توثيق الكتاب في قائمة المراجع:
الهواري، عدلي. بيروت 1982: اليوم ي. الاتصالات الفلسطينية-الأميركية أثناء الحصار الإسرائيلي لبيروت. لندن: عود الند، 2018.
عنوان الكتاب يكتب بخط مائل أو يوضع تحته خط.
- بيروت 1982: اليوم ي
- غلاف كتاب بيروت 1982: اليوم ي. المؤلف: د. عدلي الهواري