عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

مختارات: نجران تحت الصفر


أدناه مقطع من رواية "نجران تحت الصفر" للروائي الفلسطيني، يحيى يخلف. الناشر: دار الآداب، بيروت (1988). المقتطف من الطبعة الرابعة، ص ص 13-17.

العسس يذرعون الشارع ويتبخترون أمام عربات الباعة. محلات عديدة مغلقة، وثمة عمال من البلدية يشعلون الفوانيس المعلقة عند المنعطفات. أولاد الحصري أغلقوا مطعهم، والمستر يشتري رز أبو بنادق من دكان الغامدي، والمطاوعة الذين خرجوا من صلاة العشاء يقضمون أطراف المساويك بأسنانهم، ورأفت العدني، بائع الفلافل، أطفأ البريموس وجلس أمام دكانه مطرقا بلا حراك.

وثمة رائحة لمحروقات فضلات معسكر الحرس الوطني تختلط برائحة دخان الشيشة في مقهى أبو رمش.

زفر أبو شنان. كان يشعر بثقل يجثم في صدره ويتسرب مع جرعات الشاهي الأسود إلى عروقه. اتكأ على المقعد الذي يشبه الأريكة وتناول مبسم الشيشة وأخذ يقرقر.

يا بو شنان لن يملأ رأسك سوى سطل. سطل من عرق البصرة. شهر كامل مر على ذبح اليامي وكل شيء يعود إلى طبيعته.

يتبادل الناس أماكنهم في مقهى أبو رمش، ويظل ابن عناق يحمل صواني الشاهي المنعنع والنراجيل إلى الزبائن.

وتأكل نسمات منتصف الليل العيون، وينام الرجال إلى جانب نسائهم والعسس لا ينامون.
ومن المذياع بدأ أبو بكر سالم بالفقيه يشدو بأغنية "يا دوب مرت علي. أربع وعشرين ساعة. ضاع الهوى يا خسارة، ضاع ..."

هز أبو شنان رأسه وأزاح المبسم عن فمه.

"مرحب أبو شنان".

دخل الزيدي يمضغ ولا يتوقف عن المضغ، ودون أن ينتظر الجواب جلس على الأريكة وصفق بيديه.

أقبل ابن عناق بوجهه الأصفر، فنهره الزيدي ثم قال وهو يفرك الريالات الذهبية في جيبه: "هات لنا إبريق شاهي يا ولد".

انحنى ابن عناق كما لو أنه سيقبل الأرض بين يديه ثم انصرف. رسم أبو شنان ابتسامة على شفتيه وقال:

"اسمع يا زيدي. هذا الولد انحنى للقروش التي تملأ جيوبك. غدا إذا انتهت الحرب لن تجد من يقدم لك كوب ماء".

بصق الزيدي ما في فمه ثم أخرج من جيبه مضغة جديدة دسها في فكه الأيمن وحك رأسه قليلا ثم قال وهو يتربع على الأريكة:

"إذا لم يربح الإمام فإننا نجمهر مع الجمهورية".

ضحك أبو شنان، ثم تذكر شيئا فعبس وقال:

"تجمهر؟ فلماذا إذن دفع اليامي حياته لأنه جمهر؟"

لم يجب الزيدي وجاء ابن عناق بصينية الشاي، وانتهى ابو بكر سالم من "يا دوب مرت علي". وقرقرت النرجيلة بكسل، وشعر أبو شنان بطعم الشيشة كالعلقم.

وعبر نافذة المقهى يتبختر العسس وأحدهم يحمل على كتفه آلة تسجيل ويتلثم بالغترة، والفوانيس شحيحة الضوء، والزيدي بدأ يغيب وأبو شنان يتكلم ولا من مجيب.

ويصب الزيدي الشاي في الاستكانة كما لو أنه منوم، ثم ينتابه صحو مفاجئ، وترتسم على ملامحه فرحة طفولية. يحدق بدخان سيجارة ما. ومن خلال الدخان تبدو اصفهان المرأة. جسدها سمين ومكتنز. تخلع ملابسها قطعة قطعة. رضابها كمحتوى زجاجة الفارسي، يشربها قطرة فقطرة، ويتركها تسيل من بين شفتيه وعلى رقبته وتغيب في شعر صدره الكثيف.

* * *

خرج أبو شنان وهو يشعل سيجارة (بو بس). كان العسس قد أصابهم السأم، والمحلات مغلقة، وليس ثمة سوى بعض القطط والكلاب تجوس بلا مبالاة، وأضواء الفوانيس تكاد تضمحل وتشي بنفاد النفط منها.

شاهدها فجأة. استيقظ أبو شنان إذ شاهدها. كانت سمية تقف وسط الساحة دون أن يتنبه إليها العسس. أقبل إليها بلهفة وإذ وصل تناول يدها وقبلها.

"ماذا تفعلين هنا يا أماه؟"

كانت عيناها تفيضان بالدمع.

"ماذا تفعلين هنا في هذه الساعة المتأخرة؟"

كان ذهنها منفيا.

"أماه".

توكأت على كتفه وظل ينظر إلى وجهها الأسمر بإشفاق.

"يا بو شنان، جئت أبحث عنه بعد أن رأيته في منامي".

قادها والحزن يعتصره، كان يعرف أنها تتحدث عن اليامي. مشت خطوات ثم توقفت:

"رأيته في منامي. كان يلبس ثوبا أبيض. وكان في هيئة شيخ جليل ذي لحية بيضاء مسترسلة".

قال بقلق: "ذا الحين يا أماه يرانا العسس وقد يحدث ما لا تحمد عقباه".

مشت إلى جانبه. صمتت. ظلت الكلاب الهزيلة تحوم حولهما بلا اكتراث، وكانت المباني العالية سوداء وبلا قلب. دخلا في زقاق فرعي. ألقى أبو شنان بعقب سيجارته.

"لقد وعدني عندما رأيته أن يقابلني كل ليلة في الساحة. في المكان نفسه الذي..."

خفت صوتها وبدأت تنتحب، ثم تكتم نحيبها.

ربت على كتفها، كانا يمران أمام بيت السميري الذي يشع بالأنوار. وكانت سيارة بو طالب تصطف عند الباب، بينما يقف إلى جانبها حارسان يحمل كل منهما (برتا) ذات سونكي.

التفت أبو شنان خلفه فانتهره أحد الحارسين. ظلت سمية تنتحب بصوت مكبوت، وعندما ظهر الخلاء هبت نسمات رطبة.

قالت سمية كأنها تحدث نفسها: "لو أنه يفي بوعده ويجيء. يا ويلي يا ويلي".

كانا يخوضان في الظلمة، ومن بعيد أطلت بيوت حارة العبيد، ومن خلفها ذوائب غابة النخيل.

وصلا الكوخ المصنوع من سعف النخيل فقالت له: "أدخل يا بو شنان. أدخل يا ولدي".

أطرق أبو شنان قليلا ثم قال: "سأعود يا أماه".

أشعلت السراج فظهرت الأخاديد في وجهها الأسمر:

"أدخل يا ولدي. تتعشى، وغدا أغسل ثيابك".

دخل واستلقى على الخرقة المحشوة بالتبن، ومن فجوة بالجدار كان يشاهد أناسا يتحلقون حول نار تشتعل بهدوء.

"أصنع لك شاهي يا بو شنان؟"

"ما أبغي".

وبعد لحظات من الصمت قال: "يا أماه أرى أناسا يتحلقون حول النار".

هزت رأسها وقالت: "إنهم يحتفلون بعرس ابن أمينة".

أغمض عينيه. يعرف أبو شنان أنهم يحتفلون بصمت حدادا على اليامي. أما في زمن الفرج فإن ضاربي الطبول يصبحون كالعفاريت، والولد عبد المعطي يغني "دان دان".

ويردد وراءه الجميع: "دان دان".

ويقف أحد العبيد يرقص رقصة للفرح، وثانية للنخيل، وثالثة للحرب، فيكتسي وجهه بلون ناري. وأما الرمح في يده فإنه يطعن به الفضاء بلا هوادة.


غلاف نجران تحت الصفر

D 25 كانون الثاني (يناير) 2014     A عود الند: التحرير     C 0 تعليقات