إيناس ثابت - اليمن
الصرخة
خطوط متموجة من الأزرق والأحمر تصب في لوحة واحدة، بل صرخة واحدة، صرخة دوت في الفضاء وفي روحه.
ساعتان أو أكثر قضيتهما في التأمل والتفكير في لوحة الصرخة، ورحلتي الداخلية في الحزن والعدالة الإلهية، وأسئلة طرحتها على نفسي في حزن الكون والنفس.
صنع إدفارد مونك (Edvard Munch) من آلامه وأحزانه المتقدة في حياته وحياة من حوله صرخة ألوان تباركت على سطح لوحة.
تبدو السماء في لوحة الصرخة كبوابة جحيم، وفي اليمين جسر طويل يقف عليه شخصان يعتمران قبعة فوق رأسيهما غير آبهين لحمرة السماء وحزن الطبيعة أو ربما لم يريا شيئا.
بطل اللوحة يقف في الأمام بجسده المتمايل ووجهه الأزرق الموميائي غير واضح الهوية رافعا يديه بمحاذاة أذنيه، يتسع فمه صراخا. جليّ على وجهه حزن مستوحد، وجع لا يراه سواه، كالذي يسكن أرواحنا الشفافة فلا يطّل على نوافذها حتى الغريب.
قلق، ألم من الماضي، خوف من الآتي، وشعور بالاغتراب. دمع قلب وسواد بهيم لبّاه الكون مستجيبا: أنا مرآتك أيها القلب العزيز.
تناولت كوب الكاكاو الساخن ببطء شديد مستلذة بكل رشفة، فيما اكتفتْ هي بالنظر إليّ سعيدة باستمتاعي البسيط هذا، اشغلتْ موسيقى كلاسيكية، فامتدت يدي تلقائيا تسحب ورقة ظهرها أبيض وعلى وجهها خطّت بعض الحروف الإنجليزية.
عكف قلبي يرسم وجها إنسانيا يضاهي الوجه الموميائي لإدفار على ظهر الورقة بقلم رصاص، فلا جرأة لي بالعبث بالألوان سريعا.
رسمت بعض الخطوط ومسحت بعضا منها، رسمت ظلا أسود في طرف الورقة، وبدأت برسم وجهه.
قالت لي: لا ترسمي له شعرا فحميا وعينا واسعة وأنفاسا شرقية فقد يدس السم في حليبه فيحيل صرخته نكبة.
قلت راضية: حسنا سأرسم وجها بلا ملامح.
رسمت حدود الوجه فقط وتركت داخله فارغا ليملأه كل إنسان كما يشاء. قطعتْ انسجامي قائلة: انظري للوحة الصرخة، كان عذابه من جحيمه الداخلي.
حدثتها وبصري يتنقل ما بين اللوحة ووجهها: يضج العالم بالبائسين وبأوجاع الطامعين للفرح، أوئدت الأصوات وطعنت الصيحات في ظهرها غدرا فيما فاز إدفار بحق الصراخ عاليا.
الجنة والجحيم ها هنا في القلب، الجحيم في الألم والحقد والكره، والجنة على الضفة الأخرى في الفرح والتسامح، وقد أضمها في حرفين، في الحب.
وقبل إنهاء كلامي نظرت لورقتي فوجدت الظلّ فرّ هاربا.
سخرتْ من فراره وعادت تحدثني: لسنا أول من تأمل اللوحة ورحلة الخوف الإنساني وحق التعبير عنه.
قلت: حتى كبار الفلاسفة لم يسبروا أغوار الإنسان بالشكل الأمثل ولم يفز بها أحد، حزنه، ورحلة نيله للمشاعر، بحثه عنها، هربه منها، وحق الاستحواذ عليها أيضا.
صمتنا قليلا لأكمل: هكذا رأت عينا إدفارد التعيستان العالم، وهكذا زينت له عالما من الشقاء، فكانت الطبيعة كما روتها له وتطبعت بها نفسه.
عدت للصمت مجددا وسرحت مع الموسيقى راحلة بعيدا عن لوحة إدفارد، تذكرت وجوه العديد من البشر والبلاد، رسمت للحزن بابا في الهواء، وحفرت عند عتبة الباب نبع ماء، ودعوت الناس لتغادر منه، وقبل الرحيل لتغتسل من النبع مودعة أدران الشقاء، ولتصب من الماء على خارطة الأرض، كل أرض يكفيها دلو ماء، إلا بلادا تدثرت بالخوف فنصيبها دلوين من ماء النبع.
أيقظتني من السرحان تحدثني: إذن سترسمين لوحة جديدة أم ستغيرين لوحة إدفارد؟
تبسمت وعدت أثامل اللوحة ثم قلت: ألم يمنحنا الإله قبسات من نور من ذاته المقدسة، فهو نور على نور، وفي حكمة النبي محمد والسيد المسيح، يقول لي قلبي: تشرق الشمس مرتين: مرة في السماء ومرة في الروح.
أعليّ تغيير اللوحة وإضاءة نور في أعلى السماء يطفئ وهج حمرتها القانية، أو أضف قنديلا في قلب الموميائي الصارخ، أم هذا حسد مني لإدفارد على تبديده وإعلان وحدته والبوح بغضبه ومآسيه في وجه العالم كله، فيما باتت في قضبان نفسي آلآم مكتومة محكوم عليها بالسجن المؤبد منذ تجاوزي مرحلة الطفولة.
صمتنا أمام اللوحة مجددا، حركت أناملي الصغيرة فوق خطوطها وكأنني أحاول رسمها من جديد، فقالت:
الريشة دوريّ فتّان كقريحة شاعر فائق الإحساس وعازف لحن شجيّ.
قلت: الشمس صفراء، والشفق أحمر، مروجنا خضراء، والبحر أزرق وفاكهة شققتها بالأمس نصفين برتقالية، لغة الألوان عميقة والرسم من وحي الجمال، لو أنّ الله منحني موهبة الرسم ولو أنني تعلمت الفن فصقلته لرسمت لكل مأساة علاجا وأرسلت بها شاهدا على قبر إدفارد.
عدت أدقق في اللوحة أحدثها: لن اكتب نثرا ولن ألوي لساني شعرا، سأصنع بالألوان لوحة وسأصرخ فيها أيضا. التفتّ نحوها فلم أجدها، كانت صديقة وهمية اخترعها عقلي ولم تكن هناك أي موسيقى إلا الدائرة في وجداني.
نويت رسم لوحة صرخة ثانية إلا أن ورقتي خرجت برسم فضاء واسع ولم أجد حلا إلا بإطلاق تنهيدة رقيقة اختتمتها بكلمة آه.
◄ إيناس ثابت
▼ موضوعاتي
2 مشاركة منتدى
الصرخة, هدى الكناني | 5 أيار (مايو) 2015 - 14:11 1
ايناس ثابت من اليمن
غاليتي
إنما هي صرخة حروفك التي تضج ألوانا
تلك التي ترسم بتموجاتها على صفحات اوراقك
الما يحتكر ويسجن احاسيسنا ويغلها بقيود الانين وفجاة يفتح لنا ابواب الحرية على مصراعيها لياخذنا من قلوبنا النازفة وجعا ويحط بنا على مهاد من الغيمات، هكذا انت يا من تتلاعبين باوتار القلوب كما يتلاعب الفنان باوتار آلته الموسيقية.
دام بوحك
بالتوفيق عزيزتي
هدى
1. الصرخة, 16 أيار (مايو) 2015, 15:37, ::::: ايناس ثابت اليمن
الصديقة الغالية هدى كل الشكر لك ولكلماتك الطيبة.
أسعدتني حقا.
الصرخة, زهرة يبرم / الجزائر | 7 أيار (مايو) 2015 - 14:47 2
"ولو أنني تعلمت الفن فسقلته لرسمت لكل مأساة علاجا وأرسلت بها شاهدا على قبر إدفارد".. أحسنت القول، فالرسم ليس لوحة وألوانا وبعض من واقع وخيال، بل هو عالم قائم وأسلوب من أساليب العلاج النفسي، إذ يطمئن الإنسان من خلال ما يرسم ضد مشاعر العجز أمام العالم الخارجي وأمام رغبات نفسه، ويصبو إلى تغيير انفعالاته ليصل إلى الصفاء الروحي والشعور بالرضا.. وفقت في إعادة رسم اللوحة بالكلمات وشرحها وتشريحها.. اختيار موفق لموضوع النص.. تقبلي مروري مع التحية..
1. الصرخة, 16 أيار (مايو) 2015, 15:42, ::::: ايناس ثابت اليمن
نعم عزيزتي المبدعة زهرة لكل فن وهبه الباريء لنا رسالة سامية وجد بداخلنا لأجلها.
شكرا لمرورك الرائع، لك كل الود.