عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

إيناس ثابت - اليمن

الأفعى والغراب

قصة للصغار والكبار


يُحكى أنَّ غراباً كانَ يعيشُ وحيداً قربَ البحِر بينَ الصخوِر، بعيداً من أشجارِ الغابةِ وقد خسِرَ نصفَ ريشه. صادفتهُ أفعىً ذاتَ يوم، تتحدثُ برأسٍ مرفوعٍ كأنها كاشفةُ الأسرارِ العالمةُ بكلِ الأخبارِ، قالت لهُ: ما بالكَ أيُّها الغرابُ تهجرُ الظلَّ والشجرَ الأخضرِ وتقفُ على الشاطِئ نصفُ عارٍ من الريش؟ قالَ الغرابُ: كفاني من الزمانِ حُبُ الحلى والمجوهراتِ والذهبِ الأصفر. وقد بِعتُ ريشي الناعمَ للأخطبوطِ مقابلَ قطعٍ صغيرةٍ من المجوهراتِ ليجعلَ من ريشي مروحةً لكلِّ رِجلٍ من أرجُلهِ الثمانية، يتباهى بها في الحفلاتِ أمام سيداتِ البحر.

قالت الأفعى: أيُّها الأحمقُ، أتخسرُ ريشكَ لقاءَ قطعٍ صغيرةٍ من المجوهراتِ؟ ما تقولُ لمن يسدي لكَ النُّصحَ بلا مقابل؟ دع عنكَ التخلي عمَّا بقي لكَ من الريشِ، واذهب إلى سيدِ البحارِ العظيم، كلُّ البحارِ مُلكُهُ وتحتَ إمرِتهِ ومفاتيحُ كنوزِها في قبضتهِ، نادِهِ بالصوتِ المكلومِ، فما من أحدٍ يطرُقُ بابهُ إلا عادَ عزيزاً مُمتلئ الجيوب، فكيفَ إن سألهُ طائرٌ ضعيفٌ مثلك، عديمُ القدرةِ قليلُ الريش؟ أخبرهُ أنَّ أحداً من رعيتهِ ساومكَ للاستفادةِ من ريشكَ دونَ ثمن، وما من شاهدٍ أنكَ استوفيتَ ثمنَ ريشكَ من الأُخْطُبوط. فكرَ الغرابُ قليلاً ثم قال: وماذا أجني من عملي هذا؟ قالت الأفعى: اطلب من سيدِ البحارِ مقابلَ خسارتكَ ريشكَ الأسودِ الجميلِ جواهرَ ثمينةً من عمقِ البحار.

عمِلَ الغرابُ بنصيحةِ الأفعى، فمنحهُ سيدُ البحارِ حلى ثمينةً من المجوهراتِ، ودُرراً براقةً بعددِ ريشهِ المفقود. قالت الأفعى: والآن أيُّها المسكين؟ لم يَعُد بإمكانكَ الإقامةُ عند الشاطِئ، فلن يُصدقكَ أحدٌ من مخلوقاتِ البحرِ من أينَ حصلتَ على المجوهرات. صاحَ الغرابُ: ويلي. كنتُ مقيمًا قُربَ الشاطئ أكسبُ الذهبَ مقابلَ ريشي الناعم. فكيفَ يُمكنني أن أستعيدَ ريشي بعدَ اليومِ؟ قالت الأفعى: يا صديقي، هناكَ ألفُ طريقةٍ للوصولِ إلى الذهبِ دونَ بيعكَ الريش، امضِ إلى الدجاجةِ الساذجةِ واجثُ على ركبتيكَ وابكِ الحاجةَ والعوزَ أمامها حتى تدعوك للإقامةِ في بيتها. انتبه فنجاحُكَ مرهونٌ بحُسنِ أدائك، وكسبُ ثقتها يسيرٌ للغايةِ، وسأخبرُكَ لاحقاً بما يكون.

أخذَ الغرابُ بنصيحةِ الأفعى، ولجأ إلى الدجاجةِ التي عاملتُهُ بكرمٍ وأحسنت ضيافته. لكنَّ حُبَّ الذهبِ أفقدهُ اتزانهُ وأعادهُ شاكياً للأفعى: لا أستطيعُ منعَ نفسي من حُبِّ الذهب، ولا طاقةَ عندي للبقاءِ في منزلِ الدجاجةِ الخالي من كُلِ ما هو برّاقٌ ولامع، وإن حصلتُ عليهِ من حيواناتِ الغابةِ الآخرين، اتُهمتُ بالسرقةِ وضاعَ اسمي بين الحيواناتِ، وقد وعدتني بالمساعدةِ في الحصولِ عليهِ أيتُها الأفعى. قالت بهدوءٍ: بل اذهب واسرق ما تشتهِي من بيوتِ الحيواناتِ ثم ادفنهُ سراً في حقلِ الدجاجة، وإذا ما تمَّ اكتشافُ المسروقات؟ ستُتهمُ الدجاجةُ وتنجو بنفسك.

اقتنعَ الغرابُ بلا وعيٍ أو بصيرةٍ من الأفعى، وهكذا مضى يسرقُ الذهبَ والحيواناتُ نيام، ثمَّ راحَ يدفنُها سراً في حقلِ صديقتهِ الدجاجة، حتى جاءَ يومٌ لاحظت فيهِ الحيواناتُ اختفاءَ كلِّ ما هو ثمينٍ وبراقٍ من بيوتها، وأدركت وجودَ سارقٍ بينها، وبدأت رحلةُ التحرّي عن السارقِ وتفتيشِ المنازلِ للكشفِ عن هويتهِ وطردهِ من الغابة.

دبّ الرعبُ في قلبِ الغرابِ، فقالت الأفعى بهدوءٍ وثقة: لا تقلق يا صديقي. اذهب إلى الحيواناتِ وقُل إنكَ شاهدتَ الدجاجةَ تدفنُ المجوهراتَ التي سرقتها في حقلِها ليلاً والجميعُ نيام، واترك باقي الأمرَ عليّ. طارَ الغرابُ إلى الحيواناتِ واتجهت الأفعى إلى الدجاجةِ فقالت: يا عزيزتي الدجاجةُ إنكِ مقبلةٌ على أمرٍ جلل: عثرت الحيواناتُ على مجوهراتها في حقلك، وقد أعماها الغضبُ، وتلوث شرفك ونزاهتك. وقد اجتمعت واتفقت بينها على طردكِ من الغابة. ما من أحدٍ سيُصدقكِ وما من برهانٍ يكشفُ براءتكِ، فلا تخاطري بنفسكِ بالبقاء، ونصيحتي أن تبادري فوراً للهرب. اهربي من هنا حتى اُثبتَ براءتكِ فتعودي كريمةً مرفوعةَ الرأس. ولّت الدجاجةُ هاربةً وأخذت الأفعى المجوهراتُ وخبأتها بعيداً، ثم أخبرت الحيواناتَ أنَّ الدجاجةَ لاذت بالفرارِ تحملُ في جعبتها كلَّ ما سرقت.

قالَ الغرابُ: وما الحيلةُ الآن أيتُها الأفعى؟ إن سرقتُ مُجدداً اُكتشفت حيلتي. قالت الأفعى: حلِّق عالياً أيُها الغرابُ وانظر ببصركَ الحادِ بعيداً صوبَ الشمال، حيثُ يرتفعُ ذلكَ الجبلُ اللامعُ. إنّهُ يا صديقي جبلُ الذهبِ، اذهب واغرف منهُ قدرَ ما تشاء، واترك مجوهراتكَ في عُهدتي سأرعاها في الحفظِ والصون. نظَرَ الغرابُ حيثما أشارت الأفعى، ورأى في البعيدِ جبلاً يلمعُ مُكللاً بالذهب. سُرَّ العاشقُ المخمورِ بهوى كلِّ ما يبرقُ ويلمعُ وطارَ بعيداً.

رسمة غراب

كادَ يهلكُ في طريقٍ شاقٍ وطويل من قلةِ الماءِ، وخافَ أن يكونَ وليمةً للطيورِ الجارحة. وبعدَ رحلةٍ من المشقةِ والعناء، وصلَ الغرابُ إلى غايتِهِ لكنّهُ وجدَ الجبلَ خالياً من أيِّ ذهب. يا لحسرةِ الغرابِ. لم يجد سِوى جبلٍ من الرمالِ اللامعةِ تحتَ أشعةِ الشمس. فخابَ أملُهُ وتملكتهُ الندامةُ على سذاجةِ ما فعلَ حينما انصاعَ لكلامِ الأفعى.

أدركَ حيلةَ الأفعى وعادَ إلى الغابةِ مُنهكَ الجسدِ خائرَ القُوى مُحطمَ الفؤاد. استلَّ سِكينًا وحلّقَ غاضباً يُفتشُ عن الأفعى، فلم يعثُر على المجوهراتِ في منزلها. فتّشَ عنها أياماً طويلةً حتى اهتدى إلى عنوانِ سكنِها الجديد.

قالَ لها والشرُّ واضحٌ في عينيهِ: عُدتُ أزوركِ أيتُها الصديقة. قالت الأفعى: وهل يحملُ الصديقُ سِكينًا أيُها الغرابُ العزيز؟ الصداقةُ مع سوءِ النيةِ لا تستقيم، ولتعلمَ أنَّ غيابي عن منزلي القديمِ كانَ للبحثِ عن مكانٍ آمنٍ للكنزِ الذي تعبتُ في جمعِهِ والحصولِ عليه، والآن اهبط إلى الأرضِ وخُذ مجوهراتك. وفي لمحِ البصرِ هبطَ الغرابُ مُنكباً على كنزِهِ يحملهُ بمنقارهِ وعلى جناحيهِ والذهبُ يتدلّى من عنقهِ حتى اكتسَى ريشُهُ الأسودُ بحلةٍ من ذهب.

وبينما هو منهمكٌ في عملهِ، راحت الأفعى تفُحُّ حتى باتت بجانبِ الغراب، وأنفاسُها المسمومةُ تترددُ على جسمه، ثم التفت حولهُ ببراعةٍ وخفة، وعصرتهُ حتى كادت ُتزهقَ روحه. قالَ الغرابُ مُرتجفاً: لا أُضمرُ لكِ في نفسي أيُّ سوءٍ لإيذائكِ يا أعزَّ الأصدقاء. قالت الأفعى: وكيفَ أُصدقُ من خانَ صديقتهُ من قبل؟ قالَ الغرابُ مُهدداً: أطلقي سراحي أو بُحتُ بسرِنا أمامَ كُلِّ الحيوانات. قالت الأفعى: لن أخونَ أصدقائي بعدَ اليوم، وسيبقى سرُّكَ في الحفظِ والصون؟ سأحتفظُ بكَ في معدتي للأبد. ثمَّ أطبقت فكيِّها على الغرابِ وابتلعتهُ مع ما بقيَ عليهِ من الريش.

D 1 آذار (مارس) 2024     A إيناس ثابت     C 0 تعليقات