عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

غانية أحمد الوناس - الجزائر

قيد الكتابة


غانية الوناسهيه أضحك الآن كثيرا، بحجة أنّي لا أستطيع البكاء.

انتزعت أنبوب المصل الأخرق الذي أوصلوه بعروقي، من قال إنّي أحتاج إلى مصل؟ الحمقى يصدقون أنّي مريضة، ويصدقّون أنه بإمكان مصلهم هذا وأدويتهم التي يحشونها في داخله أن تجعلني أشعر أنّي بخير.

أنا لست مريضة بالمرة، أعاني من بعض الاختناق أحيانا، أفقد صوتي أحيانا أخرى لأني لا أتحدث إلى أحد، تنزل دموعي بشكل فجائي، أرتجف أحيانا أيضا، أشعر بالبرد في أعماقي، في داخلي تمتد صحارٍ من صقيع، ينبت الصقيع سريعا على أطراف أصابعي، أفقد قدرتي على الإمساك بشيء حقيقي، أكتفي بتخيل الأشياء أمامي، لا أستطيع الابتسام كغبية إذا كان مزاجي سيئا، أضحك أحيانا بلا سبب، أنظر إلى المرآة مطولا، ولا أرى نفسي تماما، أتلعثم حين أبدأ بالكلام، لكني لست مريضة، أنا حقا لست مريضة، أنا فقط وحيدة.

لا يستمع إلي ذلك الطبيب، في أول مرة أحضروني إلى هنا، طلب إليهم تثبيتي على كرسي، كنت أصرخ بوجهه، لا أريد أن أرى أحدا، هذه المآزر البيضاء تصيبني بالتوتر، لا أحب الأبيض، أنا زرقاء المزاج، لا أطيق الألوان الفاتحة، أحب القتامة في كل شيء، حتى دمي حين سحبوه منّي وجدوه قاتما يميل إلى السواد، لم أرد المجي إلى هنا، أخبرته بذلك مرات عدة، أخبرت تلك الممرضة التي بدت لي طيبة بعض الشيء، رجوتها أن تقنعهم بأني بخير، وأني أصرخ فقط لأنهم يرفضون الاستماع إلي، يرفضون تصديقي.

تمسكت بثوبها، لثمت يديها، قبلت قدميها، سألتها حبا بكل من يعزون عليها أن تتركني أذهب، سكتت مطولا، قبل أن تدس قرصا في فمي، ابتلعته على مضض وبعدها لم أعد أراها أمامي.

مضى أسبوع، وشهر، وشهران، بعدها لم أعد أتذكر تاريخ مجيئي هنا، بعدها لم يعد يعنيني التأريخ اليومي، ولا السنة التي أصبحنا فيها، لم يعد الزمن يدخل ضمن حساباتي، لم أعد أحسب شيئا، ضاعت مني لغة الحساب ورزنامة الأيام، استذكرت بعدها مفهوما جديدا، أشبه بالغوص في كل شيء يكون أمامي.

أصبحت فجأة أغيب عن العالم، أنظر إلى شيء ما، ثم لا يعود موجودا أمامي، كأنه باب يفتح، أدخل من خلاله ولا أعود حاضرة في المكان والزمان.

شيءٌ ما يلتقطني، يجذبني، يسحبني من يدي، أتذكر أليس حين كانت تدخل عالمها السحري، كنت مثلها بعالم سحري أصبح كل شيء فيه يعنيني دون العالم الذي كنت أعيش فيه.

في جلسات علاجي كما كان يصفها طبيبي، كان يسألني عما كنت أراه أمامي، ولما كنت أحدق دون أن ترف عيني لحظة، كان في أحيان عديدة يضطر إلى الربت على كتفي، فأنتبه أن هناك شخصا ما معي في الغرفة، بعدها صار يصحبني إلى الحديقة، يقول إن الهواء يساعد على التفكير بشكل أكثر وضوحا، كان يتحدث كثيرا، كنت أسمع أول ما يقوله، وآخر ما يقوله، الباقي لا استطيع تذكره.

قيل لي حين قاربت على الخروج من ذلك المكان المتهاوي في الظلام، إن من يأتون هنا عادة لا يخرجون، وإن خرجوا فقد يعودون يوما، يومها قررت ألا أعود أبدا، تدربت على الكثير مما يجب أن أقوله وأفعله، تدربت على ما يجب أن يراه طبيبي، ليسجله كملاحظات لحسن السيرة، حفظت كلاما يجب أن أردده كثيرا أمام الممرضات، لينقلنه إلى الطبيب المعالج.

أوقفت الصراخ، أيقنت عبثية أن أحاول إفهامهم عن طريق الصراخ، احتفظت به داخلي، كنت أصرخ في أعماقي، وأدون صرخاتي على الورق، تعلمت كيف أكتب نفسي، وجعي، خيباتي، فرحي الضئيل جدا، دموعي، كل ذلك كنت أبقيه قيد أوراقي.

كنت أكتب وأكتب، كأن الحروف ستنفذ، كأن الجمل والكلمات ستختفي من الأرض، كأن الزمن فجأة أصبح يحاصرني، وأنا لم أعد أملك منه إلا ما يمهلني كتابة جملة أو اثنتين، كنتُ أكتب لئلا أموت بتلك الأدوية التي يحقنونني بها، لئلا تقتلني البشاعة التي لو استسلمت لها لالتهمتني في ذلك الركن البارد من العالم.

وجدت نفسي هناك، بين حرفين، بين جملتين، في بيت شعر، في قصيدة نثر، في ديوان أو كتاب، وجدت نفسي أتنفس من جديد شيئا مختلفا عن الهواء الذي تتسرب رائحة الأدوية النفاثة منه، كنتُ أولد من جديد من فم القلم، من فوهة محبرة، وكأني قبل ذلك الحين لم أوجد أبدا.

طبيبي صار يسألني لماذا لم أعد أصرخ، هو يريد أن يشعر بأنه طبيب عظيم، وبأن جلساته جعلتني أشفى، يجمع طلابه المتدربين، يخبرهم بأني حالة استثنائية، من جنون الارتياب الحتمي، إلى الشفاء، من الجامود إلى التوازن والثبات، ومن الانفصام إلى الاتحاد.

يتحدث معهم طويلا عن إنجازه، يبتسم لأسئلتهم الغبية، يجيب بثقة، يردد كلاما سمعته منه آلاف المرات، ولا أذكر يوما أني عملت به، يشكرهم على اهتمامهم بالدرس الحي، يحييهم، يربت على كتفي، يقول إني: شاطرة.

أشعر برغبة في الضحك، أكتفي بابتسامة التلميذة الشاطرة التي حصلت على علامة جيدة في الامتحان.

أمثل على طبيبي دور المريضة المتعافية، أعود إلى غرفتي، أقلب أوراقي التي كنت أكتبها كل ليلة، أصادف أشخاصا لا أعرفهم على الورق، أفتش فيها كأني أبحث عن دليل كتابتي، عن بصمات أصابعي، عن شيء يثبت مشاعري أثناء تدوينها.

يصعقني أني لا أتعرف إلى شيء، لا رائحة تشبه عطري، ولا حبر بلون القلم الأحمر الذي أكتب به عادة، لا شيء فيه أعرفه، أصاب برعشة باردة، تنتابني الحمى، أشعر بأعماقي تتجمد فجأة، أتعرق، تمتد الحمى الباردة إلى أطرافي، أتهاوي ببطء على السرير.

أحاول أن أمسك بطرف خيط، أتماهي في الظلام، أمشي حافية داخلي، يلتهمني الظلام على عجل، أسير إلى شيء لا أعرفه، أبقي عيني مفتوحتين قدر ما أستطيع، لا أرى شيئا، أنا لا أرى، لا أعود أسمع إلا خفقانا سريعا لقلبي المنهك، تتصلب أوردتي.

أحاول الصراخ، نسيت أني استبدلت الصراخ بالصمت، ألوذ بالصمت، أهوي إلى العمق، أتلاشى، وبعدها لا أذكر شيئا، سوى أني آخر مرة كنتُ اكتب عن سيدرا التي ماتت وحيدة في غرفة مقفلة وباردة.

D 26 كانون الثاني (يناير) 2016     A غانية الوناس     C 5 تعليقات

3 مشاركة منتدى

  • توظيفُكِ ضميرَ المتكلم شاهدٌ على مدى تماهيك مع الشخصية والفكرة والحدث "أنا حقا لست مريضة، أنا فقط وحيدة"، وخطابُك السردي مؤَثَّثٌ بقاموسٍ منفعلٍ ومتفاعلٍ معهما، ويجد القارئ نفسه مشدودا إلى معاناة الوحدة والرغبة في عزلة اختيارية يفرضها واقع يَدْفَعُ "المُختلِفَ" إلى زوايا الغيبوبة والإقصاء، وينأى به عن حدود الزمان والمكان (ولا أعود حاضرة في المكان والزمان)، وتبقى الكتابة وحدها قاربَ نجاةٍ "كنتُ أكتب لئلا أموت بتلك الأدوية التي يحقنونني بها"... باختصار، النص رحلة في أعماق النفس اقتحمها قلمٌ أتقن التجديف في بحر التأرجح بين عالمَي الداخل والخارج. لك كل التقدير والاحترام...


    • أستاذ محمد..

      ربما لأن الكتابة عالم يجعل ممن يدخلونه، يلتمسون الكثير مما قد لا يدركه غيرهم، خصوصا حين يندمج الكاتب مع ما يكتبه، ويعيش ما يكتبه، إلى الحد الذي يجعلنا قد لا نفرق بينهما، هي من ميزات الكتابة، أنها تجعلنا نعيش شيئا مختلفا، ونختبر مشاعراً وأحساسيسا مختلفة، لذلك تبقى دائما تجربة تستحق.

      أشكرك جدا على مرورك، وأسعدني حقا أن تجد في النص ما يجذبك. تحياتي لك.

  • كعادتك غانية...رائعة في كل ماتكتبين الى حد يثير الحسد. أعجبتني فكرة تطويع الادوار بين الطبيب وبين المريض، اذ يقع الطبيب في فخ أعتداده بنفسه الى حد الدكتاتورية ويخادعه المريض بتمثل الشفاء وتمثيله ذلك للهروب من تلك الدكتاتورية...شطحت أفكاري بعيدا ً من طبيب ومريض الى قائد ومقود، ومفتي للشرائع وتابع لها... في شعوب لايزداد فيها الطبيب الا جهلا ولايزداد فيها المريض الا كبتا. تحياتي لك ودمت بخير.


    • استاذ محسن..

      أعتقد أنه في كثير من الأحيان، يحدث ما قد لا نعتبره قادرا على الحدوث، في حالات كثيرة يكون للمريض قدرات قد لا ينتبه إليها الطبيب، بخاصة حين يكون الطبيب كما وصفته معتدا بنفسه.

      فكرة الوحدة قد تصبح مرضا أو هوسا، وقد تجعل من صاحبها ينقاد إلى عالم هو نفسه لا يدركه، وقد يصادف أن تكون الكتابة طوق نجاة لمن يشكو منها، أعتقد أن المرء حين يختبر مشاعرا مختلفة قد يعيش اختلافات كثيرة، وقد يعيش تجربة كهذه، في احيان كثيرة نجد أنفسنا ضمن شيء لا ندري كيف نتعامل معه. هي كلها تتعلق بالنفس داخليا، والتي تبقى عالما يستحق البحث دائما.

      شكرا جزيلا لك، وسعيدة برأيك. كل التحية والتقدير.

  • أ
    /
    أ/قصة مبدعة تتوغل في أعماق النفس الإنسانية ,وكأنك تتمثلين عالم النفس يونغ وهو يقول النفس الإنسانية مثل جبل الجليد الذي لايظهر منه على سطح الوعي إلا القليل .تجربة الكتابة هي رحلة لا نهاية لها إلى مجاهل النفس التي لا يمكن ان تتقن قياسها أدوات القياس مهما بلغت من الدقة إلا قلم الكاتب الموهوب لك تقديري.


في العدد نفسه

كلمة العدد 116: الاحتكام للضمير لتبرير الحرب

أحوال العمل وفرصه في عصر التكنولوجيا

اسكوا: ماذا تبقى من الربيع العربي؟

صناعة الأمل

امرأة في حيرة