محمد أفضل عبد السلام الوافي - الهند
عاشقة الصمت
كانت الشمس تشرق في ذلك اليوم حينما ارتفعت الطائرة من مطار نيو دلهي. شمس ضئيلة تختفي بين ضباب الشتاء. تجمّدت وجنتاي من شدة البرودة. أسرعت الخطى نحو المدينة، ومشيت بين المركبات الواقفة والمصابيح المضيئة في جانبي الشارع، ودنوت من سيارتي ونبضات قلبي ترتفع. سمعت الطائرة تهبط من وراء مقصوصات الغيوم بصوت يشبه صوت الزفير.
هل أبكي؟ لا. لا، بل أتحمّل. ليس هذا الفراق أمرا جديدا في حياتنا. كم تكرّر الوداع بيننا منذ أن بدأنا الحياة معا!
سوف يرجع مرة أخرى إلى نفس المدينة في العام المقبل. سوف أتحدث معه طيلة الليالي واضعا رأسي على حجره بكل طلاقة، أو نُحيي الصمت الذي يملأ الحجرة مستمرين في السكوت، وفي النهاية نمشي إلى المائدة خارجين من خيوط الحديث حين نسمع النداء من خادمنا الذي يعمل في المطبخ، ونتناول الشوربة جالسين حول المائدة، ونلعب معا.
سأبحث عنه في كل زوايا الحجرة، وحينما أتعب من البحث يظهر من زاوية مّا بعد الاختفاء كما يظهر الغواصون بعد طول المكوث في عمق البحر. ستجري كل هذه الأمور على مهلها ونظامها بدون أي تغييرات. لن يكون لها نهاية.
لكن قال في هذه المرة: "يا حبيبتي، تجاوزت مرحلة الكهولة من عمري".
سمعت من كلامه صدى هتاف ينذر بعدم رجوعه، فانتابني خوف لا عهد لي به من قبل.
الموت لصّ يسرق أرواحنا على حين غفلة منّا، أو ضيف لا ينزل منزلا من منازل الدنيا إلا يُبْكِي أهله عند الوداع. لا أحب أن أزور المقابر خوفا من الذكريات المؤلمة اللاتي تتدافع إلى قلبي.
كانت بقرب داري غابة، هي مكان لحرق أجساد الهندوسين. كنت أسمع وقت رجوعي إلى البيت احتراق عظامهم حين تأكلها النار. وكثيرا ما شاهدت الدخان يتصاعد إلى السماء مثل الثعابين السوداء. أذكر عند ذلك شخصا واحدا دون غيره من الأشخاص، فيتبادر إلى ذهني وجه تقلّص جلده مع مرور الأيام والسنين، وشفتان كأنهما زهور ذابلة تتمايل في مهبّ الرياح.
"هل ستفارقني يوما إلى الأبد؟" سألته بعينين مليئتين بالدموع، وتوسّلت إليه ألا يفارقني، وأن يتّخذ العهد عليه حالا، لأنّي امرأة بائسة لا أفكر إلا في المحبّة. نظر إليّ بثغر كأن الحب يرتسم فيه بأجمل ما يمكن. ثم سلاّني بكلمات رقيقة وعذبة وهو يُطَبْطِبُ على خدي.
وكان يتسامر معي طويلا إذا جنّ الليل وأسدل سدوله على الكائنات. وقد قال لي مرة أثناء تلك المسامرة إنما محبته لي في موضع لا تدركه الأبصار، فترسل أشعتها من وراء جلده ولحمه وعظمه، لا تنزل به نازلة الموت، بل يخلّدها الدهر في طياته، فقلت في نفسي "لا حاجة إلى القلق".
ولو أحببت أن يهبني الله منه أولادا لكان ذلك من أمانيّ، لأنه كان ممنوعا من مداعبة النساء من قبل أطبّائه، إذ كان يعاني من أمراض القلب منذ سنوات. رغم ذلك أحببت أن أقضي الأيام كلها ناظرة إلى وجهه.
لاحظت أثناء مشيه إلى صالة المطار انحناء ظهره إلى الأمام. وكان لرجليه ترنّح مّا خلال محاولته للتخطّي. فسألت لنفسي مغمضة عينيّ: "ألا يرجع إليّ مرة أخرى؟"
تذكّرت مغادرتي من دلهي إلى قريتي قبل خمس سنوات في أيام الإجازة، ولمّا وصلت إلى بيتي قالت لي جدتي برغبة عارمة "سنقضي الليالي الآتية بالمحادثة وقت لجوئنا إلى الفراش، ثم ننام". ما أجمل القصص التي سمعتها من جدّتي في تلك الأيام!
"طبعا يا جدتي"، أجبتها وأنا معجبة بكلامها. ولكن شغلتني عنها دراساتي وواجبات منزلي.
ولما ركبتُ السيّارة وقت رجوعي إلى نيو دلهي بعد انتهاء الإجازة، رأيت جدتي تجلس في زاوية من البيت ناظرة إلى السيارة بقلب فارغ. ولمّا رمقتها سألتني بصوت خافت: "هل ترجعين إليّ مرة أخرى في الصيف المقبل يا صغيرتي؟
يا للفجع! كأن كلمتها سكّينٌ مشحوذ يقطّع قلبي إلى نصفين، فانتحبتُ صامتة من أجلها.
"نعم يا جدتي الحنونة"، أجبتها بقلب مذبوح، وعانقتها وقبّلت يديها وجبينها، ورَبتُّ على ظهرها ووجنتيها، ولاحظت أن يدها ترتجف أثناء ذلك من شدّة الحزن، ولم تتمالك حبس بكائها ولا كفكفة دموعها.
مسحت الدموعَ من عينيها بأناملي وأطراف ثوبي. ثم نقلتني السيارة إلى المطار عبر شوارع ضيّقة متعرّجة في ضواحي الريف الملتف بلحاف أخضر.
للأسف ما رأيتها بعد ذلك، بل غابت في الشهر التالي إلى عالم بعيد، عالم ترعى فيه الأرواح. وما أبقت لنا شيئا إلا كرسيها الذي كانت تستند إليه أوقات مداعبة أحفادها، وذكريات حلوة تُطْرِبُ القلوب ولو بعد سنوات عديدة.
ما أصعب مصيبة الموت! لا أكاد أطيق سماع لفظه، بل أكره الموت أشد الكراهية.
هذه الأيام قد تناثرت ورائي كما تتناثر الأوراق من شجرة يابسة. وها هو ذا أمامي يوم آخر؛. يوم لوداع زوجي.
تساءلت قلقة: "هل يفرّق الدهر بيننا كما فرّق بيني وبين جدّتي البائسة؟"
"الله أعلم".
بقيت ساعتان لإقلاع الطائرة، ثم تغيب بأثقالها في كتلات السحب البيضاء. نظرت إليه لمحة أخيرة. ولم أعد أطيق أن يفارقني. ورفعت صوتي نحوه بقلب مجروح: "الوداع. الوداع يا قطعة من روحي".
توقف لحظة كأنه يتذكر شيئا، وما التفت إليّ بل واصل مشيه إلى الصالة.
وقفت مسمرة في مكاني أرسل إليه نظرات كنظرات الميّت. لِمَ لمْ ينظر إليّ في ذلك الوقت؟ لعله أراد أن لا يحزنني.
بعد دخوله إلى صالة الانتظار مشيت متثاقلة إلى سيارتي، وفي وجهي بقايا أتراح الوداع. قدتُ السيارة إلى دار نسيم الذي كان أحد أصدقائي، لعله يخفّف الشجن من قلبي ويواسيني. وقضيت معه ساعتين، لأنه سكب علي روحي شيئا من الراحة. ثم رجعت إلى المسكن خارج المدينة.
وفي أثناء القيادة لمحت صورة أمام عيني كوميض البرق، فدفعت الكابح برجلي ونظرت من نافذة السيارة إلى الخلف، فإذا حطام عربة مصطدمة بشاحنة النفط، وقد تبعثرت حولها أشلاء الجسد بشكل لا يتّضح وجهه تماما، وهو مخضّب بالدماء التي تنزف من جبينه، أمامها حشد من المارين تمنعهم الشرطة من الاقتراب.
ونزلت من السيارة. وحدّقت النظر في ذلك الرجل المصاب من داخل العربة. يا له من كرب!، من هذا المسكين الذي مزّقه القضاء كالورقات المتروكة؟ لعلّ الموت نزل به حينما رجع إلى زوجته البائسة بعد سفر طويل.
وَقَفْتُ في مكاني لأن المشهد استوقفني حقا: "يا أيها الموت ما أشدّ رهبةَ وجهك، وما أبشع صورة جسمك"! ثم أسرعت إلى مسكني وغلبني خوف لا أدري مصدره.
انتظرت كثيرا اتصاله الهاتفي قبيل إقلاع الطائرة انتظار الصائم أمام مائدة الإفطار. زادت نبضات قلبي وتزايد قلقي وتوتّري. لكن الهاتف صامت صمت الراكع بين يدي الرحمن. سمعت رنّته مرّة أو مرّتين، فانفلقت في نفسي بذور الأمل. لكن سرعان ما عاد إلى الصمت ملقيا إلى دخائلي جمرات الأسى.
يتكسّر قلبي حينما أذكر كلماته الأخيرة ويتراكم الخوف في نفسي حينما أذكر وجهه. يا إلهي، هل وصلت الطائرة إلى الكويت؟ وهل استقبله المسؤولون من المطار؟ أما كانت المواصفات التي وصفها أمامي عن حسن معاشرة شعب الكويت وعن فخامة الأبنية الشامخات في جانبي الشوارع حلمًا من أحلامه؟ وهل كان إخباره لي أنّ دخْلَ كُلِ فردٍ من شعب الكويت في عام واحد يبلغ خمسة وثمانين ضعف دخل الفرد في الهند؟ وهل كان قوله إن الكويت حضن دافئ لكل من ينسج الأحلام إلى القمم ادّعاء محضا؟ لا أبدا، كلها حقائق أسمعها من مصادر شتّى. ستحميه البلد كما تحمي الدجاجة أفراخها من المكاره.
علمت أن النهار يستعدّ للرحيل، وأن الليل يلتمس من خواصر التلال والهضبات مكانه. سمعت أصوات الحشرات تنبعث من كل حدب وصوب. وأحسست الليلة بكل ميزاتها، فتبادرت إليّ ذكريات قصص قرأتها من كتب الأدباء. وقضيت تلك الليلة كلها ساهرة العين وفارغة الصبر، ما داهمني نعاس، انتظر تبلّج الصبح بقلب منصهر.
في الصباح أسرعت إلى شرفة المبنى لآخذ الجريدة الملقاة على الأرض، وبعد تناولها ألقيت نظرة سريعة على عباراتها. فجأة شخص بصري أمام خبر فجلست بسببه منهوكة القوى. أحسست الارتجاف يدبّ من رجلي. لم تقلع الطائرة التي انتظرها زوجي أمس لسبب مّا. حوّلتْ الشركة الرحلة إلى اليوم التالي.
انتفَضْتُ من مكاني على الرغم من إعيائي. ولا أدري لمن أتوجه وأين ابحث عنه. تمسّكت برباطة الجأش ولم أتزعزعْ. وقدتُ السيّارة إلى المطار بشكل عشوائي. لم أجد هناك شيئا من أخباره. وذهبت إلى محطة الشرطة من غير أن أضيّع أي لحظة، وشرحت لهم الموقف، فبدأوا التحقيقات.
رجعت إلى بيتي مجروحة البال. ارتميت على السرير وتمدّدت فيه منشورة الأطراف. شعرت كأن روحي تسقط مني، لكن بصيص الأمل ما زال يلوح حولي.
ها أنا ذا أنتظر رجوعه بعد تسع سنوات حين يفرغ من اختفائه كما يرجع الغوّاصون من أعماق المحيط باللآلئ. أحسبه مختفيا عن عينيّ كما كان يفعل في حجرتنا.
لم أصدّق الأحاديث التي أسمعها من أهل المدينة بأنه قد قتل في حادثة مرورية حينما رجع من المطار إلى المسكن في عربة. لكن الصورة التي رأيتها من السيارة وقت رجوعي من المطار ما زالت تتدافع إلى ذهني كتدافع الصخرة من أعالي الجبال، فأقول في نفسي متظاهرا الهمة "ليس هو البتة " فيهدأ قلبي هدوء الجوّ بعد زوبعة هائلة.
وقفت على حافة من الكثيب تحت شجرة التفاح. شممت منها رائحة زوجي. أحسست لمساته المخفية من بين ذرّات الهواء تداعبني. خيل إليّ كأنه يهمس في أذني لأنظر إلى بروج السماء. رأيت نجما لامعا صوب رأسي على الشفق يتبسّم لي.
آه، ما أجمل هذا المنظر! وما أروعه! أنا على يقين أن الأرواح لا تموت أبدا، وأنها تزور أحباءها في أيّ حين. الآن أراه في كل الكائنات ينظر إليّ بوجه برّاق ويلازمني ملازمة الظلّ للجسد، لا أفرّق بين حياته وموته. الآن كلاهما سواء لي لأنه حيّ بكل معنى الحياة.
أحببت أن أعيش منعزلة عن الآخرين أناجيه كما يناجيني وأسامره كما يسامرني، فكرهني زملائي إلا نسيم الذي كان يعلم قصتي المؤلمة، وسمّوني عاشقة الصمت. لكن حينما يدعونني بهذا الاسم أشعر كأنهم يرمونني بأوراق من الأزهار. ما أطيب رائحتها!
1 مشاركة منتدى
عاشقة الصمت, هدى الدهان | 28 كانون الثاني (يناير) 2018 - 08:22 1
وهو؟ هل افتقدها الى درجة ان يشم عطرها عندما غادر ؟ سرد ممتاز لنبضات انثى بقلم رجل و تفصيل لتناغم الطبيعة مع الحدث.بقي ان نعرف هل كان يفكر ان يكتب لها ام يفكر كيف يوسع اعماله ؟
1. عاشقة الصمت, 28 كانون الثاني (يناير) 2018, 12:53, ::::: محمد افضل
شكرا لمدحك لعملي . هذا سرد خيالي. كتبته لان أوسع أعمالي وهذه اول قصة لي . انا في مرحلة ابتدائية . تعلمت اداب اللغة العربية من الهند والان انا اتفكر أن ادرب قلمي اكثر في الكتابة في اللغة العربية.
شكرا
اخوكم محمد من الهند