عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

مختارات: د. حليم بركات

الاغتراب في العائلة


أدناه مقتطف من كتاب الاغتراب في الثقافة العربية لعالم الاجتماع العربي، حليم بركات، الذي انتقل إلى رحمته تعالى في الولايات المتحدة يوم الجمعة، 23 حزيران (يونيو) 2023.

::

الاغتراب في العائلة

حليم بركاتبموجب العضوية العائلية وضرورات التوحد في الهوية حتى الاندماج الكلي، قد يصبح الإنسان في الأسرة مسؤولا، ليس عن تصرفاته الشخصية فحسب، بل عن تصرف الآخرين، وبخاصة الذكور تجاه الإناث.

من هنا، مثلا، الإحساس أن انحراف البنت في العائلات التقليدية بخاصة ينعكس على العائلة كافة، فيمسها في الصنين، ولا يمس الفتاة وحدها. في إطار هذه المعضلة، يمكن أن نفهم جرائم الشرف التي تقترف عادة في المجتمعات التقليدية الشديدة التماسك، وحيث تسود القيم الدينية والعائلية الصارمة.

إن جريمة الشرف في هذه الحالات هي بمثابة محاولة يائسة ومحبطة من قبل العائلة لاستعادة شرفها المهدد بسوء تصرف أحد أعضائها في المجتمع الصغير الذي تنتمي إليه. وهنا أقول بحزن عميق إن العائلة التقليدية ترى أن انحراف ابنتها جنسيا يمس شرف الأسرة أكثر من أية جريمة أخرى قد ترتكبها.

وما قيل حول جرائم الشرف هذه يمكن أن يقال أيضا حول جرائم الثأر التي تتم هي أيضا بين الجماعات الشديدة التماسك التي تسودها العلاقات الشخصية الوشائجية والقيم الأولية الوثيقة. ولأن الإنسان في العائلة التقليدية عضو أكثر من كونه فردا مستقلا، يعتبر كل تصرف أو قرار مستقل خروجا عم وحدة العائلة وتنكرا لجميلها.

بكلام آخر، إن كون العائلة وحدة إنتاجية ونواة للتنظيم الاجتماعي يجعل القرارات الأساسية شأنا عائليا، وليس شأنا فرديا. هذا ما يحدث أيضا إلى حد ما بالنسبة إلى القرارات المتعلقة بالزواج والطلاق وتنشئة الأطفال. ومن هنا، كثيرا ما يتم الولاء العائلي أو القبلي على حساب المجتمع والفرد معا.

إن ما يميز المتجمعات الحديثة في عصر قيام الدولة-الأمة من المجتمعات التقليدية هو التشديد على الولاء للمجتمع والفرد في الحالة الأولى، مقابل التشديد في الحالة الثانية على أهمية الجماعات الوسطية على حساب المجتمع والإنسان. وهذا في صلب تخلف المجتمع العربي. إنه تخلف غير مرئي، وهنا خطورته الكبرى.

وفي هذا المجال اعتبر هشام شرابي أن التبعية تؤدي لا إلى الحداثة في العصر الحالي، بل إلى قيام مجتمع "نيو بطريركي" ملقح بالحداثة، فتصبح عملية التغيير نتيجة للتأثر بالغرب نوعا من الحداثة المعكوسة، ويكون التغيير تغييرا مشوها. وبين أهم فرضيات كتابه البنية البطركية: بحث في المجتمع العربي المعاصر، "أن اليقظة أو النهضة العربية في القرن التاسع عشر لم تفشل في تحطيم أشكال النظام البطركي وعلاقاته الضمنية وحسب، بل إنها أيضا أتاحت، بتحريكها ما أسمته النهضة الحديثة، نشوء نوع جديد وهجين من المجتمع والثقافة" (1).

ومن حيث صلة العلاقة الوثيقة بالمجتمع والمؤسسات الأخرى، نجد أن العلاقات المتبادلة بينها وبين الطبقات الاجتماعية والأديان والحركات السياسية تتصف بالتكامل والتناقض في آن معا، ففي حين تنشئ العائلة أطفالها على ثقافة المجتمع نجد أن الولاء العائلي قد يتناقض مع الولاء المجتمعي أو الولاء القومي، في الوقت الذي يحض الدين على تمجيد الأسرة وطاعة الوالدين، كما أن الأسرة كثيرا ما تحاول ترسيخ مكانتها الاجتماعية من خلال حرصها على إظهار تدينها واهتمامها بالشؤون الدينية.

ونجد من ناحية أخرى أن الدين قد يتعارض مع القبيلة، فيقول الشيح محمد مهدي شمس الدين إن الإسلام حاول بطرق كثيرة تحطيم الوحدة العشائرية "في سبيل بناء الأمة القائمة على وحدة المعتقد، وذلك لأن نمو القبيلة إنما يكون على حساب الأمة" (2).

وهنا، وعلى رغم ذلك، يمكن أن يقال إن المسلمين وغيرهم من أبناء الديانات الأخرى لم يتمكنوا من القضاء على القبلية، بل إن بعضهم قد يكونون أكثر قبلية منهم تدينا.

إننا نعرف جيد أن العلاقات داخل الأسرة والقبيلة تتصف بالتماسك وبالتآزر والمناصرة والتعاضد والعصبية، ليس بسبب اعتما أفرادها بعضهم على بعض في مختلف حاجاتهم اليومية فحسب، بل أيضا لأنهم بذلك، كما يقول إن خلدون: "تشتد شوكتهم ويخشى جنبهم ... وتعظم رهبة العدو لهم"(3).

إنها عصبية تقوم على أواصر التوحد في مصير مشترك، فيتقاسم أفرادها الأفراح كما الأحزان، والمكاسب كما الخسائر، والكرامة كما الإذلال.

ومن هنا أن أعضاء الأسرة أو القبيلة الواحدة يتوقعون الكثير بعضهم من بعض، وحين يأتي تصرف البعض دون مستوى التوقعات من الأقرباء، تكون خيبة الأمل الكبرى، فينشأ توتر في العلاقات قد يتطور إلى حدوث خلافات حادة بين الأقارب، ما يفسر لنا الإحساس القوي المستمر منذ العصر الجاهلي حتى الزمن الحضر بأن ظلكم ذوي القربى أشد مضاضة على النفس من وقع الحسام المهند.

= = =

(1) هشام شرابي، البنية البطركية: بحث في المجتمع العربي المعاصر، سلسلة السياسة والمجتمع (بيروت: دار الطليعة، 1987)، ص 20.

(2) محمد مهدي شمس الدين، "نظرة الإسلام إلى الأسرة في مجتمع متطور"، الفكر الإسلامي، السنة 6، العدد 5 (أيار/مايو 1975)، ص 8.

(3) أبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن خلدون، المقدمة، ج 1، ص 173-174.

= = =

حليم بركات، الاغتراب في الثقافة العربية: متاهات الإنسان بين الحلم والواقع، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2006)، ص 115-116.

JPEG - 38.7 كيليبايت
غلاف كتاب حليم بركات

https://arabcenterdc.org/resource/in-memoriam-halim-barakat/

D 1 أيلول (سبتمبر) 2023     A عود الند: مختارات     C 0 تعليقات