عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

عائشة بنت المعمورة - الجزائر

السوط والصدى


جلسـت بالقرب من الربوة الخضراء أتأمل المياه المتدفقة عبر المنحدرات والمسالك الملتويـة. كان كل شيء يغني ويرقص. الطيور والأزهار المتمايلة تغازل النسمات وتعانقها في دلال متباين. كانت حقيقة الخضرة أصدق من حقيقة النفس. الطبيعة تناجي الروح الحالمة وتستهزئ من الحقيقة نفسها، الحقيقة المخبأة في غرور النفس وجبروتها. كنت منفـردة في غرامـي وعشقي لهذا السحـر. وفي صراع بين الحلم والحقيقة وجدت نفسي أركن إلى الوحدة التي ألزمتني الصمت والتأمل، وألبستني رداء الحزن والكآبة، وأمطرت عيوني دموعاً حارقة حتى أشفقت منها على نفسي. وفي ردة فعل قوية كـان صوتها الضمير والإيمان، امتلكتـني السكينة والطمأنينـة، وأصغيت لخرير الماء، وزقزقة العصافـير، وعشق الأزهار للنسمات الباردة.

وما فتئت أحلم حتى سمعت صوتاً يناديني من بعيد. يقترب ويقترب. كان شبحا وسط الحقول المزركشة. وباقترابه أسرت في زنزانة القلب بدقاته المتسارعة. فضعفت أمام شوق أشتهيه، وسمعت كلماته الوديعة تبحث عني في خلوتي، وكانت حقيقة أخرى للحقيقة. كانت الأشياء أمامي غامضة، وانتابني الكثير من التـردد في محاولة فك طلاسمها.

كـان ثمة رجل في حياتي ورحـل. وجه طفل يعبـث بخصلات شعري الطويل. يرسمني لوحة من تقاسيم وجهه وروحا لريشته. يمزجني بألوان ناره المتقدة بالحياة. وينتـزع مني الحزن برقة ضحكاته وابتسامته التي تجعلـني أهيم في فضاء الذاكرة المشحونة بالسعادة. لم أحسب أن لحظـات السعادة مرهونة بالزمن، وأن ضحكـاتي سيوقفها القدر لأجل غـير مسمى.

لقد كانت الظروف المعيشية ضدي في كل شيء، وكانت قناعة الذين يكبرونني أكبر من قنـاعتي للحقيقة. الحقيقـة التي أبحث عنها في ضيق الغرفة وفي ثمن الأخطـاء التي ندفعها لمجـرد لا شيء. ورغم ذلك كنت راضية باللاشيء. المهم ألا يغتالني هذا اللاشيء.

كنت أحـاول ألا أستسلم لأحزانـي التي حاصرتـني في ذاكرة الماضي، بين الثانوية والقرية وبين شوارع المدينة الطويلة، بين الحافلات والجري وراءها كل مساء يوم خميس.

كان الجو جميلا. أحسست بدفء الغرفة. بأشعة شمس الصباح تغازلني. وشعرت أن كل شيء في الفضاء يرقص. وشيء من الحب يسكن تلك الروابي والمروج الخضراء التي كانت تسعد بلقائي مع رياض. فغمرتني فرحة اللقاء واحتضنتها بلهفة على رؤياه.

كان كل شيء ممكنا، والتحول شيء يؤلمنا أحيانا، وأحياناً أخرى يسعدنا. كانت نقطة التحول تغييراً في السلوك والأفكار، أو يقظة الضمير. كان يتأملني كثيراً ويصمت كثيراً، وإن علقت على أمـر ما يرفض الفكرة بشدة ويدافع بحدة، فما كان بوسعي إلا أن ألطف الجو بابتسامة أو نكتة. وأحيانا أخرى يحتدم النقاش بيننا وننصرف دون وداع.

اعترتني قشعريرة باردة وحمى أرعشتني. شعرت بتحول أربكه. لم يعد مواظبا على عمله. الفجوة تكـبر يوما بعد يوم. كنت كلما أسأل أحد تلاميذه يقول:

"الأستاذ لم يأت بالأمس واليوم."

الأيام السوداء ما زالت تبعث على الرعب والوجل. ولم تمر سوى لحظات حتى لمحته ينزل من سيارة بيضاء رفقة ثلاثـة رجال غرباء بعباءات بيضاء وسراويل قصيرة. ولأول مرة تسكنني الريبة. وعدت دون أن أكلمه أو يراني مستسلمة لشكوكي في تحوله المفاجئ، وأحلامي التي تتلاشى وأفكاري التي سبقت ظنوني.

كان كل شيء يثير الدهشة وينذر بقدوم أيام عصيبة. كنت دائما أجده عنده، وكلما يلمحني ينصرف دون أن ينبس بكلمة واحدة. وكانت الدهشة مني مستمرة في جنونها بداخلي. تأكلني. تنهش دواخلي. تشتعل وتشتعل. لكني لم أزد من اشتعالها ولو لوقت قصير.

وفي يوم بارد ممطر غسلت شتائيته كل المدينة ما وجدت نفسي إلا عنده، والرجل الغريب يرحل كلما رآني وعلامات القلق ترتسم على محياه. بادرت قائلة: "من يكون؟" لم يجب. أعدت السؤال بطريقة أخرى وجلست إلى جانبه. نهض بسرعة وكأنه يخشى اقترابي منه حينها فهمت إجابة سؤالي. كانت الدردشة معه ممَّلة، لأنه كان شارد الفكر. لكن السبـب الوحيد يعود إلى ذلك الرجـل الذي كان ينسحب في صمت كلما رآني.

كنت في قمة سخطي واندهاشي، وبقيت برهة على تلك الحالة. ثم انصرفت باتجاه البريد المركزي في انتظار مليكة، التي لم تتوان في البحث عن القضايا التي تثير بها تساؤلاتي واستغرابي من تفكـيرها ومخططاتها التي تسعـى بها إلى التغيير، ثائـرة على الأوضاع من حولها ومن منهجية التفكير في التسيير وأحادية الرؤية الضيقة للمجتمع. كانت لا تجيـد الاهتمام بأنوثتها كامرأة عصرها. انصب كل اهتمامها على ما يمكن تحقيقه من تعليمات وقوانين تطمح إلى وضعها كفكر تربوي بحكم مهنتها.

لم تخلع السماء ثوب الغيوم الدكناء، ونشرت ظلاما يبعث على الانزواء أو حالة استرخاء في انتظار انقشاع الغيوم. أنظر إلى السماء بين برهة وأخرى في حالة ترقب وقلق مما يأتي به الصباح من جديد، ولكن عدت أدراجي من حيث أتيت إلى الغرفة الضيقة واستلقيت على السرير. أردد باستغراب وخبث انتابني: "من يكون ذاك الرجل؟" إن وجـوده يرعبني. وشبحه يترك ريـاض في دوامة من الأفكـار.

لقد تغير رياض. لم يعد ذاك الوجه المبتسم البشوش. لم يعد الرجـل الذي أعرف. أخشى من تحوله الذي يقلقني ويكـبر بداخلي. ينبئ بانقطاعه عن العالم. كاد الجنون يصيبني بهوس التغيير.

تنهدت واستنشقت بعمق هواء الغرفة الرطب. ومع كل استدارة في الفراش تكويني نار الحب، وأشعر بالماضي ينسحب مني ويدفعني نحو الحياة بقوة. أتجرع من كأسها قطرات الهوى الذي سار نحو النجم الساطع في السماء. يضيء السدفة الحالكة أمامي ويثقلني بوحشة الدرب الطويل.

مرت أيام وأيام لم يطرأ خلالها أي جديد. نلتقي. نتكلـم قليـلا، ثم يلفنا الصمـت لساعات ونفتـرق على تشنجات الألم. وقفت أمام النافذة أعيد شريط حياتي معه حتى خيـم الظلام على المدينة ولم أستخلص أي شيء.

توقعـت قدومه مرات عدة كما كان يفعل من قبل. إن قلقت تنطق شفتـاه: "لا داعي للقلق أو الضجر،" ويعض عليهما بنظرة تملؤني روحا جديدة ويوما متجددا. هكذا كان الحال إلى وقـت قريــب.


مقطع من رواية السوط والصدى لعائشة بنت المعمورة. الناشر: وزارة الثقافة الجزائرية (2006).

JPEG - 21.1 كيليبايت
غلاف: السوط والصدى
D 1 كانون الثاني (يناير) 2007     A عود الند: مختارات     C 0 تعليقات