عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

بقادي الحاج أحمد - السعودية

شجرة اللبخ تحاكي النحل


بقادي الحاج أحمد(1)

يا نيل طامح وعالي، فوق الصفحات شمسه تلالي.

النيل في رحلته المقدسة، قادما من أرض الـنبـع من جنوب الخير، قوافـل الموج في تدافع، متجهة شمالا نحو المصب.

طائر يمارس الطيران المنخفض ليختلس قبلة من سطح ماء سبقه شعاع الشمس إليه وترك أثاره واضحة عليه، في زمن الفيضان؛ في مثل هذا الوقت من العام يزيد الماء ويعلو فوق الضفاف. يتحول لون ماء النيل الأزرق إلى طيني غامق، وماء النيل الأبيض يظل لونه ابيض رمليا فاتحا. عندما يلتقي الماءان -الأزرق والأبيض- عند المقرن، يحتفظ كل بلونه .

أمام مسجد النيلين وبشهدته يتم العناق، وتتشابك الأيدي. ومن تحت كبري شمبات يمران، هناك من فوق، ومن علي الجسر، يري الناظر حميمية المقابلة والمخاصرة الضاحكة، واختلاف المئين: هذا ازرق طيني غامق، وهذا ابيض رملي فاتح.

يخت كبير يمر متجها مع الأمواج نحو المقرن. في تقدمه نحو الغرب يمر تحت جسر بحري أمام قصر الحاكم العام الإنجليزي سابقا، وقصر الشعب والقصر الجمهوري في مرات أخرى، مع ملاحظة أنه غير مسموح للشعب بالاقتراب من القصر أو أخذ صورة بابتسامة عريضة معه.

نسوا أن يسموه باسم من أعطاه كل هذا الإجلال والبهاء، النيل الأزرق. لو سموه قصر النيل الأزرق لأخذ القصر منه العطاء كله، والعمق كله، والانتماء ليطعمه لسكانه سواء أكانوا خضر أو صفر العيون.

يمر يخت السواح بين ضفة توتي بمزارعها وضفة شارع النيل بالخرطوم بعماراتها وأشجارها البواسق. عند اقتراب اليخت يوقف العمال غسيل الخضروات في الماء، ليحيوا الخواجات بالتلويح وبابتسامات عريضة.

ويقف جمهور المنتظرين للمعدية العتيقة لتنقلهم في رحلة العودة من العمل والسوق والمدارس إلى ديارهم في الجزيرة. يواصل اليخت تقدمه مارا بجزيرة التمساح والمقرن متجه نحو الشلالات على ذات اتجاه قوافل أمواج الماء المتدافعة قادمة من أبو الخيرات نحو الشمال.

شارع الجامعة هو الشارع الموازي لشارع النيل. كانت شجرة اللبخ تقف هناك ناشرة الخضرة عبر فروعها الطويلة والأزمنة البعيدة. شجرة اللبخ واحدة من شجر اللبخ الذي يصطف على جانبي شارع الجامعة، لتقديم التحية يوميا وفي كل الأوقات طوعيا لطلاب وطالبات العلم وللجميع.

لا فروع شجرة اللبخ الطويلة، ولا قامتها المديدة، ولا جذعها الضخم، ولا جذورها الضاربة في أعماق الانتماء لهذه الأرض الطيبة تميزها عن بقية شجر اللبخ. ما يميزها هو المعهد الذي تقف ببابه لتمارس وجودها الدائم بتقديم واجبها المقدس: تحية الداخلين والخارجين بنشر الخضرة والنوار أمامهم وما تكتمه في جوفه.

(2)

يا وطنا مثل العسل. ريحك طيب، وطعمك عذب، وحلاوتك صادقه، بين الأوطان أخضر.

في شارع الجامعة، الشارع الموازي لشارع النيل من ناحية الجنوب، خلف القصر - قصر النيل الأزرق، يقع المعهد العالي للدراسات المصرفية. جامعة الخرطوم في أعلى الشارع، منها أخذ الاسم.

المعهد دوما ممتلئ بالطلبة والطالبات والأساتذة والأستاذات، في الفترتين الصباحية والمسائية، مثله مثل خلية النحل. الكل يعمل بجد واجتهاد من اجل التحصيل العلمي العالي.

شجرة اللبخ هي الرمز لهذا المعهد العتيق، على مر السنين واقفة ببابه ناشرة للخضرة والنوار.

مثلها مثل النيل في العمق، في الانتماء، في العطاء وفي الصمت، لم تبح يوما عما بداخلها، أو لعلها فعلت لكن لم يسمعها أحد. وان كان للنيل في زمن الفيضان شأن آخر.

شجرة اللبخ تشبه الوطن الذي يستظل تحت ظلاله الوفيرة الجميع.

ذات يوم اتكأ أحد الطلاب علي جذع شجرة اللبخ منتظرا زميلته لتلحق به بعد انتهاء المحاضرات، طال انتظاره، تأخرت هي في اللحاق به، لاحظ وهو يتأمل الشجرة من تحت، أن أعلى الجذع به شرخ كبير. فيه حركه ملفتة لمن اقترب منه. اقترب أكثر للتأكد من هوية زوار أو سكان جذع شجرة اللبخ. كان الاستقبال حارا وداميا من النحل. بدون تحية، بدون ابتسامات عريضة، وبدون تلويح.

(3)

الأسمر ذو البسمة البيضاء كبياض العاج

قبل أربعمئة سنة، كان الإفريقي، ذلك الأسمر ذو البسمة البيضاء كبياض العاج، آمنا في سربه مع قطعان ماشيته، يتجول معها في غابته، حاملا حرابه، لا يخشى عليها إلا من العيون الصفـرـ عيون المتربصين من اللصوص والسباع الضواري، وأيضا يخشى الاختفاء المفاجئ الذي انتشر آنذاك في بلاد الغابات والأنهار والرهود والشجيرات شديدة الخضرة، كثيفة العتمة، كثيرة الثمار.

لم يكن يعلم الأسمر ذو البسمة البيضاء كبياض العاج ن هناك عيونا أخرى في تلك الأثناء تتربص به، عيون خضر تختبئ خلف البنادق، لا تريد أن تخطف ما تيسر من الماشية، كما يفعل اللصوص وتفعل السباع، كانوا يريدون أن يسرقوا الابتسامة البيضاء كبياض العاج من الأسمر؛ كانوا يريدون أن يختطفوا الأسمر من عالمه الوديع الحاني.

وقف الأسمر متكأ على عصاه، واضعا قدمه على ركبته في شكل مثلث، ليرتاح قليلا وهو يراقب قطيعه عن كثب. فجأة وجد نفسه محاصرا بالعيون الصفر، بالعيون الخضر. العيون الخضر هي الغازية. حاول القتال، الفرار، الاختباء، ولكنهم تمكنوا منه، ومن ابتسامته البيضاء كبياض العاج.

(4)

العيون الحمر

طافت زمرة من الخواجات في شارع الجامعة، حيتهم شجرة اللبخ كما اعتادت أن تفعل، وكما يفعل الأسمر ذو البسمة البيضاء كبياض العاج. ولكن العيون الخضر لم تأت لترد التحية بأحسن منه.

اختبأوا خلف الزي الواقي من لسعات النحل، وخلعوا الخلية من جذورها عن جذع شجرة اللبخ. أخذوا الصفائح ممتلئة بعسل النحل وذهبوا ترافقهم تحيات ونظرات الإعجاب من خفراء المعهد.

تساقطت أوراق شجرة اللبخ بكميات أكثر من المعتاد، واخذ غير المتساقط منها في الذبول والاصفرار. خلال أيام معدودة، أمست جافة، وتحول منظرها المهيب وهي تقف ناشرة للخضرة والنوار إلى منظر شاحب كئيب يحاكي النحل عند تلاقي العيون الصفر والعيون الخضر بالعيون الحمر.

D 1 تشرين الأول (أكتوبر) 2007     A بقادي الحاج أحمد     C 0 تعليقات