عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

شفاء داود - سورية

زجل الروح وجبران الفؤاد


ها أنذا أبدأ بحرف الجر "في" من جديد، ولا يفلح نهر معلمة التعبير في ردعي عن ذلك البتة. تبدأ الحكايات بـ "كان"، وتبدأ النصوص بـ "في"، وتجر الثانية ما استطاعت بعدها من مشاعر.

كانوا أحلامًا ثلاثة. الأول أُخبرت المعنيّة به من إحداهن أنّها شوهدت ترتقي مرتقىً عصيبًا صعبًا لم يتوقّع من مثلها ارتقاؤه. والثاني بُعيده بعامٍ أو أكثر: أُخبرت فيه ثانية من أحدهم أنّ خيرًا كثيرًا يأتيها من حيث لا يُتوقع. أمّا الثالث، فجاءها على استحياءٍ بعد ثلاثة أعوامٍ في ليلتين متتابعتين على هيئة رؤيا ما انفكت عن التفكير بها والتساؤل عمّا تعنيه حتى لحظة الكتابة.

كانت رؤيا التيسير متربعًا جنبًا إلى جنبٍ مع الإيمان يتحلّق حولهما ستّة، يسألهم عن أحلامهم في هذه الأيام، فتتبسّم أول العنقود وتتذكّر حلم البارحة، وتتنهّد تنهيدة طويلة كطول المسافة المهيبة بين القلب والعقل جيئة وذهابا ومن بعدها لا تنطق. كانت تعلم علم اليقين أنّها مع النور على موعد. وكانت تثق أنّ الثلاثة كلهم جميعًا قاب قوسين أو أدنى من التحول إلى حقيقة في وقت لم تفصح عنه الحياة بعد.

***

هل جربت يومًا أن تتوقف عن السعي في وقت لا يشكر لك فيه ذلك؟ هل شعرت بالإنهاك حتى الثمالة؟ أحقًا لأوجاعنا ثمالة؟ أخلت ليلةً في لحظة ألم يشق الصبر شقًا أنّ صوتك لا يسمعه أحد ولن يسمع، أنّ أحدًا لن يردّ عليك وأنّ أحدًا بك لن يشعر وأن عبراتك لا تعني في هذه الدنيا أحدا؟

هل كنت مرهفًا مرهقًا تعبًا يقف على غير ميعاد على ناصية قدر لا يدري له خيرًا من شر؟ هل وقفت وعلى يمينك ركنٌ به تثق، وعلى يسارك حياة لها تريد، وعلى بعد أمتار ليس إلا ملاذك الآمن الدافئ الحلو الرحيب، ولكنّ مشقة السعي الكثيف حالت بينك وبين الوصول إليه؟ هل رفعت يمينك تعلن استسلامًا يرجو مساعدة من أحد؟ أي أحد؟ هل توقّف لهذا النداء أحد السيارة وعاد أدراجه لأجلك وغيّر وجهته ووجهتك بلا استئذانٍ إلى المجهول على عجل؟ هل صحوت لنفسك وأنت من سفح الخطر المحتم تقترب، واخترت أن ترمي بنفسك هاربًا من اللاشيء إلى كلّ شيء راجيًا ذات محاولة أن تنتصر؟

***

يتقلّب الناس في الحياة بين مشاعر لا تعد، مشاعرنا سجوننا الافتراضية التي نملك مفاتيحها مسبقًا، ولكنّنا أحيانًا لها نُضيع، وغالبًا ما لها نُهمل.

لدينا حواراتنا اللّامنتهية في العمر مع شعورٍ دونًا عن كل شعور. شعور واحد فحسب يستطيع أن يقضّ مضجعك، أن يجعلك في سعيٍ حثيثٍ أو يقعدك في إحباطٍ مرير. شعور عنيد يصرّ أن يلعب معك لعبة التخفّي قسرًا، أن يقحمك في عشرات الحفلات التنكرية، هدفه تصييرك ذاتًا لم يخطر على بالك قط أن تصيرها، ورفعك إلى قمةٍ ما كنت ببالغها يومًا لولا مشقّة تلكم المناورة.

بين الشعور والإحساس خيطٌ رفيعٌ، وخط فاصل يحسم كلّ الحكاية، أحدهما مقيم والآخر مسافر. بين سفرٍ وآخر يتبادلان المهام ويكلفاننا ما ليس لنا به طاقة.

ثمّة شعورٌ لا يتعب. مشاكسٌ جدًا كذلك الطفل الذي درج على قرع أبواب الجيران والهرب دون أن يعرف أحدٌ من يكون. ربما كنتَ أو كنتُ أو كنا جميعنا ذلك الطفل في محطة من محطات الحياة. أتراها تفكر مشاعرنا كما يفكر الصغير ذاته؟ بماذا كان يفكر؟ ولماذا لمثل ذلك الطيش كان يُحدث؟

هل يُعدّ الطيش حدثًا ذا قيمة أم أنه مجرد قيم مبعثرة؟

ماذا لو أنّ للطرق أهدافًا لا علاقة لها بالتسلية؟ ماذا لو أنّ للطارق عند أصحاب البيت حاجة؟ ماذا لو أنّهم هم من حاجتهم إليه؟ ماذا لو أنّ محرّكًا خارجيًا دفعه لفعل ذلك؟ هل تعدّ الحاجات ذنبًا لا يغتفر أم أنها خطيئة؟ أيحقّ للبعض ما لا يحقّ لغيرهم بلا أسباب واضحة؟ بلا سبب واحد حتى؟

هل تبدو أخطاؤنا في الحياة مقبولة أحيانًا كتلك الإملائية أم أنها ليست كذلك البتة كالنحوية؟ هل سبق أن كنت ممتنًا لخطأ إملائي جعلك تتبسّم آلاف المرّات، وجعل لقلبك رفيفًا لطيفًا كنت لمثله قد نسيت؟ هل سبق وأن أرسلت رسالة لحرف على لوحة المفاتيح وأخبرته أنك مدين له بكثير من الضحكات الزاكية لأنه كُتب غيره بالصدفة؟ هل سبق وأن أربكك خطأ لم يربك الطرف المقابل كما لك أربك؟ لماذا جُبل الكيد على ألا حدّ له يُعرف؟

تتساءل الآن: ماذا تراها كانت ستفعل لو أنّ الخطأ لم يصحح؟ تساءل ما حييت، فما كل التساؤلات تفضي إلى نتيجة بعدما يفوت الفوت وتعود الفراشات إلى مساكنها الأُول.

ماذا لو أنّ ما نحسبه صدفةً ليس كذلك البتة؟ ماذا لو أنّ المشاعر تطرق أبواب القلوب كي ترتّب ما فيها استعدادًا لاستقبال شعور والاحتفاء به ووداع آخر والتخلي عنه تدريجيًّا؟ لماذا تتطلب المشاعر مرونةً فائقةً وذكاءً حادًّا ومهارةً لامعةً للتعامل معها؟

***

حين تقف قبالة شعور ما، حاول أن تتفهمه. بادر لمصافحته. لا بأس من محاولة احتضانه، بعض المشاعر تكون متعبَة كما نحن، متعِبةٌ لأنها مثلنا، لأنها نحن، وقد تكون بعض الشيء أو من كل شيء غاضبة.

ماذا لو حاولت احتواءها ومساعدتها على النهوض؟ إن لم تفعل أنت فمن تراه بفاعل؟

جميعنا يملك ذلك الشعور الأحمق الذي يروق له ارتداء حلل الأحاسيس. الشعور المربك الذي لا نفهمه ولا نتجاوزه ولا نستطيع لمعرفة مفاتيح إطلاق سراحه تمييزًا.

أترانا نستطيع ولا نريد؟ أم أنّنا نريد ما ليس لنا تجاهه استطاعة؟ من يدري؟

لماذا نريد كثيرًا مما لا نستطيع، ويستكثر علينا كثيرٌ مما يريدنا بعضًا من استطاعة؟

أنا أستطيع. أنا أريد. أنا كثيٌر، أنا كلٌّ، فما بالي أراك كلّي؟ أنت بعضٌ ولا أدري إلام وحتام لا تراني بعض بعضك؟

***

لم يكن شعورًا عاديًا البتة. كان شعورًا مصابًا بتشتت الانتباه وفرط الحركة وطيفٍ من توحد. كنت معه أشبه بعاجزٍ كلّما قرأ وسأل وبحث يرتجي له ترياقَا أراق محاولاته وأرهقها وأرّقها وراح يبعثر الشيء الذي لا يستطيع من رفقته فكاكًا، ولا لتحمّل صمته إدراكًا عاجزًا مما يحس فينتحب.

***

أريد أن أقول لك إنّي كنت ممتنة، كنت وما زلت وسأبقى. أليس الجميع يكتب مثل ذلك؟ يضمون ثلاثة مفردات لا تُضمّ معًا دون تحمّل المعاني مسؤولية الوعود؟

ما معنى أن تقول: سأبقى؟

ما هو البقاء؟

كيف نبقى برفقة من لا يبقى معنا ولا لدينا؟ كيف يفعل بنا مثل ذلك وعلى أيّ شيء يعوّل؟

كيف ما نزال نكن المشاعر لأولئك الذين لم يكنوها لنا يومًا كما كنّا؟

كيف نستطيع أن نحيا حياة لا تقتحمها علينا عشرات "الكِيَفِ" (مفردة الاستفهام "كيف")؟

كيف؟

***

يرى المحبّ من يحبّ على هيئة لا يراه بها أحد. يتبسّم برفقته كما لا يتبسّم برفقة أحد. يتنفّس مرتاحًا كما لو أن الدنيا له حيزت. أتدري ما معنى التنفّس بارتياح؟

كنا مختلفين تمامًا، فلا أنا بشبيهٍ لها ولا هي لي بشبيهة. الغريب أنّنا كثيرًا ما ننجذب لذلك الذي لنا ليس يشبه، يحاصرنا الفضول، تتملّكنا الدهشة وقد يعمينا بعض الشيء الانبهار.

كانت في طورٍ من أطوار الحياة تحسد عليه. يؤسفني أنها لم تدر ذلك. كانت غاضبة كما لم ألق غضبًا في الحياة قط. كانت تريد تعبيرًا ولا تستطيع، وكنت أحاول ما استطعت دفعها كي تفعل. كانت تحبّني. كانت لذلك الحبّ ممتنة دومًا. كانت جبران الفؤاد من بعد صدعٍ تجبّر. وكانت زجل الروح الذي لم تُعرف له نهاية.

D 1 حزيران (يونيو) 2023     A شفاء داود     C 0 تعليقات