جعفر أمان - السعودية
الـنــصـيــب
منذ أن وقعت عيناه عليها، انبهر بها وبقدّها. في ذهنه رسم على الفور صورتها. قلبه خفق بحبها. عندما كان طيفها يمر في خياله، تحمرّ وجنتاه ويعرق جبينه. لازمته هذه الحالة في حلمه كما في صحوه. انقلبت حياته رأسا على عقب. أين ذاك —رجل الأعمال الناجح— لقد تغير. أصبح شارد الفكر. يعيش مع صورة حبيبته في يقظته ونومه.
قرر دون تردد أن يتقدم لخطبتها، بعد أن سأل عنها وعرف من تكون ومن يكون أهلها. تحدث إلى والدته وشقيقه الأكبر وفاتحهما برغبته في التقدم لخطبتها، وهو يتحدث كانت عيناه ترقبان وقع الخبر عليهما. استبشر كثيرا وهو يرى علامات الرضا والفرح باديتان على وجه والدته، وما أسرع ما كانت ردة الفعل لديها:
"ولدي شادي الحمد لله، أنا سعيدة جداَ بقرارك هذا وأسعد باختيارك لهذه الفتاة، فهي متعلمة ومثقفة وذات دين وخلق وجمال، وأتمنى إن شاء الله أن تكون من نصيبك يا بني."
ووالدته تختم حديثها حوّل بصره صوب أخيه ينتظر ردا يفرحه. بادله النظرة وقال:
"لن أزيد على ما قالته الوالدة، وأملي أن نفرح بك قريبا."
هذا الجواب المقتضب من أمه وأخيه شحن في نفسه طاقة غير اعتيادية، انفرجت لها أساريره، وبنى عليها آمالا وأحلاما.
ظل شادي طيلة الأسبوع الذي حددته أسرة الفتاة للرد على طلبهم قلقا ومتوترا. افتقد شهيته للأكل. زاد في شرود الذهن، حتى لاحظت والدته وأشقاؤه عليه ذلك، فشعروا بالخوف الشديد عليه.
قبل نهاية المهلة بيوم رنّ جرس الهاتف. تركت الوالدة إبريق الشاي جانبا وأسرعت نحو الهاتف. التقطت السماعة:
"نعم."
جاء صوت والدة الفتاة على الطرف الآخر:
"أم أكرم، أنا أم سعود. كيف حالك؟"
"أنا بخير والحمد لله."
تواصلت الجمل الترحيبية المعروفة والسؤال عن الصحة والأولاد. توقفت أم سعود عن الكلام فأحست أم أكرم بقلب الأم بأن الخبر غير سعيد. قطعت أم أكرم الصمت ورفعت الحرج عن أم سعود وبادرتها بالقول:
"ماذا تم بشأن موضوع ابننا شادي؟"
تلعثمت أم سعود وبعد جهد قالت:
"ليس هناك نصيب يا أم أكرم، ولكننا سنظل جيران وأحباء. أليس كذلك؟"
"إن شاء الله. إن شاء الله." هكذا ختمت أم أكرم المكالمة.
ما إن أغلقت سماعة الهاتف حتى أخذت الأفكار منها كل مأخذ. كيف ستبلغ ابنها بالخبر وهي ترى مدى تعلقه بالفتاة. لازمها الخوف على ابنها. في هذه الأثناء وهي غارقة في بحر أفكارها المتلاطمة، فوجئت بابنها يدخل عليها الغرفة. التفت إلى وجه أمه فلاحظ عليه الخوف والارتباك. بادرها بالسؤال:
"ما بالك يا أماه." قالت:
"هاه لا شيء يا بني." لم يقنعه الجواب فأعاد السؤال بصيغة أخرى:
"أماه. علامات القلق بادية على محياك، لابد أن هناك شيء ما؟"
بعد إلحاح:
"يا بني، كما تعلم فإن الزواج قسمة ونصيب، وهذه الفتاة ليست الوحيدة..."
وهنا قاطعها منفعلا:
"رفضوني. رفضوني يا أماه. أمتأكدة أنني..." هدأته وأردفت:
"أعلم يا بني أن هذا الخبر نزل عليك كالصاعقة، لكن هذا كان متوقع كما أن القبول كان متوقعا."
"لا. لا يمكن أن أستسلم لهذا الواقع. لن أستسلم." كررها وهو يغادر إلى غرفته. هنا نزلت دمعة حرّاقة من مقلة والدته. ورددت:
" لا حول ولا قوة إلا بالله."
انغلق شادي على نفسه وظل يفكر في مخرج لما هو فيه. تفكيره هداه إلى اللجوء إلى أشقاء الفتاة، والى الأصدقاء المشتركين، للتدخل في الأمر، ومحاولة الضغط على الفتاة لإقناعها، أو لمعرفة السبب الحقيقي لرفضها وعلاجه. لكن دون فائدة. ومع هذا لم ييأس.
انتظر حتى هدأت الأمور. فترة من الزمن عاود طلبه. رُفض. بعد سنتين كرر طلبه مرة أخرى. هذه المرة وبعد انتظار، تمت الموافقة على طلبه. واستسلمت الفتاة بعد أن أشبعت بالكلام الجميل من أهلها وصديقاتها:
"إنه يحبك. ولولا ذلك لما واصل استبساله في طلب يدك. وما دام يحبك فلن يغضبك يوما. وسيحملك على أكف الراحة. ماذا يعني الفارق الفكري بينكما؟ ماذا يعني لو تنازلت عن بعض أحلامك في شريك عمرك؟"
مع تزايد هذا الإلحاح لم تجد مفرا من الموافقة.
خُطِبا. عُقِد قرانهما. تزوجا. كانت كالأميرة. أنجبا أطفالا ثلاثة. افتتح شادي مشغلا في بيته الذي اشتراه. توسعت تجارته. أصبح يشار له بالبنان في بلدته. أما هي فانشغلت عن نفسها بزوجها وأبنائها، وبالإشراف على المشغل. وسار دولاب الحياة بهما. حتى ألجم ذلك المشهد لسانها، وشل حركتها، ووقفت مشدوهة أمامه، لا تدري ما تفعل. الزوج والعاملة الأجنبية في المشغل، على فراشها. بعد دقائق استجمعت قواها، وطلبت من العاملة المغادرة، ومن زوجها ارتداء ثيابه. ثم قالت له:
"طلقني." لم يقبل. اعتذر لها كثيرا: "غلطة ولن تتكرر. الشيطان غلبني."
توسل. لا فائدة. لملمت حاجياتها الضرورية ودلفت لبيت أهلها. ارتمت في حضن والدتها باكية مجروحة متألمة. نظراتها مليئة بالاتهام لأسرتها ولمن أشار عليها بالاقتران به. رافضة كل سبيل للصلح.
حاولت والدتها وأشقاءها الإصلاح وإعادة المياه إلى مجاريها. ذكّروها بأبنائها ومدى حاجتهم لها، سيما وأنهم لا زالوا صغارا. لكنها كانت ترفض بشدة، وباستغراب لرغبتهم هذه:
"كيف أعود لمن خانني. لمن طعنني في شرفي وكرامتي وكبريائي؟ هل تعلمون أنها ليست المرة الأولى لهما؟ لن أعود."
انزوى شادي عن المجتمع سيما المحيط به، وفكر في ما فعل. وسأل نفسه: "أين كان عقلي؟ ألهذه الدرجة كنت مسلوب الإرادة؟ لا بد أن أفعل شيئا."
أرسل تلك العاملة إلى بلدها. أقفل المشغل. قطع الوعود الكثيرة لأشقائها، اعتذر من الجميع. وأبدى استعداده لتلبية كل ما تطلبه زوجته، حتى تغفر له ما ارتكبه في حقها. أكد للجميع أنه نادم على ما أقترف، وأكد أنه درس قاس تعلم منه. هذا التوسل تماشى مع ما كان أشقاء زوجته يريدون، وحفظا لأبنائه لكي يترعرعوا بين والدين. ضغطوا مجددا على أختهما:
"إذا لم تعودي ستصبحين مطلقة، وستبقى أحلامك في حياة سعيدة في تراجع. ستفتقدين أبناءك. هو وعد بتلبية كل ما ترغبين فيه. سامحيه وعودي لحياتك فلن ينفعك أحد."
وصلتها الرسالة غير المتوقعة. نفض الأخوان أيديهم عنها. لابد من العودة والاستسلام للواقع، بعد أن تخلى عنها أقرب الناس لها. عادت مكسورة الخاطر. محطمة الفؤاد. عادت ولكنها جسد دون روح.
◄ جعفر أمان
▼ موضوعاتي
المفاتيح
- ◄ قصة قصيرة
- ● وماذا بعد؟
- ● النظّارة
- ● خرابيشُ خطّ
- ● بقرة حسين
- ● تاريخ