عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

جعفر أمان - السعودية

نصان: قلب أم والنسيان


قلب أم

بعد طول صبر رزقها الله سبحانه وتعالى بطفل جميل. أفنت عمرها في إسعاده وأحاطته بكل ألوان الحب والعطف والحنان. شاهدته وهو يكبر أمامها، وتكبر معه أحلامها، بأن تراه ناجحاً في عمله ومحبوباً من أسرته ومجتمعه. سهرت الليالي تحوطه بعنايتها، وتوفر له كل حاجياته، سيما إبان طفولته وقت أن كان عاجزاً عن الاعتماد على نفسه.

كبر وأصبح شاباً يافعاً، ولا زالت تعشق الأرض التي تطؤها قدماه. وهبت نفسها لخدمته. يجد كل ما يتمناه قبل أن يطلبه أو تنبس به شفتاه. كان محور حياتها. استطعمت اللذة وهو يخطو درجات سلم حياته، من رياض الأطفال إلى المدرسة حتى مقاعد الجامعة. عاشت معه فرحته الأولى بتخرجه، ثم بشغله وظيفة تتناسب وما حققه من نتائج علمية، إلى أن سرّ خاطرها بالفرحة الكبرى، بزواجه وإكمال نصف دينه.

تركت له الحرية في اختيار شريكة حياته. كانت له السند. تنازلت عن كثير من حقوقها عليه حتى هذا الحق. كان رضاه عندها هو الأهم، وكأنها عكست الصورة، فهي تعتبره روحها التي تعيش بها.

مرت الشهور الأولى من حياته الجديدة بوفاق تام بين والدته وزوجته، والتي احتضنتها وعاملتها كابنة لها، تسد خلتها وتصفح عن زلتها، وتدربها لتكون ربة منزل من الطراز الأول. ولكن لأنه تعود تلبية طلباته، وتعود التنازل من أمه، بدأ يستمع لزوجته، وبدأ يتأثر بما تبثه من سموم تجاه والدته.

قلبت تلك المرأة حياة الأم إلى جحيم عند غياب ابنها. وشيئا فشيئاً مارست كل الجحود والصلافة حتى أمامه، وهو لم يحرك ساكناً. وعندما أحست بأنها قضت قضاء مبرماً على تلك المسكينة العجوز، والتي رسم الشيب عليها خطوطه قبل المشيب بسبب ما تفعله بها.

أمرته بأن يشتري لهما منزلا آخر، ولأنه ليس عليه سوى السمع والطاعة، فعل ما أُمر به. وانتقل مع تلك الحرباء إلى منزلهما الجديد وترك أمه الحنون، والتي قاست ما قاست، لتعيش في ظلمات قلبها وكيانها كما هي الظلمة التي تركها فيها.

ومع كل هذا لم يقس قلب تلك الأم على ولدها. كانت تنتظر الساعات والأيام حتى تراه وتتزود منه وتشم ريحه. أصبحت تلك الأيام شهوراً. شهورٌ تفصل الزيارة عن الأخرى، ثم سنين. هي لا تريد مالاً ولا مأكلاً أو مشرباً. كل ما تريده هو أن تراه وتكحل ناظريها برؤيته. لكن صبرها طال. حتى مرت عشرون سنة لم تره فيها. عشرون عاماً! لكنها ما انقطعت تسأل عنه وعن أحواله.

ذات يوم كما هي عادتها في السؤال عنه. جاءها خبر نزل عليها كالصاعقة: "لقد مات ابنها." بكت كما لم تبك من قبل. بكت الآن ولم تبك عندما أهملها، عندما جفاها عشرين عاماً. رفعت رأسها للسماء ودعت:

"اللهم ارحم ابني ولا تعذبه بي، فأنا راضية عنه، وقلبي الذي أحبه لن يغضب منه، ويحرمه من رحمتك يا أرحم الراحمين، يا رب العالمين."

أنهت دعاءها، وعلت ابتسامة رضى على شفتيها، ثم أسدلت عينيها بعد أن جف الدمع منهما. وأسلمت الروح.

::

النسيان

"ألو."

"أحمد؟"

"نعم أنا أحمد."

"بصراحة لم أكن أتوقع منك مثل هذا التصرف. هل تصدّق أنني حتى الآن، أعيش حالة من الاستغراب والدهشة، لأنني أعرفك وأعرف أخلاقك والتزامك."

"على رسلك. أليس من حقي أن أعرف من يتحدث معي؟ من أنت؟"

"أنا حسن."

"حسن؟! أي حسن؟"

"حسن محمد."

"آه. أخ." ضرب بيده اليمنى على جبهته.

"أهلاً بك يا حسن واعذرني. لقد نسيت موعدنا اليوم."

"كيف تنسى وأنا قد ذكّرتك به مساء أمس."

"هذه مشكلتي. النسيان. قاتل الله النسيان، لطالما أوقعني في مشاكل وسوء فهم مع من حولي. هي نقمة عليّ وأنا أعرف ذلك. فلست أنت أول شخص ولا أعتقد بأنك ستكون الأخير. أكرر اعتذاري."

"حسناً. لا عليك. لقد سمعت شيئاً عن نسيانك. لكن لم أكن أتوقع أن يكون بهذا الشكل."
"ها أنت عرفت الآن."

"ألم تجرّب التذكير في الجوال مثلاً. في المفكرة اليومية. في التقويم الذي على مكتبك، أو في منزلك؟"

"لم ينفع معي أي من هذه الأشياء."

"كان الله في عونك. إلى اللقاء."

(وهو يهم بإقفال سماعة الهاتف) كان صوت زوجته قد علا:

" أحمد، أين الدجاج والسمك الذي طلبته منك صباح اليوم؟ لم يتبقى على أذان الظهر كثيراً. وأود أن أنتهي من تجهيز الغذاء."

انتفض واقفاً ورفع يده اليمنى كعادته ليضرب بها جبهته. لكن سماعة الهاتف كانت هذه المرة أقرب من يده. فصرخ بصوت مسموع آآآآه......

أسرعت إليه زوجته وسألته:

" ما بك؟"

"فقال لا. لا شيء."

"إذن أين ما أوصيتك به؟" سكت.

انتفخت أوداجها ثم هبت صارخة:

"نسيت مجدداً، هاه. ماذا أفعل؟ لقد تعبت منك ومن نسيانك. يكفي. سوف تقضي عليّ."
لا". لقد اشتريت ما طلبته مني فور اتصالك بي. ولكن.."

"ولكن ماذا؟"

"لقد نسيته في السيارة."

"نسيته منذ الصباح؟"

"نعم."

"هلمّ أحضره فوراً."

فتح حقيبة السيارة وإذا بالرائحة تزكم الأنوف. والدجاجة الواحدة أصبحت بحجم ثلاث مجتمعات. فسد كل شيء جرّاء حرارة الشمس الحارقة. أبلغ زوجته. فعاتبته على ذلك. ولم تجد بداً من اقتصار وجبة الغذاء على البيض المقلي والأرز الأبيض.

****

وهما يتناولان الشاي الأخضر بعد الغذاء. كانت الزوجة قد هدأت فسألته:

"صحيح يا أحمد بأنك وأفراد أسرتك، قد طردتم من الشقة التي كنتم تسكنون فيها. ولم تجدوا ملجأً؟"

"ماذا؟ ماذا تقولين؟"

"عندما كنتم صغاراً دون عائل. محرومون من عطف الأب وحمايته. هل حدث لكم ذلك؟"
بعد صمت مشوب بشرود قال: "لا. لا أذكر."

"كيف لا تذكر؟! أيعقل أن ينسى أي شخص أحداثاً كهذه مرت عليه وعلى أسرته؟ حسناً سأساعدك على التذكر. عندما طردتم من قِبل ذلك الشخص، والذي للأسف كان بينكم وبينه صلة قرابة. استضافكم أحد أصدقاء والدك المتوفى ريثما تجدون حلاً لمشكلتكم."

صمت لبرهة. ثم علّق:

"من أين لكي هذا الكلام؟"

"من والدتك وأخواتك عندما كنا مجتمعين مساء أمس ككل خميس."

"حقيقة لا اذكر شيئاً."

"لقد تقطع قلبي خاصة وأنكم تشتتم. الأولاد في جهة. ووالدتك وأخواتك الصغار في جهة أخرى."

لم يرد. فواصلت.

"أنت لا تحدثني في مثل هذا الموضوع وأنا أحترم ذلك، وأكتفي بما أعرفه عنكم، بأنكم قاسيتم كثيراً وعشتم ظروفاً صعبة لم أعشها أنا ولا أتصورها."

بعد إلحاح منها قال لها:

"أنا لا أحدثك عن حياتنا تلك، لأنني لا أذكر معظمها."

فصرخت: "آه. النسيان."

فابتسم ثم قال: "نعم النسيان." وأكمل بعد فترة شرود: "كنت أقول بأن النسيان نقمة. وأتضح أنه ليس كذلك في كل الأحوال. فكما هو نقمة فهو نعمة أيضاً."

اقتربت منه وربتت على كتفه ثم قبلته وضمته إلى صدرها.

D 1 كانون الثاني (يناير) 2008     A جعفر أمان     C 0 تعليقات