عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

جعفر أمان - السعودية

حــديـث الـمـقـبــرة


يحسب عارف نفسه أنه من أفضل بني جنسه. كان يعيش في ملكوته، متحد مع ذاته. هو يعتقد بأنه الأعقل من بين البشر، وهم يعتقدون أنه "مجنون".

ربما كانت علامات الجنون بادية عليه. ذات يوم التحف عارف بإزار ورداء أبيضين، وطاف حول منازل بلدته كهيئة الحاج، الذي يطوف حول بيت الله. عندها منحت له شهادة "الجنون" حتى ممن لا يعرفه، وتسابقت عبارات السخرية من مشاهديه على فعله.

كان دائماً ما ينفرد بنفسه. كان يختار الأماكن الأكثر هدوءا. الأماكن التي يخافها غيره، كالمقبرة مثلاً. كان يشعر بالراحة النفسية وهو يتوسد جدع نخلة في سكون الليل، وأمام ناظريه شواهد القبور، وخلفه مغتسل الموتى.

في إحدى الليالي، أحب شخصٌ من بلدته أن يخيفه، مراهناً على النجاح في مهمته. فاختبأ له في المكان الذي يجد فيه راحته ليلاً، مع من اختارهم الله إلى جواره. وعندما أقبل كعادته، تجوّل بنظره في كل أرجاء المقبرة، واسترجع شريط ذكرياته، حتى غفت عيناه واستسلم للنوم. هنا بدأ ذلك الشخص يصدر أصواتاً مخيفة، يحرك الأشجار، ويقلَب جذوع النخل. لكن شيئاً من ذلك لم يؤثر فيه، وكأنه أحس بأن هذه الأجواء مصطنعة، فلم يعطها الفرصة لتعكير صفو راحته. عندها أيقظه وسأله بانزعاج:

"ألا تخاف؟"

فرد عليه عارف: "مم أخاف؟"

"من الأصوات المخيفة، من سكون الليل، من هذا المكان الموحش، من... من..."

"ولمَ أخاف؟ أنا لا أخاف."

"حسناً. اذهب لبيتك."

"هنا أجد راحتي مع الموتى."

"هم موتى وأنت حي، والحي لابد له أن يعيش مع الأحياء."

"الأموات لا يؤذون، لا يخونون، لا يجرحون. أنت من عليه أن يذهب لمنزله."

"لا، أنا أيضاً لا أخاف." قالها مرتعشاً مضطرباً.

أجابه عارف بثقة وبابتسامة ارتسمت على شفتيه بعد أن لاحظ اضطرابه:

"قلت لك أنا الذي لا أخاف ولست أنت. لا، ليس هذا فقط، بل أنا من يخيف."

لم ينبس ببنت شفة. وأصرّ -بعد أن استجمع ما تبقى من قواه- على البقاء إلى جوار عارف. فما كان من عارف إلا أن قبل التحدي. صمت لبرهة، وسلّم دفة الحوار لـ "ونيس الليل" بصوته المقلق. خيّم السكون على مدفن الموتى. صمت مطبق، لا صوت سوى ونيس الليل، وصفير الرياح. انتهز عارف الفرصة فشق هذا الصمت بصرخة مدوية، أفزعت ذلك الشخص المتطفل. ففر هارباً مرددا بهستيرية:

"مجنون. مجنون. مجنوون. مجنووووون."

D 1 تشرين الثاني (نوفمبر) 2007     A جعفر أمان     C 0 تعليقات