عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

زينب عودة - فلسطين

مـسـافــر


زينب عودةأعلم أنك مسافر. دعني أنظر إلى عينيك من زاوية خريف ممتد. دعني أتذوق جرعات مرارة الفراق واحدة تلو الأخرى، وأرى خريطة عمري بتذكرك. كم مرة عليّ أن أتقبل قرارك بالرحيل؟ وكم عليّ أن التزم الصمت؟ لقد سئمت. أكان قدرا على مشاعري أن تذبح عند محطات القطارات، وعند أبواب الطائرات، وأنت تغرد مزهوا تقطع المسافات هنا وهناك. لأجل من: ما عدت أدري.

واثق، غريب، راحل. حياتي أضحت معك مشوارا طويلا، وتذاكر سفر أعرف بدايتها مع كل واحدة ونهاية لا أدركها. عالم مريب يحتويه عقلك بمسافات لا حدود لها. أيـستهويك البعد ويشدك الهروب؟ أنادي عليك في الطرقات بصوت خافت حزين. أكنت تسمعه؟ لا أصدق أنك تقبل البعد عني أنا، وأنت مني.

حاولت في كل مرة ترحل عني أن أقنع نفسي أنك هنا: أراك، أحس بأنفاسك، وهواك معي، يسري بدمي، وهربت من نفسي وفكري، حاولت أن أمحو ذكرياتي. نعم أعترف أني استسلمت فأنت نصيبي. ولكن أكان نصيبي أن أظل في حالة انتظار بلا نهاية؟ لم سفرك؟ متى تدرك أنك لست صغيرا متهورا تعبث بقدري معك؟ لا أنكر أني أعيش بين الحين والآخر على ذكريات وذكريات باتت تؤرقني، ذكريات تأن بلوعة الحرمان من لمسك وهمسك، من النظر إلى بريق عينيك.

يا معذبي، تعال نسترجع. كنت تحلم وتحلم، كنت تدنو، أتذكر صباح يوم أن وقفت يبرق الحنين من عينيك. ترقص الحروف على شفتيك، يوم طل عيد، واشتاقت النسمات للربيع، يوم قلت وقلت إنك تعشق مكاني وزماني ولا سبيل للبعد بعد احتوائي، ولقائي أعز عليك من نفسك. أتذكر عندما كنت تعزف الحب على أوتار الحنان؟ أتذكر عندما كنت تغازل بحروفك كلمات وكلمات؟ أتذكر يوم سقطت دموعي حين أجهضت برحيلك حلما كان بداخل أحشائي لطفلي الجميل؟ إليك يومها صرخت وقلت لا وألف لا لأي فراق. أتذكر؟ كانت كلها مشاهد صغيرة ضائعة، حافلة بترف الابتسامات، عباراتنا اليومية التي اعتدنا أن تختزل الكثير من ذاتينا، ستذكرها مغتبطا وبالتأكيد دامعا.

يا معذبي، كنت كل حياتي، وروحي وقلبي، تعلمت مبادئ من نبرات صوتك، وحكما سجلتها حتى نطقت بها أوراقي، آه من حبك بدأ يطمس معالمه بدموعي على فراقك.

أتذكر كم اقتربنا سويا من حلم بعيد؟ أكنت فارس أحلامي، أم كنت أنت الراحل؟ أتذكر كم انتزعنا أشواك القسوة من جنباتنا، وجلسنا تحت ضوء القمر نتجاذب كلمات وكلمات وننثر الشعر أبياتا وأبياتا؟ أتذكر كم كنت لا تمهلني لحظة صمت؟ كم كنت رائعاً! يبدو في ضحكتك جنون، وفي صمتك سكون، وفي حديثك جاذبية وخلود. ما غيّرك يا من أحببته؟ ما عدت أدري ما غيرك وبأي قالب تكون. أصبحت بلا عنوان، في زمن يعتريه رونق كذاب ونفاق وخداع، تزهو وتغتر بشكليات صبغت بألوان الآهات.

كنت معك، ما أدري للحظة كيف تكون النسمات، ومتى يأتي الصباح، وما لون أزهار الربيع، وكيف تتساقط أوراق الخريف، ومتى تهاجر الطيور، ومن أي جهة تعصف الرياح، وما مدى الظل وما شكل القمر. اختلطت عندي الفصول وتغيرت كل الأزمنة وكل أيامي. تبعثرت سنوات عمري ما بين الوداع وحسرات اللقاء عند جنبات الطرق وبين شباك صغير يطل على عيون المودعين.

ضقت بحالي. ألم يحن الوقت لتأخذني معك؟ تعبت من الفراق وشاب شعري وذبلت كل زهرات عمري في الانتظار. تتجاذبني كل التناقضات، وحديث النفس يؤرقني: كيف يبدو السمر؟ وكيف يبدو ليل العشاق؟ أين أنت يا حبيبي؟ حياتي معك بحروف من ذهب أصفها ولكن بكل فراق تبقى حروف الوداع. أين أنت؟ أشتاق أن أغفو بين يديك؟

أكتب عليك الترحال هنا وهناك؟ ترى عيون الآخرين، وأنا قابعة في ركن بعيد، وخلجات نفسي تحدثني، ودموع تنساب، وما بين الحزن وإدراك الألم لحظات معدودة. وما بين خيوط الفكر وجنون العقل محطة قصيرة فارغة تضيء بها شموع بليل طويل، تبدو بعذوبة صوتك طفلا صغيرا، وبشيبك رجلا صلبا عنيدا. ويلي منك إن غضبت، وسر سعادتي إن رضيت.

سافرت، رحلت. ما عساك جنيت؟ تركت قلبا. هان عليك كل شيء. لا أدري كيف تفكر، ولا أفسر حروفك، ولا أدري بأي لغة أخاطبك، أنزلت ستار الذكريات وتغيرت، ولبست أثوابا كنت تضيق بشكلها ولونها، وكأنك أصبحت لست أنت.

لمن أبقيت الشموع؟ ما غيّرك؟ إن حدثتني روحي ماذا أقول لها؟ وما أفسر لأشواقي حين تسألني عنك؟ تهمس جارتي عن سر حزني، ومن أضاع حلمي، فإن كان ضعفي جعلك قاسيا فلا معنى لوجودي، وإن كان حبي خطا أخضر لتتمادى بفراق يتلوه فراق فلا أنت حبيبي وما عدت نصيبي. صبرت ولكن ما جنيت فراغا بمساحات صحراء جرداء في منطقة ما على الأرض. وما بين الحيرة والحرمان خطوط بارزة تنسجها الذكريات، وما بين عزة النفس وعذاب الهوى مسافة قصيرة ممزوجة بآهات. استشعر أن صبري أصبح عبئا يخنقني. عبثا كان بكائي وعبثا كان احتمالي.

يا معذبي: نعم، ضحيت بأغلى ما عندي، واحترقت أشواقي، وضاعت سنوات عمري. كان عليّ القرار وليس الفرار. وسأهجر كل ذكرياتك، وأعيش بعيدا. وسأرحل أنا قبل ميعاد سفرك القادم. قد نلتقي سويا عند آخر محطة، محطة ضيقة صغيرة اسمها الفراق، وكلانا مسافر.

D 1 آذار (مارس) 2008     A زينب عودة     C 0 تعليقات