عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

مليكة علاوي - الجزائر

لَكُم عالمُكم ولي عالمي


"لكُم عالمُكُم ولي عالمي". عالمي أتمثله، أسرح فيه خلال ما أتصوره ضِمنه. يبدو لي الأمر هكذا، حتّى وإن أبى عازفا عنّي متمنعا، فإنّي أستمرُّ أطلبه، ويأتيني طوعا. عالمي كلّه ألوان وصُور. لكن لا صوت فيه؛ لا صوت للمياه الجاريّة في صهاريج المنازل المجاورة للبيت الذي يأويني، ولا للعصافير المُحلّقة في سما صديقتي شجرة الليمون وصويحباتها من نعنع الماء وزهْر القرنفل والخزامى وهي ترشق شذاها المُوقّع بسمات على الشّفاه هنا وهناك؛ فلا جريان الماء قد يضطرب في أذني، ولا حركة تحليق الطيور تصل سمعي.

عالمي يعجّ بالصّور والألوان لكائنات شتّى من إنس وحيوان وحشرات وأشياء متنوعة، وكلّها لا تفعل غير شيء واحد هو "رسم البَسَمات". نعم، ترسم ابتسامات. هكذا أراها، وإنْ رآها غيري عبوسا. العصافير وهي تطير حيث بسطت غيومُ السّماء لها راحتها ترسم بسمات، تنبذ بها إلى قطط تردّ عليها بمثلها، وهي تفرّ من مطاردة صبية الحيّ الذين يرمونها بالحجارة، ويُلوحون باسمين لا صارخين ولا ضاجّين.
أمّا عالمكم فصاخِب مظلم، مُوحِش، وقطِب. تلافيفُه تعاريج تصيب بالدّوار، ولا يزدهي بألوان أو صور، كائناته في عبوس دائم ضاغن، تدور على نفسها، ترسل سهام الطّعنات من عيون تتلظّى، وتتضوّر جوعا في بحث مستمر عن رؤوس مُنكّسة لتلفحها. لا براءة فيه للعصافير، ولا ألفة مع قطط الجوار. عالم صبية الحيّ فيه لا يبسِمون، هم دوما في صراخ، يتشاجرون، يتنابزون، يترامون بالحجارة ويتناطحون، وقد تقوّست ظهورهم من فرط ثقل المحافظ، وأحاطت بعيونهم هالات سود؛ لم تعد تبرق بحبور الطّفولة وصفائها.

عالمكم لا زهر حقيقيّ نضِر ينشر عبَقَه فيه، فيحمل ذو النَّفَس على الزّهو، ليفترش أرْيضَ الأمكنة ويحلم. إنّه يبعث في كلّ ذي نَفَس الامتعاضَ، فيتردّى العبوس، ويرشق غيره بألوان من شواظ الشّتم والسّبّ والتّبرّم. السّائق عصبيّ وقبل أن تخرج الطّير من وكناتها، تُلفيه يلتهبُ مكفهِرا، وكأنّما قعد له الشّيطان على طريقه.

الشّابّ الوسيم مزمجِر طولَ الخطّ منكوش الشّعر أو مرسله، فبحسب ما تجري عليه تسريحاتُ أترابه يبدو، لا أناة له أو صبر، وهو يرسل الزّفرات تلو الزّفرات، وغالبا في طابور انتظار الدّور بُغية سحب نقود أو دفع فاتورة غاز أو ماء أو لشراء الخبز أو البيض أو الزّيت أو...، أي بمقتضى الحاجة إلى أن يستفيق كغيره ذات مرّة، وقد تخيّط رأسَه الشّيبُ.

الطّوابير لا تنتهي، وحتّى لدن الطّبيب سواء عند الفحص أو للحصول على موعد، فالمريض الحصيف يدرك أنّ يومه من بدايته "يوم لا بدّ أن ينقضي في العيادة، فيقتعد كرسيّا ويتسلّى بأدواء من يلقاهم. يسأل هذا وذاك، أو يلعب دور النّصيح بأدويّة جرّبها غيره أو وُصِفَت له، أو يتابع فيلما على "اليوتيوب" أو يُجري اتّصالات مع من يتذكره، أو يقضي وقته يتفرس في القاعد والواقف، والدّاخل والخارج. وقد يعدُّ حتّى كراسي المكان ومربعات البلاط، وما فيه من أثاث. يتفحّص كلّ شيء. والطّبيب ماهر في إطالة عمر الفحص، فيخرج المريض بعد مدّة من عنده مسلوب الرّاتب ، مدينا، ومأخوذا، إذ عليه وعليه من إجراء تحاليل وتصاوير بالأشعّة أو...

عالمكم لا يأمن أحد منه أحدا، عالم كلّه بتر، سلب، ضجّة، وجعجعة بلا طحْن؛ لا تَفْرُقُ الثَّلّةُ فيه عن الثُّلَّةِ، فكيف لعالمي أنْ ينشرح لعالمكم، ويبسط أحلامه على نطْع عالمكم أو يتركها مداس كلّ عابر سبيل اتّخذ عالمكم وطنا؟ فلي عالمي؛ إليكم عنه. ولكم عالمُكم، عليكم به، فالزموه.

عالمُكُم ينشُبُ أظفاره في كلّ حيّ قد يَبسُمُ، لا أمان فيه، يقتلع الطمأنينة من بين جوانحه؛ لا الصَّديق يصدُق في صداقته، فهو على الدّوام وَجِل مِمّن يُصادقه، حَذِر وسيءُ الظّنّ. ولا الابن يرفُقُ بأبيه الشّيخ علّة وجوده، ولا هذا الأب الشّيخ كذلك بقادر على الخروج من دائرة ما نشأ عليه، واستيعاب أنّ ابنه هو غيرُه، وإنْ خرج من صُلبِه، فلا ينبغي أن يكون نسخة أو ظلاّ يبسط خلاله جناحه بين النّاس أي تَعِلَّتَه دوما.

أمّا الأم أو الابنة أو المرأة وئيدةُ عالمكم، وحسب اللّغة أن تواريها في ثوب المجاز، فلا تزال في "استشهاد طويل"، ليستمرُ تاريخها ركام وجع لا ينتهي، فرجاء: عليكم عالمَكم.

D 1 حزيران (يونيو) 2023     A مليكة علاوي     C 0 تعليقات