عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

زينب خليل عودة - فلسطين

سرايا غزة: المعتقل-المتحف


السرايا في غزة: متحف تاريخي وطني

ملاحظة: جميع الصور المستخدمة مع هذا الموضوع من تصوير الكاتبة

زينب عودةيراودني وأنا أتناول هذا الموضوع شعور من يمسك قلماً ظاهره اللون الأسود وباطنه حبر بلون الدم. قد تنطقُ زنازين العزل الانفرادي الخرساء، وغرف السجون والأسرة، وأدوات الجلد والتعذيب بما كان يمارس في السجن أو أثناء التحقيق. هذا السجن المعروف في غزة باسم (السرايا) الواقع في شارع عمر المختار، يروي في جزء كبير منه حكاية أيوب: الشعب الفلسطيني المشرَّد.

تقرر في الآونة الأخيرة تحويل هذه "السرايا" إلى متحف وطني يجسد نضالات وتضحيات وتاريخ الحركة الوطنية في غزة؛ أسيرة التاريخ ، ويستعرض ما كان يجري في داخله من المعاناة والتعذيب.

افتتحت جمعية “واعد” للأسرى والمحررين هذا "المعتقل التراثي"، على أرض السرايا، حيثما كان السجن المركزي في غزة، ليحاكي في الشكل والمضمون أمكان الاعتقال داخل سجون الاحتلال.

افتتاح السجن في وسط مدينة غزة، كان حدثا بارزاً من حيث الزمان والمكان والظروف المحيطة، إذ افتتح في الحادي عشر من نيسان/إبريل 2013، ضمن فعاليات سنوية خاصة بالأسرى، ليتم تسليط الضوء على قضية ترتبط بنحو خمسة آلاف أسيرة وأسير، يقبعون في سجون الاحتلال.

أما المكان ففي غزة المحاصرة، التي تبدو في ظاهرها كأن الاحتلال قد انسحب منها. لكن الحقيقة تؤكد أن العدو ما انفك يكبِّلُها ويحاصر مواردها، ويتحكم في سمائها وفي بحرها وبرها.

"متحف" السرايا نسخة طبق الأصل عن السجن السابق للاحتلال الإسرائيلي.

حينما تصل إلى أبوابه ترى منصة مرتفعة يرفرف عليها علم الاحتلال، وما إن تدخل حتى ترى عدة خيم منصوبة وأمامها مبنى مكتوب عليه ما يشير إلى أنه المعتقل.

تدخل فتجتاحك موجة من الحزن الشديد، وأنتَ ترى في المعتقل صوراً جدارية لزعماء مشهورين في الفصائل الفلسطينية، احتجزوا ذات يوم هنا في هذا السجن، ولافتة من الجلد تحمل أسماء اثني عشر محتجزا، قضوا نحبهم في هذا السجن، أو "المسلخ"، كما كانوا يصفونه (شاهد الصورة رقم 1).

مركز وسجن منذ الثلاثينيات

سجن غزة المركزي، السرايا، كان أشهر سجون الاحتلال الإسرائيلي، وكان في بداية الثلاثينيات من القرن الماضي يقع في إطار مقر القيادة العسكرية البريطانية، التي كانت تمثل آنذاك الانتداب الإنكليزي على فلسطين ، فحولت جزءاً من المبنى إلى سجن مركزي للثوار الفلسطينيين.

بعد نكبة عام 1948 وضع قطاع غزة تحت وصاية الإدارة المصرية، واستخدم هذا المقر كمجمع للدوائر الحكومية، وخصص جزء منه ليكون سجناً للقاطنين في هذا القطاع.

وبعد هزيمة حزيران/يونيو عام1967 استخدمته دولة الاحتلال الصهيوني كسجن ومركز يتم فيه التحقيق مع الفدائيين والمنتمين لفصائل الثورة الفلسطينية.

أُغلق سجن غزة المركزي مع عودة السلطة الوطنية إلى قطاع غزة عام 1994، حيث تحرر عدد كبير من السجناء على خلفية اتفاق تمَّ آنذاك، وجرى ترحيل عدد آخر إلى السجون الواقعة داخل دولة الاحتلال.

وُدمر كثير من الزنازين وغرف الاستجواب الخرسانية في السرايا على مر السنين، بفعل الهجمات الجوية الإسرائيلية خلال عدوانها المتكرر على قطاع غزة (شاهد الصورة رقم 2).

وصف للسجن/المتحف

كنت بين المدعوين للاطلاع على داخل السجن، حيث تجولت ما بين الخيم المنصوبة في المكان. تنتقل بخطواتك لترى يافطة الإعلان عن "المعتقل"، فتشعر وكأنك في نفق وغرف صغيرة مظلمة، تشير مساحتها في الطول والعرض إلى قسوة السجن وظلم السجان.

تشعر بضيق يطبق على صدرك في أركان وجنبات هذه الغرف المقيتة الموحشة، تنظر إليها لتسترجع في الذاكرة، ذلك التاريخ اللئيم وما كنا نقرأ من أخبار الحبس وتعذيب المقاومين، من شباب وشابات فلسطين على أيدي ضباط الاحتلال (شاهد الصورة رقم 3).

تذكير بتجربة قاسية

قام المشرفون سوم الافتتاح بعرض بانوراما يحاكي ما كانت عليه الأوضاع داخل السجن، ومكان اعتقال قادة حركة حماس كالشيخ أحمد ياسين، والرنتيسي، والمقادمة، وغيرهم من المناضلين الفلسطينيين، وكيف كان يتم ابتكار أساليب الإرهاب والاستجواب والتعذيب.

بكى بعض الزوار ممن عادت بهم الذاكرة إلى الوراء، وعايشوا المكان ومكثوا فيه شهورا أو سنوات طويلة في زنازين معزولة، حيث نزفت دماؤهم في ذلك المسلخ الرهيب.

يقول الفلسطينيون إن 800 ألف فلسطيني تعرضوا للاعتقال بموجب أوامر عسكرية إسرائيلية منذ حرب عام 1967.

المحررة السبعينية إنعام حجازي قالت في كلمة عن المحررات خلال وقفة لهن أمام السرايا:

"كنا نقول عن أنفسنا حينما اعتقلنا في سجن غزة العسكري أننا منسيات، لكننا نقول الآن لا، لأن التاريخ بدأ حينما كنا أول من سطر تجربة النضال والأسر".

وأضاف: "ذقنا في سجن غزة ألواناً من العذاب، وخرجت كل واحدة منا لتصبح الأسيرة والشهيدة وأم الأسير وأم الشهيد والمرابط دفاعًا عن وطننا" (شاهد الصورتين 4 و 5).

فاطمة الحلبي تتذكر

أما المحررة فاطمة عمر الحلبي، 67 عاما، فحكت قصة أسرها هي ووالدها، حينما كانت مطاردة من قبل الاحتلال الإسرائيلي. قالت:

"اعتقلوني أنا ووالدي في قضية واحدة بعد استشهاد شقيقي أحمد الحلبي. كانوا يراقبون بيتي لأني كنت متخفية ومطاردة، ولهذا أخذوا والدي رهينة وسجنوه إلى حين اعتقالي".

وأضافت: "حينما اعتقلوني وضعوني في زنزانة من زجاج، وطلبوا مني أن أستدير في كل اتجاه ثم أمسك أحد السجانين بشعري ولفه على يده وأخذ يشدني بقوة ويقول لي: عاملة نفسك بطلة، ثم أدخلوني عند والدي فرأيته غارقاً في بركة من الدماء من شدة ما ناله من الرفس والضرب والتعذيب. إلا أنه كان صلباً وأوصاني بألا أعترف أو أخبرهم بما أعلم، ولكن سرعان ما فقدت وعيي حينما رأيته على حاله، فسكبوا علي كثيرا من الماء حتى أفقت لأجد نفسي مغطاة ببطانية، وعارية إلا من ملابسي الداخلية.

وتستعيد فاطمة في ذاكرتها حين وضعوها في زنزانة انفرادية لثلاثة أيام، حيث كانت تسمع أصوات الصراخ على مدار الساعات لأسرى يتم تعذيبهم وتكسير عظامهم. مات أحدهم فجروه كالمتاع التالف وألقوه في الخارج.

تم نقلها بعد أيام إلى ما كان يسمى بالمسلخ في الطابق الثاني من المعتقل، وهناك تقول "رأيت أسرى مشبوحين بعلاقات كالتي تستخدم للحيوانات حينما تذبح، وجميعهم عراة من الملابس يسكبون عليهم براميل المياه".

وتضيف: "في التحقيق لجأوا إلى كل أساليب الضغط في الترهيب والترغيب لانتزاع اعترافاتي، وادعوا أنهم يعرفون عني كل شيء، وحينما لم أستجب، أتى ضابط وصار يطفئ سجائره على جسدي. تحاملت كثيراً على نفسي وآلامي فلم يسمع مني كلمة استغاثة، وقلت له ما عساي أقول ما دمت لا أعرف شيئاً؟ (شاهد الصورة رقم 6).

"متحف" السرايا بغزة جدير باهتمام أحرار العالم والكتاب والمثقفين والمصورين والصحفيين ووسائل الإعلام لنقل الحقيقة إلى العالم وكسر الحصار المفروض على غزة.

الصور المرافقة للنص. اضغط بالمؤشر على الصورة لمشاهدتها بحجم أكبر.

ملاحظة: جميع الصور المستخدمة مع هذا الموضوع من تصوير زينب عودة، وهي مصورة محترفة. انظر/ي العدد — من مجلة "عود الند" الثقافية.

JPEG - 49.9 كيليبايت
سرايا غزة: المعتقل/المتحف
الصورة رقم 1
JPEG - 40.2 كيليبايت
سرايا غزة: المعتقل/المتحف
الصورة رقم 2
JPEG - 31.4 كيليبايت
سرايا غزة: المعتقل/المتحف
الصورة رقم 3
JPEG - 29.7 كيليبايت
سرايا غزة: المعتقل/المتحف
الصورة رقم 4
JPEG - 41.8 كيليبايت
سرايا غزة: المعتقل/المتحف
الصورة رقم 5
JPEG - 54.9 كيليبايت
سرايا غزة: المعتقل/المتحف
الصورة رقم 6
JPEG - 49.9 كيليبايت
سرايا غزة: المعتقل/المتحف
الصورة رقم 1
JPEG - 40.2 كيليبايت
سرايا غزة: المعتقل/المتحف
الصورة رقم 2
JPEG - 31.4 كيليبايت
سرايا غزة: المعتقل/المتحف
الصورة رقم 3
JPEG - 29.7 كيليبايت
سرايا غزة: المعتقل/المتحف
الصورة رقم 4
JPEG - 41.8 كيليبايت
سرايا غزة: المعتقل/المتحف
الصورة رقم 5
JPEG - 54.9 كيليبايت
سرايا غزة: المعتقل/المتحف
الصورة رقم 6
D 30 نيسان (أبريل) 2013     A زينب عودة     C 4 تعليقات

4 مشاركة منتدى

  • شيء فظيع ماحصل، والأفظع أن هذه المآسي مازالت مستمرة في فلسطين وغيرها من البلاد المنكوبة
    لا أحد يمكنه تخيل حجم الشر الموجود في النفوس المريضة لترتكب كل هذه الجرائم بمختلف الذرائع.
    شكرا لك أستاذة زينب
    يجب أن يظل الجرح مفتوحا والألم مستمرا لنستيقظ.

    تحيتي ومحبتي


  • خصَّصّتْ دار البلدية في المدينة إحدى قاعاتها، للاحتفال بزواج العروسين. زيَّنتِ المدخلَ والقاعة بالكثير من الأزهار، وقدَّمت للمدعويين قالبا كبيرا من الحلوى، نصفُه الأعلى يمثلُ خريطة بلاد "رِيْمَا" العروس، والنصف الآخر على شكل حذاء طويل الساق يمثلُ بلاد "مَاوْرُوْ" العريس. والشابة العروس اختارتْ من بين الحضور مواطنا من بلادها، ينقل بلغتها ما يتلوه القاضي، وما ينبغي أن تعرفه عن قانون البلاد في عقد القران.. ثم يشهد على صحة الزواج.
    عندما ألقى العريس يده اليمنى على معصم الفتاة يساعدها على قطع قالب الحلوى، تدخل الشاهد من بعيد..؟ وتوسل إلى العريس أن يرفعَ السكين لكي لا يدمي بلاد الفتاة..؟ فقد نالتْ ما يكفيها من الجراح.. والعروسُ الحلبيَّة غصَّتْ في فرحها بالبكاء، وتردَّدَ في القاعة أصداءَ التصفيقِ لها من كل مكان.
    فلتُطعموا غزة وتسعفوها وتحيِّدوا عنها الحصار، ولتترفقوا بأحوال العراق، ولترفعوا السكين عن رقبة سوريا، ولتصفقوا طويلا..أليس هو الوهن العربي عينه في كل الأقطار..!؟


  • كانت فلسطين ولا تزال تعطينا أكثر مما نعطيها. هذه القضية التي تلفنا حولها فنلتحم ونتوحد بها، فتجعلنا نخرج من العزلة والإنطوائية على أنفسنا، والتمحور حول ذواتنا وأوطاننا، هي فلسطين من ستحررنا أولا لنحررها، وإن لم يكن عاجلا فآجلا.


  • أليس غريبا ومريبا كل ما يجري في فلسطين، في القدس وغزة وفي أكثر من قطر عربي؟ ألم يأتِ بعد زمن الصحوة العربية وينهض من قبره صلاح الدين؟


في العدد نفسه

عن مبدع الغلاف

كلمة العدد 83: "عود الند" تكمل سنتها السابعة

كتابة التاريخ من منظور نسوي

كيف نقرأ مرجعا أدبيا؟

الأدب المقارن: النشأة والتطور