عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

ياسمينة صالح - الجزائر

عندما لا يموت الوطن واقفا


عندما كنت صغيرة، كان الناس يرددون (في المواقف الصعبة خصوصا) عبارة "موت واقف" والتي تحمل نبرة الأمر أكثر من نبرة التمني. كلما اشتكى شخص صعوبة الحياة لصديقه أو جاره يقول له: "عليك أن تموت واقفا." وكنت أستغرب استسهال الناس لتلك العبارة وللموت نفسه. وقتها لم يكن يعني لي الموت وقوفا أكثر من كونه الموت وكفى بحيث لا فرق قبالة جنازة ما أن نسأل هل مات الميت واقفا أم جالسا؟

مع الوقت اكتشفت أن العبارة مأخوذة من مشهد ثوري، ليس بالضرورة فيلم، بل حدث ثوري كان ثوار التحرير يرددونه كلما وقعوا في أسر المستعمر في الخمسينات من القرن الماضي. أبي نفسه كان يرددها، وقد اعتقل وقتها كمجاهد في صفوف جبهة التحرير الجزائرية، وبعد الاستقلال ظل يرددها لمن يحتاج إلى أمل الحياة بالموت وقوفا. وبعده ظل يرددها جيله الذي بقي على قيد الحياة أمام جيل ولد ميتا.

اكتشف مع مرور الوقت أن الكلمات تذوب كما الملح، وأن المعاني عندما تطير في السماء تؤسس لدلالات متناقضة ومبهمة، ولهذا لم تعد تقال الكلمات الكبيرة وقت الحاجة أو وقت اللزوم، صارت تعبيرا عن مناسبة فقدت الكثير من حرارتها، ولم تعد تعني شيئا.

* * *

أتذكر جيدا تلك الصائفة الحارة التي قررت فيها أن أذهب إلى وسط المدينة بعد أشهر من "حظر التجول" فرضته على تحركاتي بسبب الوضع الأمني. فأن تكون جزائريا معناه أن تتعلم كيف ومتى تحظر خطواتك وأفكارك قبالة حواجز التفتيش الحقيقية والمزورة، وأن تعرف بينهما كيف تخفي وظيفتك واسمك الحقيقي وأحلامك البسيطة لتكون مجرد كائن لا معنى له، لتعيش ما تبقى لك أن تعيشه دون رغبة في الظهور.

كنت مع صديقة قررت بدورها أن "تطلّق" عزلتها وتخرج إلى النور بعد أسابيع من الرعب اليومي ومن الاغتيالات التي طالت زملاء مثقفين وصحافيين كنا نعرفهم بالاسم أكثر ما عرفناهم شخصيا.

كنت أتحسس رعب صديقتي ونحن نتمشى في شارع "أودان" شبه خال من المارة، في مدينة فقدت قدرتها على الضجيج وعلى الحياة معا، ومثلها كنت أتحسس أطراف أفكاري المتداخلة في رأسي عندما رأينا ثلاثة شباب يركضون ليس بعيدا عنا واكتشفت متأخرة أن رابعهم كان على متن سيارة يمارس انتظار تعود عليه.

بدا المشهد أشبه بفيلم أشاهده على عجل، فخيل إلي أنني احلم، وأن الحلم لا يعدو كونه كابوس من الكوابيس الجزائرية المنتظمة بامتياز. سمعنا أحد الشباب الثلاثة وقد فقد أعصابه، يتلفظ بكلمات سريعة وغير مهذبة، ثم نظر إلى المارة الذين مثلي توقفوا عن الحركة كي لا يثيروا انتباه الشباب. رأينا الرجل الضحية وهو يسقط على ركبتيه بعد أن انهال الشباب عليه ضربا، بصقوا عليه وأفرغ أحدهم مسدسه في رأسه وركضوا جميعهم بنفس الحركة نحو السيارة التي لم يطفئ سائقها محركها وانطلقوا بعيدا.

كان المشهد مريعا وأنا أرى لأول مرة جثة رجل لا أعرف اسمه ولا تهمته، لكني تخيلت حجم اللحظة التي اعترته مثلما تخيلت شكل الفكرة الأخيرة التي عبرته قبل السقوط. رجل في الأربعين، عرفت فيما بعد انه ضابط شرطة، شوه الرصاص وجهه وظل الدم ينزف من ثقوب الرصاص في وجهه.

شعرت بصديقتي وقد بدأت تفقد توازنها قاب قوسين من السقوط مغشيا عليها. لم أقل شيئا، ولا هي قالت، ولا أحد قال، ولا الشرطة التي وصلت متأخرة نصف ساعة قالت شيئا، ولا المارة الذين تابعوا سيرهم مهرولين في كل اتجاه تاركين رجلا لم يعطه القتلة فرصة الموت واقفا.

وتكرر ذلك المشهد فيما بعد. كلما سمعت رصاصة واحدة عرفت أنها أصابت شخصا كان يمشي في شارع شبه خال، تاركة إياه على الأرض ينزف حتى الموت. فكيف ما زال يردد الجزائريون عبارة "موت واقف" (بضم الميم وكسر التاء)؟ ألم يقتل الموت كل شيء بما في ذلك قدرتنا على الوقوف؟ فكيف يمكن أن نموت ثانية وقد قتلنا منذ ست وأربعين سنة؟ سؤال أطرحه على صاحب المسرحية الجزائرية": "مُوت واقف"!

D 1 تشرين الأول (أكتوبر) 2008     A ياسمينة صالح     C 0 تعليقات