عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

محمد عبد الوارث - مصر

الدائــــرة الضيقـــــة


محمد عبد الوارثتعالى صوت المؤذن القوي: الله اكبر الله اكبر.

هذه هي المرة الأولى التي أصلي فيها صلاة الجمعة وأنا جالس؛ أتمثل أبي بسنواته الأربع والثمانين واقفا يصلي أمامي في هذا المسجد. حزنت لأنني وأنا لم أبلغ حتى الخمسين من عمري أجلس بفعل مرض خشونة الركبة في مقعد أبيض بلاستيكي مجاورا شيوخا تراوحت أعمارهم بين السبعين والثمانين. تراصوا في صفوف وارتسمت على محياهم ملامح الهدوء والسكينة.

العرق يقطر من رأسي وأنا مطأطئ استشعر اللحظة، هائلة لا قبل لي بقبولها وأعتبرها غير قابلة للتنفيذ. لكن الحقيقة قائمة بالفعل، قائمة تعلن أنني في هذه اللحظة أجلس لأصلي في نهاية المسجد ضمن عدة صفوف من مقاعد بلاستيكية، تراصت حتى يؤدي هؤلاء الذين أذن الله لهم بالصلاة وهم على هذه الحال. وربما أظل أنا على هذه الحال، أتذكر عندما كنت أشتري الأحذية الجميلة والجيدة ذات اللونين الأسود أو النبيذي؛ المصنوعة من الجلود الطبيعية، اشتريها من محل "الحذاء الذهبي" الشهير بمحطة الرمل. والذي كان مشهورا ببيعه لهذا النوع من الأحذية.

الحذاء أثناء سيري يصدر صوتا مميزا يعطي إحساسا بالثقة بدقاته المتتابعة في إيقاع منظم. يمنحني دائما إحساسا بالغبطة والزهو. ما زال العرق ينساب على وجهي وأصابعي لم تستطع أن تمسح الكثير بعد أن صارت مبتلة بهذه القطرات العرقية. وأنا جالس في هذا الركن الذي خلا من مراوح السقف، حرصا على صحة هؤلاء الكبار المتراصين.

تأملت موقعي الأثير إلى نفسي في المسجد والذي طالما أديت الصلاة في محيطه. منذ أنشىء مسجد نور الإسلام عام ألف وتسعمائة وسبعين بحي كامب شيزار والإمام هو الشيخ صالح، ذلك الرجل التربوي الذي يٌدَرِّس اللغة العربية والذي كثيرا ما أعطانا بعضا من علومها في سياق خطبته. لكن أهم ما كان يميزه وكان سببا وجيهاً في انجذابي إلى أسلوبه وطريقته في الإمامة والدعوة هو صوته. الشيخ صالح رخيم الصوت، حنون؛ صوته فيه دِعة وطمأنينة جاذبة تجعلك تأني إليه وتستكين.

يلقي خطبته وموعظته في لطف مؤثر دونما حاجة إلى زعيق أو صراخ. لاسيما وأننا نحن المصلين جالسون في سكون ولسنا متأهبين لحرب أو قتال؟ وليس مطلوبا من الشيخ –في هذا الزمن– أن يجعلنا نخرج بعد الصلاة في المسجد لنحمل السيوف أو الرماح تأهبا لحرب أو قتال. طريقته الهادئة الناعمة؛ تشعرنا به كمدرس يلقي على مسامع طلابه درسا في الدين أو اللغة، مستخدما لغة عربية سليمة غير معقدة التركيب.

الشيخ صالح كان يتألق في شهر رمضان، حتى أن أختي كانتا تتفقان مع جيرانهما في الحي على الالتقاء في صلاة التراويح إبان حقبة السبعينيات الزاهرة – لدرجة أن بنات عماتي كن يأتين من القاهرة إلى الإسكندرية في شهر رمضان خصيصا ليلحقن بصلاة التراويح خلف الشيخ صالح والتي كانت تتحول إلى زاد روحي مفعم برناته العميقة الدافئة وكأن الجميع قد تعلق باحبال صوته الجميل من على هذا البعد البعيد.

العرق بدأ يجف قليلا على وجهي بعد أن أديت ركعتي تحية المسجد. انتظرت صعود الإمام على المنبر، وكان من عادتي أن أراقب ساعة الحائط عند بدء الخطبة وعند نهايتها، محصيا في غبر تعمد تلك المدة التي يستغرقها الشيخ صالح في خطبته؛ وكانت المدة في كل مرة لا تزيد عن عشرين دقيقة، وأحيانا قلائل قد تبلغ خمس دقائق على الأكثر. ألقى الشيخ السلام على المصلين؛ وقام المؤذن قوي الصوت ليؤذن.

بدأ الشيخ خطبته بعبارات الحمد لله وأثنى عليه سبحانه وتعالى وصلى وسلم على الرسول صلوات الله عليه؛ منهيا إستهلاله بقوله المعتاد من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فلا هادي له، أيها الأخوة المؤمنون، اليوم أحدثكم عن الحقيقة المطلقة التي أخبرنا بها النبي صلوات الله عليه وتسليماته إذ قال:

(الناس في غفلة فإذا ماتوا انتبهوا! إذا مات ابن آدم قامت قيامته. جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسأله: متى الساعة؟ قال صلى الله عليه وسلم: وماذا أعددت لها؟ هل أعددت لها ذنوبا؟ هل أعددت لها معاصي؟ هل عندك ما يخزيك في وقوفك أمام ربك؟ وأنت وحيد عار. لا مال ولاولد ولا سلطان ولا حسب ولا نسب).

صوت الشيخ الخريري فيه عذوبة كأنه يقول كلاما مغنى، وجَرسْ صوته كأنه قادم من سموات علا: كأن ملائكة حطت على لسان الشيخ وألقت الكلام سلسالا هادئا فتترنم الخطبة ويترنم السامعون ويترنم المسجد المحوطة سقوفه وجدرانه بآيات الله المذهبة.

فجأة! تأوه شخص في الأمام. نقلت نظري المعلق بفم الشيخ، إلى الصفوف الأولى للمصلين، رأيت شابا يافعا ثلاثيني العمر، أبيض اللون؛ حليق الوجه، يرتدي جلبابا ابيض، ناعم الشعر أسوده. يقف حائرا كأنه في وسط دائرة لا يجد فيها مخرجا؛ رفع يديه كأنه يتساءل أو يبحث عن مخرج. يدور حول نفسه في حيرة بدا واضحا للمصلين كأنما هذا الشاب قد حبس في مكانه ويداه ما زالتا مرفوعتين كأنما هو يرفع حملاً خفياً على كاهله.

لمحه الشيخ فأشار بلطف لمن يجاوره أن يذهب به إلى آخر المسجد حيث غرفة الإمام. فى هذه اللحظة حول الشاب ذراعيه المرفوعين ليصفع وجهه بقوة؛ فقام أحد الرجال ليطوقه برفق؛ فصفع نفسه مرة ثانية وثالثة ورابعة. فما كان من الرجل إلا أن احتضن الشاب بقوة تحول بينه وما يفعل.

(لاحول ولا قوة إلا بالله) وجدت نفسي اردد هذه الكلمة لعلها تلطف من هول ما يحدث أمامي. علت همهمات أخرى من الجالسين بجواري والحائر التائه الذي يبدو مذهولا من شىء لا أحد من المحيطين به يدري سره.

أخذني هذا الشاب في حيرة وظل فكري للحظات يعثر على ما هو فيه وإن كان رأسي الغارق في العرق قد تجاذبته هذه اللحظات، فهذا الشاب فيه سمات أعرفها من شخص ما، هل هو يشبهني؟ هو أبيض اللون وأنا أسمر. هو ناعم الشعر وأنا أجعده. ربما هذه الشامة التي تعلو خده الأيسر؛ نعم فأنا لي شامة مثلها وربما كنت في الزمن القديم شابا ابيض، ناعم الشعر.

نبهني صوت الشيخ الهديلي وهو يقول: "قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله". لم استطع القيام وكذلك الجالس بجواري والذي أمامي. لكن الحاضرين الذين ملأوا المسجد قاموا، تراصوا، وساووا الصفوف. فيما أنا جالس تنساب قطرات العرق من رأسي،
كأن مطراً ما يغسل نفسي.

D 27 كانون الأول (ديسمبر) 2011     A محمد عبد الوارث     C 5 تعليقات

3 مشاركة منتدى

في العدد نفسه

تهنئة بالعام الجديد

عن مبدعة الغلاف

كلمة العدد 67: هارد لك (*) يا شباب

لا وقت للحلم هنا

الإبداع والحقيقة في الأدب الكولونيالي