عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

مرام أمان الله - فلسطين

الاستعمار وتخلُّق الهويات


مرام أمان اللهلأن الهوية تتشكل أساساً بتعريف "الأنا" في مرآة التضاد مع "الآخر"، فإنه لا يمكن فهم تطور صياغة الهوية من دون الانخراط في فهم علاقتها مع الآخر. يساهم الاستعمار في تشكل الهوية القومية من خلال المؤسستين العسكرية والقانونية، اللتين تشكلان الإطار الوطني العام، الذي تترعرع فيه الهوية الوليدة. إن إنتاج الثقافة والهوية الوطنية اللصيقة بالسياق الاستعماري، صارت وكأنها تمثل العمق التاريخي، والتراثي للبلد والشعب.

وهذا النمط في توليد هويات وطنية مستحدثة، كان ومازال سائداً في البلدان التي كانت مستعمرة في آسيا وإفريقيا. فالمؤسسات الاستعمارية الإدارية التي أنشئت لإدارة تلك الدول، ظلت على أشكالها الأساسية "بعد الاستعمار" ومغادرة الإدارة الكولونيالية، وإحلال إدارة "وطنية" مكانها[1]

تتفرد الحالة في فلسطين دائماً، إذ تعطيها تجربتها التاريخية من الخصوصية ما يجعلها دائمة الاختلاف، برزت مقولات درَّاج في أواخر ثمانينيات القرن العشرين لتؤسس لاتجاه ثقافي في التأصيل لوجود هوية وطنية فلسطينية عبر خطاب يطرح المنجز الثقافي الفلسطيني، كما تعرضه وثائق فكرية وأدبية، كقرينة تاريخية على وعي الفلسطينيين بأنفسهم كجماعة قومية حتى قبل تبلور المشروع الصهيوني عيانياً على أرض فلسطين[2].

وهذا يثبت أن الشرط الاستعماري يصنع الهوية ولا يخلقها. إن الحكاية الفلسطينية هي صنيعة الحركة الوطنية الفلسطينية، في ظل القانون الذي ينظم تشكُّل القوميات الحديثة. وقد تأثرت هذه الحكاية بالسياق العام لتخلُّق القوميات في أوروبا، وما رافقه من مواقف في القرن التاسع عشر تجاه غير الأوروبيين، وخاصة اليهود والعرب.

وبما أن الهوية الوطنية بحاجة إلى تحويل القصة الشفاهية لجماعة معينة إلى حكاية تاريخية مكتوبة ورأسمال طباعي تمتلكه الحركة الوطنية، فقد خضع تشكيل الهوية الوطنية الفلسطينية لهذا القانون عبر تشكيل عَلماني لمكوِّناتها الثلاثة الكبرى (الأرض، والناس، والحكاية التاريخية)، وقامت عليه المؤسسة السياسية المتمثلة في منظمة التحرير الفلسطينية، وصارت هي مناط الحكاية في مسار تحوُّلها من حدِّ "الوجود" إلى حدِّ "الفعل[3].

يقول درّاج، أن ثقافة الضحية الفلسطينية تشتق من ثقافة الجلاد الصهيوني[4]، ذلك أن الحكاية الفلسطينية ارتبطت سياسياً، لا وجودياً، بتشكُّل هوية نقيضة، هي الهوية الإسرائيلية التي قامت على إنجازها الحركة الصهيونية، والتي وسمها إيلان بابيه بأنها "أنجح حركة قومية في التاريخ، لأنها وجدت لتخلق شعباً واحداً، فإذا بها تخلق شعبين!"[5]. الفلسطينيين، حيث كانت فتنة المنتصر ما يحمل المنهزم على المحاكاة والتقليد، ليتحول رد الفعل إلى فعل تقمصي لدى الفلسطينيين. حيث انتقد كثيرون الخطيئة التي وقع بها الفلسطينيون عندما مارسوا النزعة التقمصية التي تدفع المهزوم لتقليد المنتصر.

لكن درّاج يرى في ذلك أكبر من خطيئة، إذ يعبر عن تقمص المغلوب لدور الغالب بأنه خلق، إذ يحول المغلوب الغالب إلى خالق خارق. يقول درَّاج: "إن الصهيونيةَ، وقد فرضت الاقتلاع والقتالَ والموتَ والأملَ، تبدو إلهاً ثانياً للإنسان الفلسطيني. تحددُ حركتَه، وتعطيه أسماء كثيرة. فإذا كان الخلق هو التسمية، والخالق من يُعطِي المخلوقَ اسمَهُ، فإن الصهيونيَ خلق الفلسطيني أكثرَ من مرةٍ: خلقَهُ مرةً وهو يعطيه اسم اللاجئ و"عرب إسرائيل"، وخلَقَهُ وهو يسميه المخرب والإرهابي وعدو السلام".[6]

ولا شك أن القانون العام الذي انطبق على الحالة الفلسطينية ينطبق، كذلك، على الحالة الإسرائيلية، على الرغم من الفارق الجوهري بين تشكُّل الحركة الصهيونية كحركة قومية استيطانية مرتبطة بمشروع استعماري ممركز أوروبياً، وكون الحركة الوطنية الفلسطينية حركة تحرر وطني أصلانية مناوئة لها[7]. وقد تكون فكرة تحويل "الفكرة" إلى "وجود" هي حقيقة إثبات الهوية، أو حتى القدرة على خلقها.

يقول عبد الرحيم الشيخ أن الحركة الصهيونية نجحت في تحويل فكرتها إلى وجود فعلي من خلال إقامة الدولة وإنهاء المنفى، بينما فشلت الحركة الوطنية الفلسطينية في تحويل وجود الشعب الفلسطيني (وإنهاء شتاته) إلى فكرة، أي إلى حبكة تاريخية قادرة على دخول التسجيل التاريخي العالمي الذي صكته الحداثة الممركزة أوروبياً. واستطاعت الفكرة الصهيونية أن تتحول إلى وجود، ولم يستطع الوجود الفلسطيني أن يؤسس فكرته، فانتصرت "الفكرة الصهيونية" على "الوجود الفلسطيني".[8].

فهل للوجود أن يعود؟

= = =

الهوامش

[1] مسعد، جوزيف. القومية العربية. (كولومبيا: جامعة كولومبيا، 2001) ص18

[2] الشيخ، عبد الرحيم. "جذل السادة، وجدل العبيد: مقاربات نقدية في "بؤس الثقافة" و"ذاكرة المغلوبين. الأيام. (2005)

[3] الشيخ، عبد الرحيم. "الحكاية الجامعة وصهينة الخطاب". فلسطين. ع11. (2011)

[4] درّاج، فيصل. ذاكرة المغلوبين: الهزيمة والصهيونية في الخطاب الثقافي الفلسطيني. (بيروت: دار الآداب، 2002). ص 36

[5] الشيخ، عبد الرحيم. "الحكاية الجامعة وصهينة الخطاب". فلسطين. (2011)

[6] الشيخ، عبد الرحيم. "جذل السادة، وجدل العبيد: مقاربات نقدية في "بؤس الثقافة" و"ذاكرة المغلوبين. الأيام. (2005)

[7] الشيخ، عبد الرحيم. "الحكاية الجامعة وصهينة الخطاب". فلسطين. ع11. (2011)

[8] المصدر السابق.

D 27 كانون الأول (ديسمبر) 2011     A مرام أمان الله     C 2 تعليقات

1 مشاركة منتدى

  • إستمتعت بقراءة المقال رغم قصره. فهذا موضوع شائك ومن الصعب إعطاؤه حقه في مقال مقتضب كهذا. فهناك نظريات عديدة تتحدث عن كيفية نشوء الهوية مرت عليّ وأنا أدرس هوية الشعب الصحراوي المتنازع عليه بين المغرب وسكان الإقليم الأصليين المدعومين من الجزائر. وأقترح على الكاتبة المحترمة مرام أن تطلع على ما كتبه رشيد الخالدي ومحمد مصلح حول الهوية الفلسطينية وتشكلها قبل الحركة الصهيونية. وقد أبدع المفكر العظيم إدوارد سعيد في تسليط الضوء على دور الاستعمار في تشويه ثقافة السكان الأصليين وفرض نص المستعمر على الشعوب المستعمرة في كتابه "الثقافة والإمبريالية". لا أشك أبدا في أن الكاتبة قد إطلعت على العديد من الكتب التي تثبت بدون شك تشكل الهوية الفلسطينية قبل الحركة الصهيونية... لكن لا أحد يجادل في كون الحركة الصهيونية قد ساهمت في صياغة الشكل الأرقى لتلك الهوية لأنها أصبحت مستهدفة ومرفوضة ومشكوك فيها وتتعرض لهجمة دموية بهدف محوها نهائيا من قبل "الآخر" ليس فقط من العالم المادي الذي يجسد تلك الهوية بل ومن الذاكرة الجمعية للمنتمين إلى تلك الهوية.
    ولك مني التحية على هذه المساهمة.


في العدد نفسه

تهنئة بالعام الجديد

عن مبدعة الغلاف

كلمة العدد 67: هارد لك (*) يا شباب

لا وقت للحلم هنا

الإبداع والحقيقة في الأدب الكولونيالي