بدري إلياس - السودان
النار لا تبعد عن الحليب
التمر يغلي في حدود الكاف، والنون تتربص به حتى يتربع في الكأس. الوقتُ: عصر تحاورُ العناصرُ بعضها، والنارُ قاض لا يتحيز، ولا يأبى رشوة الهواء.
ها هي كاكا تدخل بكامل عتادها. تدخل كاكا وهي تتمثّلُ عنطزة ملك شأنُه أرزاق النّحل والعصافير. تضع أشياءها جوار النار. النارُ التي يضيئها المزاجُ، وتضبطُها حدّةٌ تراوح بين آه وأحححح. نارٌ كأنما أصابع عذارى تجرّبُ اللّذة على إيقاعها.
يطير دخانٌ خفيف ستخذله قوّتُه حالا لينتهي إلى خطوط لا تعلو رأس كاكا كثيرا وهي تعدل ثوبها برميه على كتفها اليسرى، كأنما تلقي خلفها قبضة من توتّر، وبعض ضيق من نمل العيون الضيّقة التي تراقب حركاتها فيُصاب تركيزُها بالأكلان. يا للتشكُّك يا صديقي.
العذاب يستوي عند نزوة فتاة تربض قرب زاوية الفتك. تفي حين لا تواعد أبدا. العذاب يستوي عند هزة الرمح بيد فتاة تتخيّر رجالها في الإطار الواسع لفتى واحد وثمين. العذاب تدويرة لا يخيّرُها المركز في نقطة البدء، لكن يتبرع لها القلب. العذاب أن تشتهي قبضة من ريح بأجنحة عاشقة. العذاب أن تظن أنك تقرأ إحداثيات اشتهائك. العذاب أن تشتهي. لا. العذاب ألا تشتهي.
كاكا ترصُّ الأكواب في تربيزة قصيرة جوارها، وتقمعُ ضجرها بنا وبالعيال. العيال الكُثْر. والنارُ ترصُّ الدويّ في قلب العود الذي يرصّ أسراره هناك بين اللّب والنواة. وتذهب الحكمة، كمومس طربت لمرة أخيرة، لتندفن في آخر رمق من التمرة. كاكا تخلع الآن ما يعكّر جمالها. تنحاز الآن لطقسها الغابي. وها هي النارُ تتعرّف إلى ألوانها في ساحة الفستان المنغمس في الورد والألوان.
هكذا تطلُّ نكهتُها، كاكا، من حقل بُنّ محترق، وغابة على مسافة الظّن. ها هي أغنيةٌ نحيلةٌ ودامعة، تنسلُّ من بين أعواد قطيّة لم تنسها النارُ ولم يخطئها الكيد. ارتفعت حدة الأزيز في الخرطوش الرسول، حامل الفعل ما بين التخلُّق والتحكُّر في حيّز يخص الموجودات. إذن فقد دخلت النار في غيبوبة الاشتهاء. اختارت يدُ كاكا، عارفةُ الحياة الخبيرة، أحد الأعواد ودفنته في الرماد. انطفأ الأزيزُ الآن. لست بحاجة لنار كبيرة لتصنع أفراحا صغيرة.
ادفن كأسك يا صديقي. ادفنه فيك. ادفنه فهو لا يكبر أبدا طالما ظل محاصرا داخل تربة "الكبابة". ادفنه فالتأمل صدفة تتكرر كلما جرّب العشق قدرته على النهش. ادفن كأسك ودع كاكا ترتب كل شيء.
يتحركُ عماكْ. تصحو البصيرة. يصحو الضوءُ واهنا. تصحو ظلالٌ ضحلةٌ، وتزفر على حائط الانتباه. تأخذ جرعتك الثالثة. هنا السكر فأهلا. حركة أصابع يدك التي لا شأن لها بالكأس تنقل توترك وحزنك "للبمبر" الذي تجلس عليه. يغوص قدر من أرجله القصيرة في تراب الحوش. يا للبمبر المحزون. كم "آخر" يعرفه المسكين؟ كم مؤخرة حطت عليه وأملت على جنباته الاحتمال؟ مسكين. هو أيضا يكابد شر خالقيه. ربما تحنُّ أطرافُه إلى الغابة. نطفته الأولى. منطلقه. لماذا نغادر أحواضنا أصلا؟
كلما أستعاد جالسٌ سيرته، النازفة، كما هي العادة، أدمت "البمبر" فأسُ الحطّاب. تفلفص بين يدي نجّار لم يبرع في مهمة أخرى. بكى من صرامة المُجلّد الذي يعلم أن لا مال بالغُ يديه ما لم يحزم هذه الأطراف ويحسن سجنها في وحدة غير طوعية، تنتج هذا الجسم الجديد.
أحيانا يتوزع الاتهام بين المجلّد والنجّار، وربما كلاهما غير بارع، حول المسئول عن عدم تناسق "تربيعة" "البمبر". ولكن لكي يستخدم في مكان يجمع بين الوحشة الكاملة والحميمية غير المجزأة، كالهنا، فهو مناسب تماما حتى ولو اختار من الهندسة، كل الهندسة، شكل المعيّن إلا قليلا.
بنابر المعدن ربما لا تشكو ولا تتألم كما تفعل تلك التي من أصل شجري، فالشجرُ، على اختلافه، بكاءٌ بطبعه. والشجرُ عرضة دائمة لفتك مخيّلة الآدمي مبدعا من كان. ومن الشجر تصنع حيوات وتعدم أخريات. ومن الشجر: قوارب، نصال، أسرة، مخالع، مشانق، فلقات، مناضد، منجنيق، أبواب للدخول، أبواب للمنع، مقاعد، خوازيق، ملاعق، مدقات، أسقف، عروش، ... الخ.
في مثل هذه البيوت، أحس دائما أن البنابر كائنات تعسة وحزينة، كأنها يتامى يعالجون لؤم سوق. والبنابر تجالس كل يوم آلاف الأرواح. تغوص في تراب ألمها مع كل من يبكي عليها. وتغرق في ذات التراب حال طرب الجالس عليها. والبنابر تخْبُرُ أنّ الجسد يكون أكثر اشتغالا على نقطة تمركُزه في حال الطرب، والعكس في حال البكاء. البكاء يخلق أجنحة أحيانا.
اسحب "البمبر" قليلا لجهتي. بصاقك خلق ما يشبه دائرة بيضاء تعسة في الجهة اليسرى لمجلسك. تعاين فتجد أن تلك علامة تسم كل بقعة عليها شارب. أحيانا أرى أنه مشهدُ لا يوحي باحترام. حتى بحيرتي الخاصة.
ما هذه العادة اللئيمة؟ أمن حدة في الشراب أم من عادة تناوله بلا مزّة؟ على كل حال، هذا البياض، هو ما يوحّد هؤلاء الجالسين. وفي ظلمة المكان تكاد لا ترى غيرها، تلك البقع البيضاء، التي ستكون مثيرة لقرف بلا حدود لو تخطت هذا المكان، ولكنها الآن هي المضيء الوحيد غير نار كاكا التي تتوهج بين آن وغيبوبة. دائما تبصق قبل كل كأس جفاف فمك.
وبعد الكأس مباشرة تبصق لسعة الشراب، وشيئا منه تهبه للتراب، وشيئا من أسف تود لو يذهب. ثم تشرع في بصق أحزانك. فتبصق وتبصق وتبصق. لا شيء يقدر على التوهج في مثل هذا المكان غير الحزن. الحزن المبصوق علانية. وها أنت كلما توغلت في درب الحكي الأسيان، كلما ازداد التفاتك نحو تلك الجهة، وتنامت تلك المساحة المشعة.
كاكا كعادتها تجلس قرب النار. هي دائما قريبة من نار ما. تضع صغيرها المتسخ في حجرها. وبينما ترطن له ما يجعله يشتعل انتشاء وحركة بين يديها، تقبله وترسله إلى أحضانها. يواصل الضحك. تزيل ما على وجهه من تراب بما تبقى في أصابعها من رقة. تضغط على أنفه فيصرخ متألما. تمسح ما بأصابعها في الحائط خلفها دون أن تحوّل باقي جسدها وبغير كثير اكتراث، منشغلة بالتحدث إلى صغيرها بكلمات المحبة حتى يعود للضحك، وابتسامتها توسّع هوّة النار.
تغشاك عتمة الكأس الرابعة، فأوصيك بشرب ما تبقى في الكباية دفعة واحدة.
"اقفز ففي الضفة الأخرى ما يستحق."
"جربوا القفز فينا فانتهينا إلى هنا."
"إذن فليكن بيدنا."
أعجبتني الطريقة التي فعلت بها ذلك. تهزُّ رأسك، كعادتك، ووجهك يتمثّلُ جغرافيا الاستوائية. تصدر صوتا من الحلق، وتزفر بالأنف طويلا. تميل قليلا إلى اليسار وتبصق.
مراقبتك تجعلني أشاركك صرة الوجه وجريان الفم حتى ولو لم "أضرب" كأسي معك في نفس الآن والحزن. حين تكتشف أنني تأخرت عنك تأمرني:
"أضرب.
أرفع كأسي. أضربها، دفعة واحدة، أزمّ فمي، وتُطْبقُ يدي على وجهي وتبدأ انسحابها المتوتّر من مقدمة الرأس وكأنها معنية بإزالة خطوط التوتّر الرابضة دوما هناك، وتنتهي بالفم المزموم حيث يتولى الإبهام والسبابة مسح أطرافه. للحظات أبدو كمن يتنصت لشيء. ثم أرفع رأسي ببطء، وابتسامة أسيانة تتعثر علّها تجد مكانا بوجهي.
تعرف يا صاحبي.
يا لجمالك حال ذاك.
يا ولد
كيف تصوغ المادة من لذيذها
وتحذقُ الإبصار
على الغنائم، لا عليك،
على النسائم وردةٌ
يحيّي قلبك السُّكرُ
تنحني
لكنّك الإعصار
هل تراني إذا انقضى الليلُ؟
أرى الملائكة الصّغارْ
أرى قطة الفجر
تتمطى
تموءُ الهزائم
تلحسُ النّاي.
لكنّه أعمى؟
أرى الجدارْ.
أرى الصفحة البيضاء منك.
هزمتني
ذاك ما ينقص
الانتصار.
كاكا تغني لصغيرها وتداعب المتعثّر من ألوان طفولته. فمه مطبقٌ على حلمتها ويداه على الثدي وكأنها من خشية أن يطير. لهب النار الخفيف يخلق فوضى غامضة من الأضواء والظلال على الطفل وأمّه، حمّالة الحليب، وأشجان البلاد المنهوبة.
نادت كاكا فحضرت صبيّةٌ في الحال. ربما كانت الصبيةُ في السابعة وربما في الرابعة. تكاد لا تميزهم في هذا العمر. طفا فستان الصبية لوهلة أعلى موجة الضوء الخفيف الذي يتوهجُ أحيانا من تحت الإناء الفائر بما ينوء به من أعباء الكيمياء. غرفت الفتاة الماء الحار من تحت الدلو الصغير العائم في الطست وسكبت ما أتت به من ماء، لا بُدّ، بارد، دعما لما يجري من تكثيف.
لا تدّعي كاكا حذق رعاة بالجبال، حتى أنك تظنها في مكان وحالة غير ما هو أمامك، فقد كانت تغني، كما تفعل دائما، لصغيرها المتشبث بالثدي.
لكنها كانت إلهة المكان.
كانت ترعى النار، والبيت، وترعانا.
"تعْرفْ، الحرب سلحفاةٌ عظيمة. تحمل رعبها ولذتها على ظهرها."
"أستطيع تخيّل ذلك. أنا لم أخبر الحرب، تعرف ذلك، إلا أنني قرأت أهوالها في وجوه الضحايا. كما أعرف اقتران اللذة والخوف من تجاربي البسيطة، كأن أضع "سفة" أثناء الحصة مغافلا الأستاذ أو في البيت متخفيا من أبي، عهد تلك السلطات الرحيمة. والآن، أليس أجمل الشراب هو ما نتعاطاه داخل فك دورية الشرطة؟
"أظنّك قد لمست المسألة."
تعرف، قد تتردد في الأيام الأولى من الضغط على الزناد. ولكن ذلك يتحول، بعد قليل فقط، إلى وحشية وجنون تتمنى أثناءه لو أن أشرطة الذخيرة تتوالى وليست هناك طلقة أخيرة.
تعرف، المرور خلال الموت يمنحك حياة مُعقّمة لحد الانحراف. تصبح لذة الحياة فقط في غرْفها حارة من الإناء اليغلي للموت.
* * *
حين يحط الصمت فجأة، وتموت همهمات السكارى كالبغتة، وتخفت حتى رطانة النار الخفيفة، فذلك لا يعني أبدا أن شيطانا يمر. بل أن الكون ينتبه لتخلُّق نطفة الشراب.
طجْ. ثم طجْ.ثُمّ ... يلتقطه الإناء قطرة، قطرة ويعبّر عن انتشائه أحيانا بطقطقة مكتومة ورزينة، كأنما عليه التزام الوقار وهو يستقبل خفقات ذاك الوليد.
"طجْ."
"أُمّكْ."
"عُلمْ يا صاحبي."
والصغير يمسك بثدي أمه. فمه مطبق على الحلمة. أمّه تعاينُ في امتداد لا ضوء فيه سوى طفل تكاد لا تعبأ به إحداثيات الزمان ولا المكان. الأم تُغنّي. لابُدّ أن الطفل لا يفهم ما تقوله تلك الأغنية، لكنه يمُصُّ المعنى في الحليب. الحلمة في فمه، وفمُهُ لا شغل له غيرها. يمُصُّ، ويمُصُّ، ويمُصُّ. عيناه غائبتان في عيني أمّه الغائبتين في شجر وماء وأهل وحياة. هناك خلف النار والدخان والظلمة وأعيُن الجالسين الطافحة بالخيبة والأسئلة الميْتة.
صرخات في كل ناحية. كأنما الشجرُ يُعْولُ، والحشائش مرعوبة من هيئة الحياة العارية من اسمها، والمستسلمة للنقيض. السماءُ تُرْسلُ لعناتها شُهبا وقذائف. والصغير يمُصُّ. يمُصُّ. يمُصّْ.
الأجساد تتطاير. تستسلم للوحشة. للسكون. لعدم جدواها. ها هم جميعا يموتون. يمضون للجانب البئيس من الحياة. القرية تحترق بكاملها. النار سلطان كل لفتة ونفسْ. والطفل يمُصُّ. ويمُصُّ.
البعض يهرب من موته إلى موت أشد قسوة ونكالا. الأعواد والحشائش، التي كانت منذ لحظة ديارا وسكنا يضم أنفاس الألفة والوئام وحكايات الحنين، ها هي تطير كغضب سماوي محتضنة النار والخراب، نافضة عنها رماد عهد لن يكون بعدها أبدا. والصبي، يمُصُّ. ويمُصُّ.
ها هي البهائم المشتعلة تركض مذعورة من فداحة الآدمي، وتوزع الخراب في كل ناحية.
وها هي الدجاجات، التي لم تُجْبرْ سابقا على الطيران، تُحلّقُ بالنار على أجنحتها وتطيرُ بالكارثة. وها تلك صبية تعاين كل ذاك الفتك، من نقطة، تحتارُ حتى النارُ، كيف لم تطأها. وحتى مجيء هذا الطفل وانتمائه إلى حجرها الآن يمتص كل شيء، كاكا لا تعرف كيف حققت معجزة البقاء، وأخطأها ذاك النكال؟ كما أنها تعجز حتى عن فهم الترجمة الركيكة التي وُضعت في تأويل ما جرى. وها هي تحدّق في صغيرها، ربما يملك الإجابة. والصغير يوغل في عينيها، علها تحكي الإجابة، ويمُصُّ، ويمُصّْ.
المفاتيح
- ◄ قصة قصيرة
- ● وماذا بعد؟
- ● النظّارة
- ● خرابيشُ خطّ
- ● بقرة حسين
- ● تاريخ