عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

أميمة أحمد - الجزائر

من دفاتر المنفى: الزلق


أميمة أحمداتكأت ميس على شرفة الماضي وألقت نظرة للخلف علّها تجد ما ضاع منها بين ركام الاغتراب وتحت رماد حرائق نشبت في كثير من الأحيان دون سبب وعبثت في الروح بانتشاء.

كانت ميس تمسح على رؤوس قططها السبعة، السيامية السلالة، وبعضهم من الفصيلة الملكية. ميس تجد الأنس والتسلية مع هؤلاء القطط في منفاها، فهم أصدقاؤها الأوفياء والمحبون، وهي تحبهم حبا جما، ولشدة حبها لهم قلبت قولا نسب للرئيس الفرنسي شارل ديغول: "أحببت الكلاب أكثر كلما عرفت الناس أكثر"، فميس أحبت قططها أكثر كلما عرفت الناس أكثر. كثيرا ما شكت إليهم همها وتشعر بالتفريج من كربتها عندما يتمسحون بها كأنهم يواسونها على ما أصابها، وما تحملته وكان فوق الاحتمال.

تتساءل ميس كيف يجوف المنفى الإنسان، ويجعله طبلا فارغا وهو يمعن في الهراء عن نفسه، ويتصور نفسه منقذا ليس لنفسه ومن حوله فقط بل وللبشرية جمعاء، ويعتقد أن الآخرين يصدقون عنترياته البلهاء وادعائه الأهوج. هنا كان عذاب ميس وهي تستمع لأناس جمعها فيهم المنفى دون اختيار، يتبجحون بـ "بطولات" هم أنفسهم لا يصدقونها، ومع ذلك يحكونها كما لو أنها وقعت بالفعل. وميس لديها ذاكرة شديدة تحفظ رواياتهم التي تختلف مرة بعد مرة سواء في المكان أو الأشخاص أو المناسبة. أحيانا كانت تذكرهم برواية سابقة لإحراجهم، فلا يرف لهم جفن في استمرار سرد الحكاية بالثوب الجديد.

الجو ماطر، والوقت بعد الغروب. عتمة الليل يوشيها بقايا ضوء فأصبحت بلون رماد ماض تبرز حوادثه كألسنة نيران تـنبعث من بين جمر لازال تحت الرماد.

الأرض زلقة، أعاقت حركة ميس، لم تعد تتمالك توازنها ولا زمام قدميها على أرض كالصابون. حسنا أين أذهب في هذا الجو الماطر والأرض الزلقة؟ سألت ميس نفسها وقد انتابها إحساس كأنها انزلقت دفعة واحدة كما يفعل الأطفال على الزحليقة في مدينة الملاهي نهارا، لكن ميس كانت في جوف الليل ولا تعرف أين نهاية متاهة الزلق.

فجأة تقف أمام باب في الطابق العاشر، بيت أحد ممن عرفتهم في المنفى. استغربت كيف صعدت الدرج زلقا والزلق لا يكون صعودا بل للأسفل. لم تشغل بالها بالأمر وطرقت الباب كطرقة الشُـرط، كأنها خائفة من أحد يلاحقها في عتم الليل، انفرج الباب عن وجه كالح غير واضح المعالم لامرأة كان أو لرجل. انتظرت الدعوة لدخول البيت فلم تأت الدعوة بل تلاشى الوجه في الفراغ بعيدا، بعيدا. قفلت ميس راجعة ولكن ليس من حيث أتت، بل قادها الزلق إلى طريق آخر، وإلى بيت آخر وأناس آخرين، تعرف بعضهم والبعض الآخر لا تعرفهم، جميعهم تلاشت وجوههم في الفراغ.

من أين جاء هذا الزلق اللعين وهذه الأوحال اللزجة؟ قالت ميس لنفسها وهي تسند ظهرها على جدار متين رغم قدمه ويبدو جدارا أثريا منذ آلاف السنين. التفتت ميس حولها، لا زال ظلام الليل يلفها وقد أصبح دامسا. ما هذه الليلة الظلماء؟ لم ينقطع الكهرباء فحسب بل غاب القمر أيضا خلف غيوم دكناء. ما الذي سيحدث وراء هذا الظلام؟ وأي صباح قادم بعد هذا الليل الدامس؟

تذكرت الليلة الظلماء في بغداد عندما قصفت قوات الاحتلال الأمريكي مبنى الصحافة الدولية وقطعت الكهرباء عشية احتلال العراق. تسرب الخوف إلى دهاليز ميس، تلمست الجدار وتمنت لو يفتح باب منه لتخرج من هذا الظلام، ضربت الجدار بكفها بقوة كأن الباب الذي تمنت صار حقيقة، وراحت تضرب بإصرار، فأيقظها مواء قططها المدللة وعرق غزير على جبينها. آه، كنت أحلم بمخرج من أوحال المنفى.

حملت ميس القطة الأولى التي جاءت في مرمى يديها، وقبلتها وراحت تداعبها وتقول لها أنت يا غالية الحقيقة الباقية أمامي. كل الأبواب موصدة، وها هو المنفى يوصد بابه أيضا.

لماذا المنافي على اتساعها تبقى سجنا؟ لماذا المنفي يعيش مسكونا بوطن غادره يوما قسريا؟ ولماذا الوطن يغلق أبوابه في وجه أبنائه؟ لماذا الوطن عندنا أشبه بسلحفاة بحرية ترمي أبناءها على رمال الشاطئ وترحل؟ لم تفعل ميس جرما يستحق النفي. هل التعبير عن الرأي يستحق النفي؟ في أي عصر نعيش؟

لوحت ميس بيدها كأنها تطرد أحدا، وقالت يبدو هذا الماضي مزعجا حد الكابوس، فلأصارع ذاك الماضي لأصنع نفسي من جديد، لا شك سينضج التفكير بصورة أفضل. تذكرت ميس قولا: "إن الإنسان ينضج ويصنع نفسه بالصراع ضد ماضيه."

وبتصميم قالت: "إذن لأبدأ الصراع مع الماضي الذي يثير الشجون بين الحين والآخر. كفى بكاء على الأطلال، فالحياة أقصر من صرفها على شيء مضى أو على مستقبل آت، فاللحظة الراهنة هي الحقيقة الممكنة بين يدينا فلنعشها، ونلون بها حياتنا بألوان زاهية. قد يكون بعضها معالم طريق لمن هو قادم بعدنا."

انتبهت ميس على تداعيات أفكارها الجديدة عليها، وتساءلت: ترى لو كانت تعي ذلك قبل عقود هل غادرت الوطن؟ لم تجد جوابا شافيا بل قالت: "لا شك كنت ميسا أخرى غير هذه المتكئة على شرفة الماضي والحلم معا."

D 1 شباط (فبراير) 2009     A أميمة أحمد     C 0 تعليقات