عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

عصام عقرباوي - رومانيا

صرخة غريقة


عصام عقرباويكانت فتاة في أواسط العشرينات من ربيع عمرها. ذكية ومثقفة وعلى قدر عال من الجمال وخفه الظل تشبه الأجنبيات كثيرا حتى أنه من الصعب أن تميزها إن كانت عربيه أم لا، شعرها أشقر طويل. جسدها أبيض البشرة ممشوق بعناية. كانت كل مواصفاتها أقرب إلى مواصفات الفتيات الأجنبيات الشقراوات منها إلى الفتيات العربيات. أدمنت كما قالت جميع أنواع المخدرات وأكدت أنها من المهاجرات الجدد القادمات من إحدى الدول العربية.

حاولت كثير معها لتحكي لي قصتها ولكنها رفضت. "هل لديك أطفال؟" كان السؤال البسيط الذي جاء صدفة وسألته لها بغير قصد. ويبدو أن هذا السؤال العابر كان المفتاح السحري للكشف عن مكنونات صدرها، فبدأت تبكي بحرقه وتكشف حقيقة السر الكبير الجاثم على صدرها. وروت لي قصتها التي قد تكون أقرب لأفلام هوليوود المليئة بالخيال، بل روايتها أتت أكثر خيالا.

قالت أنا ميتة ولست حية. أنا ميتة ولست حيه لقد مت منذ سنوات طويلة. أنا فتاة أجبرني أهلي على الزواج من ابن عمي رغما عني، لم أكن أحبه وقد قلت له ولهم ذلك ورجوته أن يفهمني. لم يصغ لي ولم يسمعني وكذلك عائلتي التي لم تسمع رجائي ولم يرحموا عذابي ودموعي. كان جل همهم أن يتخلصوا مني ومن همي لأني قد كبرت ويجب أن أتزوج من أول شخص يطرق بابنا. وكان كل ما يهم ابن عمي امتلاك جسدي بأي وسيلة كانت.

أصروا كثيرا ورفضت ولكن لم تكن باليد حيله فتزوجته، عشت أيامي معه عذابا، وكانت حياتي فراغا، ففي كل لحظه كنت أموت فيها ألف مرة. لم تتغير نظره زوجي إليّ واستمر يعاملني كجسد بلا روح. أنجبت له طفلا لعله يغير ما بحياتي ولكنها ازدادت سوءا. رجوته أن يطلقني، أن يتركني أو يهجرني. لكنه لم يصغ لي، اقتنعت بأني ميتة وأنا على قيد الحياة فقد قتل إحساسي وكرامتي وأنوثتي. راودتني فكره مجنونه بالانتحار أو الهروب. وكم حاولت الانتحار، ولكني كنت أخاف بآخر لحظة. وفكرة الهرب لم أقتنع بها فحتما أهلي وأهل زوجي وزوجي سيبحثون عني إلى أن يجدوني، وسيكون عذابي أشد وطأه مما أنا فيه.

مرت أشهر ولمعت لي فكره شيطانية: أن أموت وأبقى حية. فرحت كثيرا جدا لهذه الفكرة وبدأت بالإعداد لسيناريو القصة مع صديقه مقربه لي. كانت الخطة أن أغرق بالبحر ليظن الجميع إني قد مت، وبهذه الطريقة تعود لي حريتي من جديد، ولن يحاول أحد البحث عني. تعلمت السباحة جيدا وانتظرت أشهرا طويلة بفارغ الصبر. وحانت اللحظة التي كنت انتظرها، فقد طرحت بشكل غير مباشر على زوجه أخي الكبير بضرورة الاستجمام والمتعة في نزهة نهاية الأسبوع.

أقنعت زوجه أخي إن العائلة كلها بما فيها زوجي بضرورة الذهاب إلى البحر في عطله نهاية الأسبوع. أخبرت صديقتي عن مكان الرحلة. في أحد الأيام وبعد ثلاثة سنوات زواج أو اقل من قتلي، ذهبنا جميعا إلى البحر، بدلت ثيابي ونزلت إلى البحر عدة مرات. كنت أنزل وأخرج وأنا سعيدة والضحكة لم تفارق شفتيّ، وفي اللحظة التي لمحت بها زوجي ووالدي وشقيقتي يتوجهون إلى الكافتيريا هجمت على ولدي وقبلته وبكيت بحرقة. احتضنته بحرارة شديدة على صدري وتمنيت لو باستطاعتي أن اشق صدري وأضعه بداخله ليرحل معي.

ودعته ونزلت إلى البحر وسبحت لمسافة طويلة. التفت خلسة خلفي وعاودت السباحة باتجاه الشط ولكن لاتجاه بعيدا عن أهلي. وصلت إلى الشط لأجد صديقتي تنتظر. ارتديت الملابس التي أحضرتها معها وركبنا السيارة وانطلقنا مغادرين إلى العاصمة حيث مكثت بأحد الفنادق على اسم صديقتي.

فكرت بالتراجع عن فكرتي المجنونة، ولكن ترددي أضاع الوقت والفرصة وأصبحت في نظر الجميع ميتة. حتى للحظات كنت أشك أني حية، وبدأت أتنقل من مكان لآخر ومن عمل إلى آخر ومن صديق إلى آخر، هربت من نفسي وحياتي. ولكن حتى الظروف لم ترحمني، وها أنا محطمه بلا ماض أو مستقبل. لا شيء سوى أني مجرد مدمنة مخدرات لا تدري إن كانت حية أم ميتة. لا أستطيع القول سوى أني أتمنى العودة إلى ابني.

مللت من البحث عن سعادتي المشروعة، ومن غربه النفس والمشاعر، وتعبت من الدائرة المفرغة التي أدور بداخلها، وضقت ذرعا من السراب الذي أحسب عنده الرواء، ومن اعتقادي بأن كل ما يلمع ذهبا. لذا سأكف عن تأنيب نفسي واقتنع بنصيبي، لا بد من التغيير، ولا بد أن تنبع سعادتي من داخلي حتى تخف معاناتي. وقد يكون ذلك خيرا لي، فالخير لا يعلم به إلا الله، فلم التفكير وقد يأتي وقت على الإنسان يظن فيه أن كل شيء انتهى، ولكنه يكتشف أنها البداية، فبين غمضه عين وانتباهتها يغير الله أمرا من حال إلى حال.

D 1 نيسان (أبريل) 2009     A عصام عقرباوي     C 0 تعليقات