يوسف اشلحي - المغرب
جدل الشورى والديمقراطية: مقال في المتاهات
لو طفقنا نتحرى مفهوم الجدل في الفكر الإسلامي في كليته، لبدا لنا المكانة المحورية التي حظي بها منذ بواكير التفكير الفلسفي الإسلامي، وبالخصوص مع إسهامات المتكلمين والفلاسفة. كأنه بذلك صار العنوان اللافت والقدر المصاحب لبنية التفكير الإسلامي، بما يشي على حظوة ممتدة له في الفكر المعاصر، مما لا يؤشر على بديل وارد للانفلات منه. ولنا برهان ساطع على ذلك في هائل الإشكاليات التي استأنف أمرها الفكر الإسلامي المعاصر في عدد من الإشكاليات السائدة التي همت طبيعة وفحوى الوجود المعاصر. ولو ألينا التدليل على الأمر بمفهوم معين، كمفهوم الدولة على سبيل المثال، لتبين لنا تخمة الأنظار المنذورة لها، كما وكيفا؛ من قبيل الدولة المدنية والدولة الدينية، نموذج الخلافة وبديل الدولة القطرية، وهلما تنازلا في إنسال النقائض التي تخص طبيعة الدولة (الشريعة مقابل القانون، الإطلاق مقابل النسبية، الشورى مقابل الديمقراطية).
طبيعة الجدل الذي استحكم بنية التفكير قديما، من خلال الإشكاليات التي استوطنته، اتسمت عموما بالحيوية والإبداع، بالنظر إلى طبيعة الظروف الموضوعية التي أطرته، وقدرته الخلاقة على استيعاب واحتواء الأنظار الوافدة من الثقافات السابقة عليه (الفارسية، الهلستينية). بخلاف ذلك نلفي التفكير المعاصر حائرا وتائها حتى النخاع في بحر من الإشكاليات المطروحة عليه، سواء النابتة من صلبه أو الوافدة من غيره، فأدى إلى توليد شرخ في الوعي الإسلامي المعاصر.
ولنا في ثنائية الشورى والديمقراطية أمثل صورة على ذلك، بين رأي يتوجس خيفة من مفهوم الديمقراطية، بدعوى تحصين الذات من كل غريب وافد، من شأنه تقويض كل أصيل، وبين رأي مناقض، يتوسم في الديمقراطية كل أسباب الفلاح، بما أنها أرقى السبل التي وصل إليها الفكر الإنساني، وفي طياتها تكمن بذور التقدم بضمانها وتنظيمها للحقوق، فضلا عن نجاعة آلياتها في تدبير الدولة. وثالثة الأثافي تسعى سعيا نحو تذليل الفوارق من خلال العمل على رصد معالم التوافق بين المفهومين.
مما سبق، نتلمس وجاهة السؤال حول طبيعة تصور الشورى بالديمقراطية والديمقراطية بالشورى؟ كيف أن الشورى نقض وفصم للديمقراطية، ومن ثمة الإقرار بكون كل تناقض بالضرورة مبدأ مردود؟ وكيف نتجاوز عقم المقارنة ومنطق المغايرة المتجذر في الأذهان؟ قد يشكل التنقيح المنتج والتطعيم المثمر العتبة الممهدة نحو تكوين قناعة راسخة بالإبدال التاريخي، تأسيسا على وحدة الفكر والوجود الإنساني، كعتبة أخيرة موصلة إلى واقع المردودية، بدل التعامل بمبدأ الردودية.
ماهية الشورى
نظرا لوفرة الدراسات التي انصبت على تمرحلات الديمقراطية لفظا وتجربة، منذ اليونان إلى الآن، وفضلا على أن تمثل مدلول الديمقراطية في ثلة من نصوص الفكر الإسلامي المعاصر، لم يتم إلا من باب ترسيخ المجادلة، فلا ضير آنئذ من استبيان الطروحات الدائرة معاصرا حول مدلول الشورى[1]. وحرصا على إضاءة المفهوم بشكل يدفع كل التباس وارد فيما يجري من نقاشات راهنة حول المفهوم، يتعين الرجوع إلى السياق النصي والتداول التاريخي الذي انبثق في خضمه.
ولما كان الحديث عن الشورى، هو سليل الحقبة الماضية[1]، أثر من آثار الموروث، فلا مفر من إضاءة فحواها الذي يرتكن بالأساس إلى المرجعية النصية، الكائنة في آيات ثلاث [2]. ولعل إعمال سداد نظر إلى روح النصوص الآنفة لتشي بما ينفي عنها طابعها الحصري، كما انتهى بها الأمر لدى متفقهة العصر (آلية مثلى لنموذج الحكم). وفي مقابل ذلك، يدرك من ظاهر أمرها طابعها الممدود، باعتبارها آلية ذاتية نابعة من طبيعة (فطرة) الإنسان. فضلا عن سياق تعيناتها، بما هي دلالة على أحداث عارضة في الوجود، لها مكانة مفتوحة على رقعة الحدوث كلما توافرت لها أنسب الأسباب. ذلك ما يتضح من مدلول الآية القائلة فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر (سورة آل عمران، الآية 159)، التي نزلت عقب واقعة أحد، بمثابة خطاب موجه إلى النبي، إيحاء له على تصرف مطلوب ـ كان وتم توكيده ـ إزاء الجماعة (ضمير الغائب). كما أن قوله تعالى وأمرهم شورى بينهم (سورة الشورى، الآية 38)، أتت تحثيثا على خصلة محمودة في المجتمع (الجماعة). أما بخصوص الآية 233 من سورة البقرة فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما، فإنها تدرجت بالمفهوم إلى أصغر بنية اجتماعية وهي الأسرة.
بجملة التحديد النصي الآنف، ينجلي لنا مدلول الشورى، كقناعة ذاتية محضة، خصيصة مصاحبة للإنسان في عوادي الأيام. ألم يتم الحسم في مآل الإنسان بكونه كائنا اجتماعيا محضا؟ يقر محمد عبده "أن الشرع لم يجيء ببيان كيفية مخصوصة لمناصحة الحكام، ولا طريقة معروفة للمشور عليهم"[3]. نتلمس أول خطوط التباين، بين ما ينتمي إلى جنس الطباع والسجايا، وما يعد محض آلة، إجراء لتدبير الدولة. بذلك نتفهم عسر التمييز بين الشورى والديمقراطية، فحلت بدلها مقالة المفارقة والمناقضة. عند عجز النظر وخفوت الإبداع، تشرع لعبة المفاهيم، تزكى الذات ويبخس ما عداها.
كان ذلك عن تأويلات النصوص. ماذا عن التجربة الملهمة، عن الأنموذج التاريخي المستوحى؟ يوحي مدلول الشورى في ضوء التجربة النبوية إلى صلب ما أقررنا أمره آنفا. كلما حصرنا المقاربة في زاوية محددة، أنموذج مكرس، كلما أتت النتائج ملتبسة وشائكة. وبذلك لم يكن المفهوم ليقطع مع الأساليب والصيغ التي استقر معها سابقا، بيد أن ذلك لا ينفي النقلة النوعية التي طرأت على مدلول الشورى؛ لما كان سلوكا دون تعيين، فخرج من طور القوة إلى حيز الفعل، وارتقى من الخاص إلى العام، من الأبسط إلى الأعقد، من نطاق الأسرة والقبيلة ليشكل نواة لدولة المدينة، ليتوج المفهوم بشحنة أخلاقية هائلة. لكن المأزق ينبع من رد التأويلات إلى عين الحقائق، فشكل واعزا للأنظار اللاحقة، حينما اكتسى لديها رويدا طابع القناعة، لما حسبته آلة بنيوية في جسم الأمة والدولة. يكفي استقراء الفترة التي أعقبت التجربة النبوية لندرك انتفاء طابع الآلة (سيادة الحس الأخلاقي)، وكذلك الطابع الحصري (باختزال مدلول المفهوم إلى حيز السياسة) الذي أصبغ عليها تاليا.
كلما تبدد الحس الأخلاقي العالي وتلاشى في خضم عوارض الحياة، كلما انزوى بريق المفهوم، وطفق عائدا إلى مقامه السابق، فتشرع الحدود المختفية إلى حين في الظهور مجددا، لينكشف البون بين المطلق والنسبي، بين الدين والدنيا، بين الواقع والمتوقع، بين الأخلاق والسياسة. هذا ما تشهد به الفترة التي أعقبت طور الخلافة، فاندرج المفهوم في غياهب الكتمان ومقام الرجحان. بموجب ذلك سنشهد تقلص مدلوله العملي في مقابل تضخم مخزونه النظري. سيعود إلى تقمص دوره المعتاد في البنية الاجتماعية، ويتوج حضوره في التمثلات الذهنية. بذلك تنزوي الفعالية، لتشرع طوبى الفقهاء في الانسياب.
عين الارتباك الحاصل، انعكس بجلاء في تمثلات الفقهاء الأوائل بخصوص مدلول الشورى، وهو الأمر الذي نلمسه في عدد من مؤلفات الفقه السياسي. يكفي تمعن التباين الحاصل بصدد حد المفهوم، ومن حيث الجهة، الكيف، النوع، والوجوب، كما يشرح كمال أبو المجد: "في كتب السياسة الشرعية وكتب الفقه الإسلامي بصفة عامة اصطلاحات ثلاثة تحتاج إلى ضبط وتحديد، فهم تارة يشيرون إلى أهل الشورى، وتارة إلى أهل الحل والعقد، وتارة ثالثة إلى من يصلحون ليطلب رأيهم في أمر من الأمور"[4].
وهكذا دواليك، راح الجدل بصدد سلطة المفهوم، يتدفق بلا انبتات، كل رأي بما لديه مطمئن "فقد قيل إنها قائمة في كل شيء لم يوجد فيه نص محدد، وقيل إن المشاورة تنحصر فقط في الأمور الدنيوية"[5].
إذا كانت طابع التأرجح، هو الميسم الذي وسم التمثل المبكر للمفهوم، فإن دلالتها معاصرا لم تخل من مآزق، مما دفع دفعا، حتى مشايعي التأصيل والمدافعين عن طوبى الموروث، إلى التساؤل عن جدوائية تمثل المفهوم في صبغته التقليدية، وخصوصا في ظل التبدل الهائل في الظروف والأحوال، مما يعني أن "الطرح التقليدي لقضية الشورى لم يعد صالحا ولا كافيا لمناقشة مباحث الشورى في المجتمعات الإسلامية المعاصرة "[6].
بيد أن سنة التحول الجارية ما كانت لتشفع في تحوير الكثير من أنماط التفكر، والعديد من القناعات المكتسبة. وهذا فحوى ما يشير إليه حسن الترابي عندما يقول: "الأدب الإسلامي السياسي الحديث هو الذي روج الكلمة وأضفى عليها قيمتها ومضامينها ذات الشأن بعد أن كانت كتب الفقه القديمة لا تعني بها كثيرا ولا تقيم لها هذه القيمة الجليلة، لأن الممارسة السياسة الشورية لم تكن واسعة ولا ذات خطر في التاريخ الإسلامي"[7].
كيف يرجى إحداث النقلة، صياغة اللحظة بروح العصر؟ تجذير العلاقة بالمفهوم يشي إلى متانة الصلة بسنة الدورة، بخلاص العودة إلى الجذور. فماذا عن القيمة، عن النجاعة، والأهم من ذلك علاقتنا بالوجود؟ تعكس وجهات نظرنا، آراؤنا، رؤانا، كوننا أشباحا على رقعة الوجود، نهيم قدما خارج سرب التاريخ. فهل وجهات النظر المطروحة كفيلة للإجابة عن تحديات اللحظة، واصلة بنا إلى معانقة حية بالحاضر؟
لنحرض العقل على استشكال حذف الذات، ليشرع في إظهار بصمته، ومن ثم الإسهام في تأليف سيرة تواجده. ولنتأمل نمطا من أنماط تمثل المفهوم، كما يوجزه لنا كمال أبو المجد: "الإسلام أقر الشورى وأمر بها واعتبرها أصلا من أصول الحكم وسياسات الناس"[8].
لطالما توجست النفوس، واستنكفت العقول عن ترسيخ التقليد النقدي، فكيف ننشد عكس الوضع، ونحن نصبغ على المدلول وننسب إليه ما هو منه براء؟ نتمسك من جديد بالطابع الاختزالي، وندعي له بالإضافة صبغة العمدة. لو أعملنا أبسط نظر في نتاج الفقهاء والمتكلمين، لأدركنا أنهم لم يتحمسوا قط إلى جعل الشورى شرطا قارا للولاية السياسية (الخلافة)، بقدر ما زجوا بها في خانة "الآيات التي تقرر الخلقية الإسلامية والفضيلة الدينية عامة "[9].
ونتيجة لما سبق، أتت المقالة المعاصرة بصدد المفهوم شبه قارة وضحلة، وبقيت حبيسة القشور، ولم تستطع النفاذ إلى العمق، فلا نكاد نعثر فيها على إسهام مميز، ما عدا تفخيم المفهوم، فانزاح المدلول من مقام الملفوظ إلى مقام الأيدلوجية، تشكل مفخرة الذات، ورقة تشهر ضد الأغيار. كيف لا والعصر عصر الأيديولوجيات وصراع المفاهيم، فمن له القدرة على كسر العادة وإزاحة الرتابة؟ والحال حال الاجترار والتكرار. فكان من البداهة، كما يقول عبد الإله بلقزيز:
"إننا لا نكاد نعثر، فيما حرره المثقفون الإسلاميون في الموضوع، على رصيد فكري في التنظير لمسألة الشورى أو في إنتاج معرفة بنظامها تتجاوز العموميات المكررة، المستشهدة بآيتي الشورى، أو المحيلة على تجربتها في السياق النبوي وما أعقبه في حقبة الخلفاء الراشدين"[10].
بموجب السابق، يتضح لنا المنزلق الخطير الذي دأب نمط مخصوص من التفكير المعاصر على إفرازه وهو هائم في تمثل مفهوم الشورى معنى ومبنى، فطفق يختزل أمرها في مجرى السياسية، كأنه حصَل اليقين التام بكون الإسلام مفهوما ونموذجا محددا سلفا، لا يقبل تجديدا ولا بديلا جوانيا أو برانيا.
لو تمكننا من قراءة المفهوم ضمن مسار تجربة الحكم في الإسلام قراءة متبصرة على ضوء أنظار كل من ماكيافيل (Machiavel) وهوبز (Hobbes)، لربما آنذاك استطعنا تطويع العديد من الأفكار والأحكام المسبقة. ما أيسر على التفكير من إدراك العقبة! لكن ما أصعب له الالتفات والتمعن! لهذا وغيره استعصى عليه تشكيل قناعات بديلة.
بين المفارقة والمعانقة
إن محاولة التناغم التي سعى رواد الإصلاح إلى إقامتها في صلب الذات، سرعان ما بان وهنها وعثر رهانها، وذلك عندما اندرجت مهمة التفكير في منعطف غير سليم، بموجبه راح يخاصم المفاهيم، وهكذا راح حماة الذات يدافعون باستماتة عن الشورى؛ كأن الدين سطر بالتمام كيفيات انطباقها ومعالم وجودها، وكأن التاريخ السياسي اعتاد وجودها عملا بمقتضاها. وبالتضاد أمعنوا في إكالة "الديمقراطية" كل صنوف القدح والذم، وكأنهم بذلك ينسبون للدين ما لم يشرع به نموذجا، ويقرون للواقع من أمر، ما عرفه ولا عاشه إلا ضآلة من الزمن.
وبالمقابل، نلفي "حماة الليبرالية" ينجرون معهم في اللعبة، فيتحفظون على مفهوم "الشورى" ليستلطفوا بالمقابل مفهوم "الديمقراطية". بيد أنهم يسلمون رفقتهم أن الديمقراطية ممتنعة لكونها قرينة العلمانية، وهذه الأخيرة "تنافي" كل صلة بالدين. لم يتفطنوا بأن الحديث عن التنافي الموجود، لم يكن إلا من مرام تشكيل "السلطة الدينية"، كما أن هذه الأخيرة لم تكن إلا محض اختراع تعزز بأدلة مطلقة من الذات ومحاكاة تستنسخ من الآخر، كي تشكل عامل قوة وسلطة مطلقة لأطراف محددة.
وهكذا تاهت الإشكالية الآنفة بين رأي يقبل على مضض إقامة مماهاة بين المفهومين، دفعا لأي التباس في المعنى، يعيق معه الفهم والتفاهم[11]. ولكن سرعان ما مال إلى تعداد فضائل "الشورى" وإبراز نقائص "الديمقراطية" (الارتباط بالعلمانية الصراع المجتمعي، تملك الشعب لسلطة التقرير)، فأتت المقالة شائكة غير متكافئة، اكتفت بتعداد إيجابيات "الأنا" وسوالب "الآخر"، إلى جانب المقالة التي سعت إلى إقامة مماحكة بين الشورى والديمقراطية.
كما نلفي طرفا ثانيا يرى في هذه المماهاة خروجا عن قوام الدين؛ ففي عرفه أن "الشورى غير الديمقراطية" وأن أي إلحام بينهما، كما يرى فتحي يكن، يعد خروجا عن "التصور الأصيل المتوافق مع روح الدين وأصول التشريع"[12]. ونمط هذا التصور نجد أمره مكرورا في عدد من القضايا والمفاهيم، من خلالها نلمح أولى معالم تشكل "الرافضون الجدد"، يحسبون كل وافد وطارئ بدعة. هنا مكمن القطيعة بينهم وبين رواد الإصلاح. هكذا نلفي راسخ اعتقادهم، كما يصفه يوسف القرضاوي، يعتبر كل مستجد "من الأحداث في الدين وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار ... ومن هنا يعتبرون الديمقراطية كلها كفر (منكر) يجب مقاومته، وأخذ القرار بالأكثرية بدعة غريبة مستوردة، وكذلك فكرة تكوين الأحزاب أو (الجماعات). كلها تدخل في دائرة الحديث الصحيح المتفق عليه "من أحدث في أمرنا ما ليس منا فهو رد"."[13].
مقابل هذه النظرة الراديكالية، نجد أن بعض رواد التنظيم الحركي، كراشد الغنوشي، لا يرون غضاضة في الإقرار بالقول إن "النظام الديمقراطي أفضل الأنظمة التي تمخض عنها الفكر البشري، كما أنه يبقى إطارا صالحا لضمان حرية الشعوب في تقرير مصيرها واختيار نوع النظام الذي تريد أن تعيش في ظله"[14]، باعتبار الآلة الديمقراطية تعد من قبيل الإرث المشترك بين الإنسانية جمعاء، مثلها في ذلك مثل الآليات الصناعية، التي يمكن لها "أن تعمل في مناخيات ثقافية وعلى أرضية فكرية مختلفة"[15].
إن الإقرار "بغيرية المفهوم" (أيا كان) لا ينهض دليلا للحكم على صلاحيته من عدمها؛ ومن ذلك القول بعدم صلاحية الديمقراطية نظرا لارتباطها بالظروف الموضوعة التي انبجست فيها، بما أن ذلك لا يقوم حجة على عدم إمكانها في مجتمعات أخرى، بقدر ما ترتبط هذه الصلاحية أيضا بالظروف الداخلية لهذه المجتمعات؛ ممثلا في نمط الثقافة والتربية التي تشكل رافدا أساسيا للمخيال الاجتماعي، بالإضافة إلى الإكراهات السلطوية والاجتماعية والاقتصادية الكائنة. نفس ما اعترى لفظ "الديمقراطية" حديثا، جرى على "الشورى" قديما، أثير كثير من اللجاج بصددهما، تأسيسا على اعتقاد راسخ على أنهما غاية، والحال أنهما مجرد وسيلتين، آليتين لتدبير وجودنا المتعين تاريخيا.
بهكذا اتسمت مقالة الفكر العربي الإسلامي المعاصر، وهي تستشكل ذاتها، من خلال ثلة من قضاياها وإشكالياتها، في مضمار العصر. حتى باتت مسكونة بجملة من الفارقات، غائصة في ثلة من المتاهات. مع الإقرار بحيوية القضايا والإشكاليات المثارة، فإن الكثير من جملة تلك المحاولات ما لامست اللباب، فسادت بذلك النظرة الإيديولوجية التموقفية، ما عدا بعض الجهود الفكرية الرصينة الجامعة بين ثالوث النظر والزمكان والخطاب.
= = =
الهوامش والمراجع
[1] الشورى: بمعنى طلب المشورة: لبسط المقام أنظر، ابن منظور: لسان العرب، مج 14، دار صادر، بيروت (د.ت) ص 437.
[2] سورة آل عمران، الآية 159. سورة الشورى، الآية 38. سورة البقرة، الآية 233.
[3] محمد عبده، الأعمال الكاملة، الكتابات السياسية (مج1)، تحقيق وتقديم محمد عمارة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط2 ،1979، ص 354.
[4] كمال أبو المجد، حوار لا مواجهة، كتاب العربي، العدد السابع، أبريل، الكويت، 1985، ص 104.
[5] يوسف القرضاوي، السياسة الشرعية في ضوء نصوص الشريعة ومقاصدها، مؤسسة الرسالة، بيروت، 2001، ص 102. وأنظر كذلك: كمال أبو المجد، المرجع السابق، ص 96.
[6] كمال أبو المجد، المرجع نفسه، ص 97.
[7] حسن الترابي، الشورى والديمقراطية، منشورات الفرقان، الدار البيضاء، 1993، ص 14. راجع كذلك: عبد الإله بلقزيز، الدولة في الفكر الإسلامي المعاصر، مركز الوحدة العربية، بيروت، 2002، ص 170.
[8] كمال أبو المجد، المرجع لسابق، ص 105.
[9] محمد عابد الجابري، الديمقراطية وحقوق الإنسان، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1994، ص 44.
[10] عبد الإله بلقزيز، المرجع نفسه، ص 172.
[11] حسن الترابي، الشورى والديمقراطية، منشورات الفقران، الدار البيضاء، 1993، ص، 22-24.
[12] فتحي يكن، مشكلات الدعوة والداعية، مِؤسسة الرسالة، بيروت، 1981، ص 146 154
[13] يوسف القرضاوي، السياسة الشرعية، مؤسسة الرسالة، بيروت، 2001، ص 215
[14] راشد الغنوشي، الحريات العامة في الدولة الإسلامية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1993، ص 87.
[15] المرجع نفسه، ص 88.