عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

عبدالسلام بحاج - المغرب

منهج الكتابة التاريخية عند ميشال فوكو


عبد السلام بحاجاهتم الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو، بالتنظير للكتابة التاريخية، كما قام أيضا بخوض غمار التأريخ، من خلال التعرض لتاريخ المهمش والممنوع، كتاريخ الجنون، وتاريخ العيادة والعزل، وتاريخ الجنسانية. وهي من الموضوعات التي مورس عليها المنع والإبعاد، من التدوين التاريخي في أوربا، معتمدا في ذلك مجموعة من الأدوات المعرفية والتيمات المنهجية، أسهب في تحليلها في مجموعة من أعماله، كأركيولوجيا المعرفة والكلمات والأشياء ونظام الخطاب وإرادة المعرفة وغيرها.

عمل فوكو على بناء منهج معرفي يتوخى تفكيك اليات السلطة والمنع، ورفع الحجر عن المكبوت والمهمش، وإظهار المختلف والمتشظي والمنفصل، بغية تفعيل دور الذات العارفة وتحرير إرادتها، في عملية إنتاج المعرفة التاريخية.

يرى فوكو أنه علينا أن نعمل وفق استراتيجية منهجية، تتصور الخطاب التاريخي كعتق نمارسه على أحداث الماضي وأشياءه وأفياءه، وفق استراتيجية نيتشوية الأصل تعمل على الهدم، وتطويق تيمات المنع والإبعاد الممارس على بعض مجالات البحث، وكذلك التحديد والتملك، الذي تمارسه بعض السلط على مجموعة من الحقول ومنها حقل المعرفة التاريخية. ثم بعد ذلك تلجأ للبناء أو "النشوئية" عن طريق إعادة تشكيل الخطاب وتحريره من المسبقات الميتافيزيقية واللاهوتية، ومن المنطق الصوري التجريدي المؤسس عليها، وإعادة تشكيل المعرفة التاريخية، وفق انتظام جديد بعيد عن الاتصال والسيرورة الغائية والنسقية.

رفض فوكو، كباقي الفلاسفة المتبنين للمنهج التفكيكي، الما بعد حداثي، قراءة التاريخ، وتفسيره من مرجع مطلق ومتعال وغائي، يقدم "الحقائق" التاريخية من منظور شمولي، ومحاولة قراءة التاريخ من الداخل، ومن السيرورة الفاعلة لذات الكائن البشري داخل التاريخ. تاريخ يهتم بتشكيل المعارف العامة دون اللجوء إلى ذات مؤسسة متعالية كانت أم محايثة، فهذا الأخير هو مجموعة وقائع موضوعية قائمة الذات، ومجموعة أحداث وقعت بالفعل في الماضي.

فما هي بعض هذه الآليات والأدوات المعرفية، التي لجأ إليها فوكو لتجديد الخطاب التاريخي؟

"الأركيولوجيا" المعرفية

لجأ ميشال فوكو في أعماله التاريخية، خصوصا "تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي" و"ولادة العيادة"، إلى الحفر في التراث العلمي والثقافي الأوروبي، الذي خلفه عصر النهضة وعصر الأنوار إلى اعتماد منهجية " الأركيولوجيا" المعرفية، لدراسة وتحليل التاريخ والفكر الأوروبيين، حيث أن "الأركيولوجيا" عنده تخص التاريخ كحقل معرفي بمعناه الكلاسيكي، والذي يوظف لتحليل التجربة العارية لنظام الأشياء ومختلف نماذجه[1] وتخص السرد التاريخي أيضا.

واعتمد فوكو على تحليل الكلمات التي يتضمنها متن النص باللجوء إلى الفيلولوجيا ومنطق اللغة، وتحليل نظام الخطاب، والحفر في الأرشيف التاريخي بمعول الجيولوجي[2]، الذي يدرس الطبقات الرسوبية للأرض بهدف استكشاف الألغاز والأسرار التي تخفيها وتسجنها سلطة هذه النصوص[3]، وهذا ما دفعه، إلى استغوار حقول مهمشة ومسكوت عنها، كتاريخ الجنون، وتاريخ السجن وتاريخ الجنسانية، باعتبارها تيمات معرفية وتاريخية، نادرا ما يتم الانتباه أو التعرض لها.

قام فوكو بذلك بالرجوع للوثائق والأرشيف الأوروبي، مما جعل بول فين يقول إن "فوكو هو أول مؤرخ وضعاني"[4]. ومن الصعب التسليم بالمعنى الظاهري للعبارة السالفة الذكر، والقول إن فوكو هو مجرد موثق للأحداث، زهو نفسه يعتبر "أن حقيقة الأشياء هي التي تعطي حقيقة الخطاب"[5]. بمعنى ما، الحفر في مصداقية الحدث التاريخي هو الذي يعطي قيمة للسرد والحكي التاريخي.

تيمة السلطة

انطلاقا من تصور فوكو للسلطة، كونها لا توجد في منطقة محددة ولا في يد طبقة معينة، كما يذهب إلى ذلك أصحاب التحليل الماركسي، بل هي موزعة في مناطق متعددة من المجتمع. وهذا ينطلق أساسا من خلال محاولته تجاوز الثنائيات الميتافيزيقية، التي يبنى عليها المنطق الأرسطي، الذي ورثته معظم نظريات الحداثة الأوروبية، بما فيها نظريات كارل ماركس، وتبني مفهوم "التشظي" الذي يؤمن بوجود فيزيقي للسلطة في كل مكونات المجتمع الإنساني.

إن السلطة حسب فوكو توجد في العامل والعاطل والحاكم ورجل الدين، وفي الرجل والمرأة؛ وفي المركز والهامش، في العرق والقبيلة، في الثقافة واللغة. وبالتالي فهي موزعة في كل الفئات والطبقات، وإن كان ذلك بشكل غير متساو، وبهذا قام بإنزال مفهوم السلطة، من البناء الفوقي إلى البناء التحتي والتفاعلات الهامشية.

وإذا كان الكتابة التاريخية تستعمل اللغة لنسج نصوصها، فقد طرحت مسألة العلاقة بين اللغة والسلطة، فهل تملك اللغة سلطة ذاتية، تنبع من مفرداتها التي تم التواطؤ على مدلولاتها، أم أنها تستمدها من أشياء خارج عنها، كالسلطة السياسية والدينية وغيرها؟
تبعا لهذا، سنتعرض لتحليلات فوكو فيما يتعلق بسلطة اللغة والخطاب، من خلال ثلاثة كتب أساسية وهي: حفريات المعرفة وسلطة الخطاب ثم إرادة المعرفة. فما هي وجهة نظره في هذا الموضوع؟

يقول فوكو في كتابه أركيولوجيا المعرفة ما معناه: "أما تحليل العبارات والتشكيلات الخطابية، فيسير في اتجاه مخالف تمام المخالفة: فهو يريد تحديد المبدأ الذي يتحكم في ظهور المجاميع الدالة وحدها والتي تم التلفظ بها. كما يسعى إلى سن قوانين الندر"[6].
وعلى هذا النحو لا يبقى الخطاب، كما نعتقد الموقف التفسيري، بل إنه سيغدو ثروة متناهية، ومحدودة ومرغوبة ومفيدة لها قوانين ظهورها، وأيضا شروط تملكها، واستثمارها، ثروة تطرح مسألة السلطة، ثروة هي موضوع صراع، صراع لإنتاج الأفكار وصناعة الخطاب التاريخ.

كيف نفهم ما قاله فوكو في كتابه إرادة المعرفة؟

يرى فوكو أنه يحدث في الخطاب أن تتمفصل السلطة والمعرفة. ولهذا ينبغي أن نتصوره كمجموعة أجزاء منفصلة عن بعضها البعض، وظيفتها التكتيكية غير متماثلة ولا ثابتة. وبصورة أدق يجب ألا نتخيل وجود عالم لخطاب منقسم بين الخطاب المقبول والخطاب المرفوض، بل يجب أن نتمثله كمجموعة عناصر خطابية، تستطيع أن تعمل وفقا لاستراتيجيات مختلفة، كخطاب ينقل السلطة وينتجها ويقويها، ولكنه أيضا يلغمها ويفجرها من الداخل، لتصبح عبارة عن شظايا، مما يضعفها وييسر بإلغائها[7].

وهكذا سعى فوكو إلى تطبيق هذا النظرية المعرفية على كتابة التاريخ[8]، فننتقل من تاريخ خطي تصاعدي، إلى تاريخ يعرف التشظي، يستوعب الجميع بما في ذلك المركز والهامش. ولم ينفلت فوكو من عقال الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه، حيث اعتبر أثناء تفكيكه لماهية السلطة "القوة" أداة تستعملها هذه الأخيرة؛ للتحكم وللمراقبة والعقاب[9]. وهذا ما جعل الفيلسوف جيل دولوز يعتبر فوكو نتشوي المنزع[10].

إننا لا نسعى في هذا المقام، إلى تحديد توجهات فوكو كفيلسوف، بل إلى محاولة مقاربة، المحددات المنهجية لفوكو، كمؤرخ أو كمنظر لعملية الكتابة التاريخية، فبرفضه القول بوجودها في طبقة محددة أو في جهة واحدة، أو بإمكانية تملكها من طرف طبقة أو جعة معينة، وذلك باعتبارها محددا ومتحكما أساسيا لهذه العملية، يكون قد تجاوز نظرية التحليل الأحادي للظواهر التاريخية، ومقولات التطور الخطي للتاريخ، إلى اعتبار هذا الأخير، حقلا للتفاعل والصراع بين فاعلين متعددين، لكل واحد منهم دوره في رسم معالم التاريخ البشري.

شروط ودور الذات العارفة

يتم تمثل الذات عند ديكارت في معزل ومنأى عن الجسد الذي يشملها عن أحاسيسه وأفكاره ومشاعره، أي ما يسمى بـ"الجوهر" و"الهوية"، وهو استدلال منطقي صوري، تحكمه محددات مسبقة، مردها الاعتقاد بالحدس وتغييب الواقع والحضور، والاعتقاد بأسبقية الفكر على الواقع.

إلا أن فوكو وهو نتشوي المنزع، أعطى للذات دورا فاعلا في التاريخ، فاعتبرها مصدرا لإنتاج الأفكار والإحساسات والمعاني، والمركز الباطن في الإنسان[11]، القادر على الفعل وصنع الحدث التاريخي في تفاعل مع الواقع الاجتماعي والطبيعي. وبالتالي فإن الذات الإنسانية ليست منعزلة عن الواقع، وهي السبب والعلة في صنع الحدث التاريخي.

وبالاستناد إلى الفكر الفوكوي، فإن الحدث والخطاب التاريخي، هو عبارة عن شبكة عنكبوتية، تتقاطع فيها سلط ورغبات وأهواء وأفكار، يجب العمل على تفكيكها.

إن الذات العارفة للمؤرخ يجب أن تتوفر فيها مجموعة من الشروط العلمية، لكي يكون أهلا لإنتاج المعرفة التاريخية، وذلك للتقليل من الذوات المتكلمة[12] المنتجة للخطاب، في هذا الحقل المعرفي. وفي هذا طبعا احتكار للمعرفة وتداول لها في فضاء مغلق، وإبعاد لمجموعة من "هواة" التدوين التاريخي، جاؤوا إليه من تخصصات أخرى كالصحافة، والفقهاء الذين يعملون على تسجيل مذكرات وتدوين ملاحظات، تنسب لحقل التاريخ، ربما لأن الحدود لم ترسم بعد بدقة، خصوصا عندنا، أو لا يزال الحنين يراود الفقهاء والإخباريين إلى العصر الذي كان التاريخ متحكما فيه من طرف السلطة الدينية.

وهذا التسييج والتقنين للمعرفة التاريخية، يعتبر من "الإجراءات الكبرى لإخضاع الخطاب"[13] التاريخي لسلطة المجتمع، في إطار عمليات الإبعاد وحصر المجالات المعرفية.

إن احتجاز المعرفة ضمن قوالب تفرضها سلطة الخطاب و"إرادة الحقيقة" خدمة لاستمرارية آليات الإخضاع المتمثلة في السجن والمستشفى والمدرسة والمعمل، فالخطاب يحوي ركاما من الممنوعات والطابوهات والحدود التي تراقب كيفية إنتاجه واستعماله. وهذا يستوجب الاحتراس من إقامة علاقات بسيطة ووحيدة بين السلطة والمعرفة. بل هناك علاقات مركبة ومتعددة ومتمفصلة. بمعنى آخر هي ليست علاقة علية وسببية، كما هي معروفة في المنطق الصوري التجريدي، بل هي علاقات تفاعل وتبادل، حيث توجد سلط صغيرة منتشرة وموزعة في كل مكان.

دور "التجربة الأصلية" للذات العارفة

إن صانع المعرفة التاريخية، يلعب دورا كبيرا في عملية الإنتاج هاته، بحيث أن احتكاكه بالواقع وبالوثائق، وكذلك تمثلاته والأدوات المعرفية التي يمتلكها، والتجربة الواقعية التي راكمها، من خلال البحث والتعلم. وكذلك تواطؤه مع العالم المحيط به، واستعمال كلمات لغة عالمة، تحمل دلالات وترسبات ميتافيزيقية للتعبير عن الكلمات والأشياء والأفكار. ولها أيضا ألاعيبها في تمرير الخطاب. كل هذا يسهم بشكل كبير، في إنتاج السرد التاريخي وسجنه ضمن قواليب معرفية متعالية لاهوتية أو ميتافيزيقية، على الصورة التي نجدها في الكتب والمراجع في صورة ما يعرف بـ"الحقيقة التاريخية"، بمعنى أن هذه الأخيرة ماهي سوى انعكاس لأشياء واقع مضى، نعمل على إحياءه وجعله يتكلم وفق تصورات متحكم فيها.

التحرر من الأنثروبولوجيا وغائيات فلسفة التاريخ

ينطلق فوكو لتحقيق هذا المطلب من سؤال تأملي أساسي، يتمثل منطوقه فيما بوسعنا أن نعرفه، وذلك في معرض حديثه عن ضرورة وضع غايات فلفسفات التاريخ الكلاسيكية موضع النقد والسؤال، كونها تطلق في معالجتها للتاريخ وكتابة التاريخ من اعتماد بعد واحد في الغالب.

إن محاولة تحرير مناهج التحليل التاريخي من الأنثروبولوجيا ومن النزعة الإنسانية، ومحاولة مقاربة القضايا التي تشغل بال الكائن البشري، من طرف المؤرخ، تمس أساسا الوعي بالذات وبالهوية وبالأصل.

إن حضور التاريخ في الحاضر، أو بمعنى أدق انتساب الحاضر إلى تاريخ عصر معين، هو ما يظهر مثلا في رغبة ثلة من المؤرخين الذين يعملون على إحياء تراث وتاريخ شمال إفريقيا، في الحقبة التي تسبق دخول الإسلام. وهذا يدخل في باب "إعمال الإرادة" والتخلص من القصور لتقويض أسس التاريخ الديني، الذي لا يعترف بوجود تاريخ للمنطقة إلا مع ظهور الإسلام.

ولعل البحث فـي موضوعة "الهوية" يحيل على البحث عن المكونـات الأساسية التي تدخـل في تركيبها، وبالتالي الرجوع إلى قراءة التاريخ وما تم إنتاجه في الماضي الحاضر بمفاهيمها الزمنية من لغة وثقافـة ومعتقد، وكل عناصر الانتماء التي تربط الإنسان بالأرض والمجتمع اللذين ينتمي إليهما، نشأة وتربية.

وهذا تعبير عن الالتصاق بالأرض ونفي للتعالي، بمعنى ما محاولة تعرية المفاهيم المشكلة للخطاب التاريخي بحثا عن "أصل" مفترض، لأن "الأصل" من منظور أركيولوجيا المعرفة لفوكو، لا يسلم بوجود "أصل مفرد" ما دام مفهوم "الأصل" هو نتاج للصراع بغية الوصول "للحقيقة" ونتيجة لصراع قوى متعددة لا تعترف إلا بالأصل المتعدد.

يقول فوكو: «ما هو موجود عند البدء التاريخي للأشياء ليس هوية أصلها المنيعة، ما هو موجود إنما صراع الأشياء الأخرى هو تباينها"[14].

إن هذه المحاولة للتشكيك في ثبات "الأصل" تفند رؤية من يعتقدون في صفاء المنبع وطهارة النسب، لأننا نكون في قصور فعلي، عندما يقوم "كتاب ما" مقام فكرنا وعقلنا، فالوثيقة يجب أن تكون دوما، موضعا للنقد والسؤال[15]، فهل هي فعلا حقيقية من حيث شكلها ووجودها؟ وهل تقول الحقيقة؟

ويجب تتبع تاريخ تكوّن المفاهيم وصلاحيتها في الاستعمال، وقواعد استخدامها، والمبادئ النظرية التي تكونت في ظلها، والسلطة التي تملكها[16].

الوعي بالانفصال في الزمن

إن كتابة التاريخ من وجهة نظر فوكو تستلزم الانفصال بشكل موضوعي[17]، ومحاولة وضع مسافة للذات العارفة عن التراث لاتخاذ موقف فكري نظري من أجل البحث والتقصي والاستكشاف، لإعادة عملية البناء السردي للحدث التاريخي كما وقع، لأن المؤرخ يمثل في نفس الوقت، ذاتا في السيرورة التاريخية، وذاتا منتجة للمعرفة التاريخية، لذا يجب عليه الكثير من الاحتراس والحذر، فالانفصال مفهوم قائم في عمل المؤرخ، ولا يعرقل ممارسة عملية الكتابة التاريخية.

محاولة تقويض الشمولية

حاول فوكو تقويض عرى ودعائم الشمولية، من حيث اعتبارها نفيا للخصوصيات، وللتمفصلات التي تفصل بين قطاعات ومجالات اجتماعية وثقافية متعددة، وكذلك للتقاطعات وشبكة الخيوط التي تربط بينها، وكذلك الصراعات والنزاعات التي تحدث بينها، ففوكو يرفض إضافة قول أو عبارة إلى النصوص التاريخية لجعلها تقول ما تقول، أو لتصويبها في اتجاه غاية معينة، تبعا لرغبات المؤرخ وتوجهاته الفكرية أو الإيديولوجية.

الوثيقة وإرادة الحقيقة

تفرض إرادة الحقيقة أشكالا مختلفة من الأدوات يستخدمها المؤرخ بغرض إنتاج المعرفة التاريخية. وأيضا خلال التنقيب في الموضوعات التي يتوجه إليها من أجل دراستها. كما تفرض على الذات العارفة الخطوات التي تستخدمها للوصول إلى الحقيقة التاريخية، كالملاحظة والاختبار والتحليل والتأويل.

لذا، تعد إرادة الحقيقة "مجموعة آليات هائلة تستهدف القيام بعمليات الإبعاد لكل أولئك الذين حاولوا من نقطة أخرى ضمن تاريخنا تطويق الحقيقة هاته، ووضعها موضع سؤال ضد الحقيقة، في اللحظة التي كانت الحقيقة تحاول تبرير الممنوع وتعريف الحمق. كل هؤلاء من نيتشه إلى أرتو وإلى باطاي يجب أن يكون بالنسبة لنا علامات سامقة بدون شك، على طريق العمل الذي نقوم به كل يوم"[18].

يرى فوكو أن التعليقات التي تمارس على بعض الوثيقة "الأصل"، تقوم بتحريفها عما تريد قوله، أو ترسم هالة أسطورية، ونوعا من القدسية، وتعطي لخطابها سلطة كبرى، وتجردها من طابعها الزمني، محاولة تسييجها وإلباسها ثوب الخلود والأبدية. إنها" لعبة نقد يمكن أن يتحدث إلى ما لا نهاية له، عن عمل غير موجود"[19]. لذلك فالبحث في الجذور والأصول، وتلمس الأثر، ومحاولة نفض الغبار عنها، هو عمل من شأنه إيقاف ما لعبة تقويل النصوص والوثائق المادية ما لم تقله.

هذا العمل أقرب ما يكون لعمل الأركيولوجي، الذي يحفر في الطبقات الرسوبية والأثرية، للوصول إلى الحقيقة التي تنتمي لعصر معين، أو حقبة زمنية معينة، فقد يكون "الأصل" يحمل معاني متعددة، وتؤوله القراءة أو التعليق إلى معنى وحيد.

محاولة تقويض " مبدأ النسقية"

يرى فوكو إن علم التاريخ كباقي العلوم لا يتكون من الحقائق والأحداث التاريخية التي وقعت بالفعل في الماضي، بل تدخل فيه أيضا الأخطاء والأحداث المزيفة التي وقع فيها صناع التاريخ. وهي أخطاء قد تكون إيجابية، وتسهم في تطوير هذا العلم، ضمن هوية انتماءه لعلوم الإنسان، فالمعرفة التاريخية معرفة شذرية، تعرف "التشظي" و"لتمفصل" والقطائع أيضا فلا وجود لمسار تاريخي خطي متصل. وهي تساعد على تجدد الخطاب التاريخي، في طريق بحثه عن "الحقيقة"، بشكل بعيد عن الإطلاقية أو الغائية التي ترسم مسارا خطيا للأحداث التاريخية نحو غاية ما، باستعمال كلمات ولغة منتجة لمعنى وحيد داخل نسق معرفي مغلق، وذلك لكون هذه الغائيات التي تستند إلى فلسفة التاريخ، أو لتصورات دينية لاهوتية، تعتبر العقل هو جوهر العالم والكون. وأن تطور تاريخ البشرية، عبر الحقب ولعصور، ما هو سوى تجل مادي لهذا الجوهر الروحي والفكري. وفي هذا نفي تام للدور الغرائز وأهواء الجسد وحاجياته في إنتاج المعرفة وأدوات العمل والإنتاج، فعملوا على مناقضة كل ما هو شائع بينهم بدافع الرغبة في تملك السلطة والسيطرة على الأخرين[20].

إعطاء أهمية كبرى للحدث التاريخي

يرى فوكو أن علم التاريخ اليوم، يجب أن ينتج بشكل كثيف عن الأحداث التاريخية في تعدديتها، الأحداث الهامة منها والأقل أهمية، الأحداث التي تخص المركز والهامش أيضا. حيث أن علم التاريخ "لا ينظر إلى أي حدث، بدون أن يجدد السلسلة التي هو جزء منها، أو بدون أن يحدد نوع التحليل، الذي ترتبط به هذه الأخيرة، ودون أن يحاول أن يعرف، انتظام الظواهر وحدود احتمال ظهورها"[21].

التاريخ حسب فوكو لم يعد يبحث في فهم الأحداث ضمن سلسلة غائية، وسيرورة كبرى تطرح مشاكل العلية والسببية والحرية، في مسار متصل، أملته الضرورة المثالية، بل ضمن سلاسل مختلفة ومتقاطعة ومتنافرة في غالب الأحيان، وأيضا مستقلة عن بعضها البعض، سلاسل تمكن من معرفة مراكز الحدث وهوامشه، والتفاعلات والصراعات الموجودة بينها، وكذلك الأحداث ذات الأهمية القصوى، والأحداث النادرة.

ونلمس في هذا دعوة لرفع الوصاية التي تفرضها فلسفة التاريخ على علم التاريخ، حيث "ينبغي أن نعتبر، أن هناك سلما من أنماط الأحداث المختلفة، التي ليست لها نفس الأهمية، ولا نفس الامتداد الزمني ولا نفس القدرة على إحداث تأثيرات"[22]، فالمطلوب هو إعادة تشكيل الخيوط، التي تربط بين هذه الأحداث، وتجعل بعضها يتولد عن البعض. وهذه بعض من المرتكزات المنهجية، والكوابح التي تمنع الوصول إلى المعرفة التاريخية "الحقيقية".

= = =

الهوامش

[1] Foucault Michel, Les mots et les choses, Une archéologie des sciences humaines, Paris, Gallimard, Coll. « Bibliothèque des sciences humaines », 1990 , p. 13.

[2] Foucault Michel, L’Archéologie du savoir, Paris, Gallimard, Coll. « Bibliothèque des sciences humaines», 275 p. p. 173.

[3] Foucault Michel, « Prisons et asiles dans le mécanisme du pouvoir » [1974], DE II [n° 136], p. 52 1-525DE II, p. 524.

[4] Veyne, 1996, Comment on écrit l ’histoire (s uivi de Foucault révolutionne l ’histoire), Paris, Éditions Seuil, Coll. «Points Histoire» p. 348.

[5] Foucault Michel, Les mots et les choses, p.331.

[6] فوكو ميشال، حفريات المعرفة، ترجمة سالم يفوت، المركز الثقافي العربي، البيضاء، 1987. ،ص، 110.

[7] Foucault Michel, La volonté de Savoir. Editions Gallimard, Paris, 1976. p. 133.

[8] محمد علي الكردي، نظرية المعرفة والسلطة عند ميشيل فوكو، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، د.ت.، ص 414.

[9] ميشيل فوكو، إرادة المعرفة، ترجمة مطاع الصفدي، جورج أبي صالح، مركز الإنماء القومي، بيروت، 1990 ، ص 2.

[10] جيل دولوز، المعرفة والسلطة: مدخل لقراءة فوكو، ترجمة سالم يفوت، المركز الثقافي العربي، بيروت - الدار البيضاء، د.س.ن، 45.

[11] ميشال فوكو، حفريات المعرفة،.. مرجع سابق، ص 13.

[12] ميشال فوكو، نظام الخطاب، ترجمة محمد سبيلا، بيروت، الطبعة الثالثة، 2012، ص 28.

[13] المرجع نفسه، ص 33.

[14] ميشال فوكو ، جينيالوجيا المعرفة، ترجمة عبد السلام بنعبد العالي وأحمد السطاتي، دار توبقال. الطبعة الأولى 1988 ص، 54.

[15] فوكو، حفريات المعرفة...مرحع سابق، ص 8.

[16] المرجع نفسه ص 6.

[17] فوكو وسؤال التنوير ضمن كتاب حكمة الحداثيين؛ أنطولوجيا الحاضر، ترجمة حسن أوزال، دار وليلي، الطبعة الأولى، 2004، ص 37.

[18] ميشال فوكو، نظام الخطاب... مرجع سابق، ص ص 16-17.

[19] المرجع نفسه، ص 18.

[20] Nietzsche F, Le Gai Savoir, livre troisième, origine de la connaissance, aph. 110, introduction et traduction de Klossowski, club français du livre, 1957.

[21] ميشال فوكو، نظام الخطاب... مرجع سابق، ص 41.

[22] المرجع نفسه، ص 79.

D 1 حزيران (يونيو) 2021     A عبد السلام بحاج     C 0 تعليقات