عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 
أنت في : الغلاف » أرشيف أعداد عـود الـنـد » الأعداد الشهرية: 01-120 » السنة 5: 48-59 » العدد 55: 2011/01 » عالم صوفي (*): تلك الرواية الفلسفية الجريئة

فراس حج محمد - فلسطين

عالم صوفي (*): تلك الرواية الفلسفية الجريئة


رواية من تأليف النرويجي جوستيان غاردر . نشرت عام 1991، وطبعت مرات عديدة، وترجمت إلى لغات كثيرة. شخصيات القصة: الفتاة صوفي امندسون، والبرتو نوكس، والبرت كناغ.

.

فراس حج محمدتعد جرأة كبيرة تطويع الكتابة الفنية الخالصة من أجل تحقيق هدف تعليمي أو تربوي، مقصود أساسا منذ وعي الكاتب الأولي بالفكرة التي يريد أن يجسدها في عالم الكتابة الفنية الشعرية والروائية تحديدا، تلكم هي غاية أستاذ الفلسفة الكاتب النرويجي جوستيان غاردر في كتابته روايته الشهيرة عالم صوفي، فقد صرح في آخر صفحات الرواية قائلا على لسان ألبرت موللر كناغ، إحدى الشخصيات:

"يومها، بالذات قررت أن أكتب لكِ كتابا في الفلسفة، إذ كنتُ قد ذهبت إلى مكتبة كبيرة في كريستيا نساند، وإلى المكتبة العامة، ولم أجد أي كتاب من هذا النوع موجه للشباب." (ص 542)

وهذا الكلام يذكر ببعض المؤلفات العربية القديمة التي أعلن مؤلفوها في مقدمة تلك المؤلفات عن مثيل لهذه الغاية، ولكن الأمر هنا اعقد وأصعب من وجهة نظري؛ إذ إن جوستيان أفرغ المادة الفلسفية في قالب روائي، ولم يجعله كتابا بحثيا مصوغا بلغة بسيطة يفهمها الشباب، بل اعتمد الفن الروائي لتكون مجالا حاملا للمادة الفلسفية، لتساهم في نشر الوعي الفلسفي، ولتكون القضايا المطروحة في متناول الجميع. ولم يحاول جوستيان أن يخدع القارئ، بل على العكس من ذلك، أثبت على الغلاف الخارجي التوصيف الآتي: عالم صوفي. رواية حول تاريخ الفلسفة.

غلاف رواية عالم صوفي: الترجمة العربيةولعل المهم في الرواية ليس هذا الكم الهائل من المعلومات الفلسفية، وذاكم الحشد الكبير من الفلاسفة على مر العصور، أو ذلك الغموض الذي يلف الرؤيا العامة لبعض قضايا الكون والإنسان والحياة، وتشابك العلاقات، ليس كل هذا مهما فنيا بالنسبة لي، ولكن الأهم من ذلك كله تلك الجرأة والفنية العالية في تمرير تلك الجرعة الفلسفية المكثفة إلى قارئ الرواية ومتلقيها، ويحق لنا أن نسأل: كيف استطاع الكاتب، وهو أستاذ في الفلسفة، أن يطوع المادة الفلسفية لخدمة الفن الروائي بهذا التنوع والتناسق، وبهذا العمق أيضا؟ أو أن يطوع الرواية ويسلس قيادها لتخدم الفلسفة وتجعلها في متناول كثير من الناس؟

تظهر مقدرة الروائي جوستيان غاردر وجرأته في الآن نفسه في بنائه الرواية بناء فلسفيا وتعليميا في ذات الوقت، إذ تعد الرواية رواية تعليمية، وبهذا فهي تلتقي مع ما عُرف عند العرب من الشعر التعليمي، وبالتالي فقد نجحت الرواية بأن تكسر الحاجز النفسي لدى القارئ في نظرته للفلسفة، وبأنها أفكار هلامية غير مفهومة ولها مختصون، أما نحن معشر محبي الروايات، فاتركوا لنا روايات الرومانسية والمغامرات والمتعة، ولا نريد سوى ذلك، أما الكتب الفلسفية فليس لنا فيها حاجة. لقد تجاوزت الرواية هذه النقطة بكل جرأة، وغدا للرواية قراء يفوق عدد النسخ في طبعاتها المعتمدة عربيا وفي لغات أجنبية أخرى، وانتشرت بين جيل الشباب انتشارا لعل صاحبها لم يتوقع لها ذلك.

غلاف رواية عالم صوفيلقد أزاحت الرواية الحواجز بين الحقول الثلاثة: الحقل التعليمي، والحقل المعرفي الخالص، والحقل الروائي الفني، وتشكلت الرواية من كل هذه الحقول لتصنع نفسها رواية يتشبث بها القارئ لأبعد مدى ممكن، حتى إذا ما استولت الرواية على القارئ وأخذته نحو الدهاليز الملتوية، بدأ الرحلة مع تلك الفتاة اليافعة صوفي أمندسون وحبها للمعرفة وفضولها للاستكشاف، وإثارة تفكيرها عبر رسائل بريدية كانت في البداية مختصرة ومبتسرة ولكنها أساسية في عالم الفلسفة، وتبين الرواية كيف تعاملت صوفي مع تلك الأسئلة بجدية من يريد العلم والمعرفة، فقد انزوت في كوخها، الذي كان بالنسبة لها الملجأ السري في حالات وجدانية متعددة من حزن وفرح أو غضب، لقد اعتزلت الآن لتفكر، وليس لتغضب أو تسرّ، إنها العزلة المطلوبة لكل مفكر أو فيلسوف أو نبي أو مصلح قبل أن يواصل رحلته مع المحيط، فلا بد أن يبنى الفكرُ على قاعدة سليمة، وتترسخ القناعات العقلية تجاه أي مشروع فكري أو فلسفي.

وهذا يذكر بطبيعة الحال بمواقف إنسانية كثيرة؛ ألم يعتزل النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، في غار حراء قبل البعثة؟ ألم يعتزل الغزالي في بعض مراحل حياته، قبل أن يواصل مشروعه الإصلاحي والفلسفي- الصوفي؟ ألم يعتزل بعض فلاسفة الغرب للغرض نفسه؟ والأمثلة أكثر من أن تعد أو تحصى، إذن نحن أمام عزلة لها ما يبررها منطقيا وفلسفيا، ولكن ما لا نستطيع احتماله هو عزلة فتاة في الخامسة عشرة من عمرها، تفيض حيوية، كيف لها أن تعتزل من أجل الفلسفة والتفكير، إنها جرأة أخرى وكبرى يا جوستيان غاردر!

لقد أمهل باعث الرسائل الأستاذ ألبرتو كنوكس صوفي حتى غدت ابنة الخامسة عشرة. ماذا يعني ذلك؟ إنه يعني الكثير، يعني بداية النضوج وبداية الأسئلة الكبرى الوجودية. إنه يبادرها بالسؤال وتاركا لها التفكير والإجابة جرأة تعليمية أخرى، فيا ليت معلمينا في المدارس والجامعات يفطنون لمثل هذا الأسلوب وهذه الإستراتيجية، فقد اعتمد ألبرتو كنوكس في تعليم صوفي إستراتيجية تعليمية قائمة على أسس تربوية غاية في التأثير؛ فلم يربطها بشخصه، وجعل نفسه غائبا في الحضور الوجودي أمامها، ولعله يبغي توضيح فكرة وجود الذات الإلهية المؤثرة دون تجسيدها المشخص، وربطها بالفكر وحدها، وجعلها تتحمل مسؤوليتها فيما تختار من إجابات هي وحدها، فليس المهم وجود الأستاذ والمعلم، بل وجود الرغبة في الكشف والتعلم والمعرفة وتحديد ما نريد.

وقد استعمل الأستاذ مع صوفي كذلك أسلوب التعليم عن بُعْد، فقد بعث لها برسائل عبر البريد، وبعث لها كذلك بأشرطة الفيديو، وانتقل بها إلى حيث يريد؛ إلى أماكن متعددة، فإذا لم تستطع هي الوصول إلى المكان المفترض زيارة، فلينتقل المكان إليها! إنها إمكانيات عظيمة توظف لأغراض تعليمية، وكذلك فقد بدأ ألبرتو مع صوفي بأقرب سؤال وأعظم سؤال. إنه سؤال المرء نفسه: من أنا/من أنت؟ هذا السؤال الوجودي المستغرق لبني الإنسان، ثم السؤال الوجودي الأكبر: من خلق العالم؟ وهكذا تتطور الأسئلة، ويتطور التفكير وتتعدد الوسائل وتتعلم صوفي خطوة بخطوة، وعلى نار هادئة كما يقولون.

لعل هذا ما أرادت أن تناقشه هذه الرواية، قضية الوجود، تلك القضية التي أنفق الفلاسفة أعمارهم وعصارة أذهانهم للتصدي لها، لأنها تعطي الإنسان مبرر وجوده في هذه الحياة، فهي العقدة الكبرى، والتي إن حلت كان ما بعدها أسهل منها، لقد أبانت الرواية من خلال شكلها الفني الفلسفي عن رؤيا للخلق، وذلك في فصلها الأخير المعنون بــ "الانفجار البدئي"، فقد جاء في الرواية (ص 541):

"نحن أيضا جئنا من الانفجار البدئي ...."

ولكن هذا الاستنتاج غير مقنع، ويظل السؤال يضغط على عقل الفيلسوف والمفكر؛ فإذا ما سلمنا من أننا جئنا من الانفجار البدئي لمادة الكون، فمن أين جاءت هذه المادة؟

"ظل هذا هو اللغز الكبير." (ص 541)

ولذا فإن أستاذ الفلسفة في الرواية كان قد تصالح مع نفسه قبلها، عندما قرر:

"ليس وجودنا إذن أكثر من شكل ممتع، ...، وقد تم اختراعنا لمجرد ديكور لدرس الفلسفة." (ص 506)

وختاما أيها القارئ العزيز:

ما هو الدرس المستفاد من الفلسفة والرواية معا؟

لا شك في أن الفلاسفة –عموما- مهما بلغت بهم شطحات الخيال والتحليل والتفكير والربط العقلاني، هم مأخوذون بضرورة حل اللغز الكبير المشار إليه سابقا، فصوفي أمندسون -بوصفها إنسانا- يجب أن تدرك الغاية من وجودها، لتستحق أن تعيش حياة هادئة مطمئنة ترتاح فيها من العدمية والعبث، ولذا كان عليها أن تختار البحث والمتابعة وإعمال الفكر وطرح الأسئلة؛ لتصل إلى القناعة المُرْضية، ولعل الفن الروائي كان أكثر الوسائل إمتاعا وإقناعا لمناقشة لغز الحياة في تجليات رواية عالم صوفي تلك الرواية الجريئة في طرح السؤال ومناقشته بكل عمق وروية دون تعثر أو ملل، كون الفن الروائي يقدم شكلا للحياة قريبا إلى الواقعية مجسدا في حياة الأشخاص الروائية.

أما أنت أيها القارئ فعليك أن تختار شكلا مقبولا لحياتك؛ لتكون الحياة ذات هدف ومعنى لا مجرد أيام تمضي، فأكبر مصيبة أن تعيش الحياة وأنت تجهل كنهها، وإن فاتك شيء من ذلك فعليك برواية عالم صوفي. أعد قراءتها لعلك تطمئن وترضى.

D 1 كانون الثاني (يناير) 2011     A فراس حج محمد     C 0 تعليقات