عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

عبد السلام بحاج - المغرب

في تحديد مفهوم التاريخ عند حنا أرنت


عبد السلام بحاجلتحديد مفهوم التاريخ، عادت حنا أرنت (*) للغوص في أعماق التاريخ الإغريقي القديم، بدءا من هيرودوت، الذي يرى أن علة وجود التاريخ، هي إنقاذ الوقائع والأحداث الإنسانية من النسيان، لكون الإنسان يملك حياة فردية، وسيرة خاصة، عكس الكائنات الأخرى التي تعتبر أرقاما فقط في القطيع الذي تنتمي إليه[1]. وترى أرنت أن حركة التاريخ تبدأ في التشكل على شاكلة الحياة البيولوجية للإنسان. وبالتالي، فإن حركة الأحداث التاريخية يجب أن تكون دائرية[2]. كما تعتبر المؤرخ الإغريقي، توسيديد، أول من وضع قواعد الإسطوغرافيا التاريخية[3].

الإنسان، المحكوم بالموت والزوال، يجعل من أفعاله موضوعا للحكي التاريخي، فيتم دوما التركيز على البحث عن الأحداث التاريخية من قبل المؤرخين. إن التراجيديا هي مصدر التاريخ، لأن الشخص المتلقي والراوي وصاحب المعاناة هم أبطال الأحداث التاريخية. ولأن كل الدوافع، الأمر والفضول الخالص والرغبة في الحصول على الأخبار الجديدة، تلعب دورا كبيرا في عملية البحث التاريخي، فالتاريخ ليس سوى عملية التعرف على الجديد؛ والشعر ليس سوى مادة للحصول على المتعة واللذة.

إن الأقوال والأفعال والأحداث لا تترك أثرا، ولا يبقى لها وجود في غياب الذاكرة، وفي غياب صناعة التدوين والسرد التاريخي[4].

لذلك، تخليد الأحداث والأقوال الكبرى، لا يتم إلا بالتدوين. وهذا كله تحكمه الرغبة في الخلود. يبقى الناس خالدين كونهم يخلفون أبناء يخلدون ذكراهم، في إطار وحدة الصيرورة الأبدية[5]. والتاريخ يجمع في ذاكرته الأموات الذين برهنوا عن ذاكرة حياتهم بالقول والفعل، وخلدوا أسماؤهم لكيلا تموت.

إن التاريخ في نظر حنا أرنت، سابق على زمن هيرودوت؛ وعلى زمن هوميروس، لأنه يصعد إلى زمن الملك أوليس الإغريقي ، الذي كان يسمع في بلاط فياشيان أفعالهم وأقوالهم وحياتهم ومعاناتهم الخاصة، التي صارت موضوعا للسرد وللحكي التاريخي[6].

إشكال الموضوعية في الكتابة التاريخية

عرف القرن التاسع عشر في أوروبا تعارضا بين علم التاريخ والعلوم الطبيعية، فيما يخص الاعتقاد بالموضوعية في البحث والتأليف، وذلك بالاعتقاد السائد في الدقة المطلقة، التي تتميز بها علوم الطبيعة. لكن هذا الاعتقاد صارت اليوم شيئا من الماضي، حيث أصبح لعنصر الملاحظ الذي يراقب التجارب (الذي هو الإنسان) يفرض نوعا من الذاتية التي تؤثر على نتائج البحوث العلمية في هذه الميادين[7]. والإشكال بين "موضوعية" العلوم الطبيعية، و"لا موضوعية" التاريخ فقدت الكثير من معانيها.

إن الموضوعية في أحد معانيها، تعني رفض تدخل المؤرخ في تأويل المادة التاريخية، ولا في إصدار أحكام بشأنها، فكل جمع وتحديد للوسائل المادية ولمعايير البحث هو بمعنى ما تدخل في سير التاريخ[8].

ومع تطور العلوم، خصوصا في مرحلة ما بعد الحداثة، فقد إشكال الموضوعية بعضا من بريقه، وأصبح المؤرخ يبحث عن تعليلات جديدة. وترى أرنت أن المعيار الذي يجعل من التاريخ موضوعيا هو اعتباره ظاهرة دورية. وسؤال الموضوعية لا يطال التاريخ وحده، بل يشمل كل مكونات الإسطوغرافيا التاريخية، من شعر وقصص وأساطير[9].

كما تطرقت حنا أرنت لمجموعة من المعيقات التي تعترض بناء الموضوعية في الكتابة التاريخية، من بينها الشعور الوطني وكتابة التاريخ الوطني، الذي يُبنى غالبا على نوع من التحيز والتزلف للحكام، أو على عاطفة الانتماء للوطن أو للقومية والدين. وهذا التحيز قد يصل إلى درجة الشوفينية، مما يقف أمام صناعة تاريخية علمية. وقد أعطت مثالا بكتابات الإغريق، كهيرودوت، التي تميز بين الإغريق "المتحضرين" والشعوب الأخرى التي وصفها بالبرابرة. بينما نوهت بكتابات توسيديد، التي تُعتبر شاهدا حيا على الموضوعية، وأيضا على موضوعية أشعار هوميروس[10].

الحقيقة التاريخية

يعتبر الشك من أهم المبادئ التي تأسس عليها الفكر الحديث، فهو من المعاني التي تعد القلب النابض لفخر الفكر العلمي، حتى صار بدءا من القرن العشرين، مصدرا للضعف والقلق[11]، فالعقل عوضا عن أن يكون ضوءا داخليا يكشف عن الحقيقة، كما كان الأمر عليه في الفكر الميتافيزيقي واللاهوتي، فهو يعتبر مجرد "ملكة" بسيطة تقوم بعمليات ملموسة، كالتخطيط والتنفيذ والتقويم وحساب النتائج، لأن الانطباع الأساسي الذي تظهره التجربة اليومية للإنسان، يمثل في نظر حنا أرنت حقيقة "كاريكاتورية"[12].

لقد ساهم تطور العلوم الطبيعية، والرياضيات كعلم تجريدي، في تطور علم التاريخ واستلهامه لأدوات الربط والبرهان والاستدلال المنطقي. وساهم التعرف على أبعاد المجال الجغرافي، والتحكم في الظواهر الطبيعية والديموغرافية والإحصاء والاقتصاد، في تطور التاريخ، وفي قدرة الإنسان على صناعة النص التاريخي. لذلك فالحقيقة التاريخية، كما يرى فيكو، يمكن معرفتها من قبل الإنسان. وهذا صار التاريخ السيرورة، التي تملك الحجج القوية الدالة على عمل الإنسان وحركته في الطبيعة.

= = =
.

(*) Hannah Arendt

[1] Arendt Hannah, La crisede la culture, Haut exercices de pensée politique, Traduit de l’Anglais sous la direction de Patrick Lévy, Gallimard, Paris, 1972, p. 59.

[2] Ibid, p. 60.

[3] Ibid,66.

[4] Ibid, p. 62.

[5] Ibid, pp. 65-66.

[6] Ibid, pp. 62-63.

[7] Arendt Hannah, La crisede la culture…op.cit, p. 67.

[8] Ibid, p. 68.

[9] Ibid, p. 70.

[10] Ibid, p. 71.

[11] Arendt Hannah, La crisede la culture…op.cit, p. 76.

[12] Iid, p. 77.

D 1 آذار (مارس) 2022     A عبد السلام بحاج     C 0 تعليقات