محسن الزيتوني _ المغرب
الرحلة والمدينة في قصيدة "غرق"
من ديوان منير بولعيش "لن أصدقك أيتها المدينة"
خاض الإنسان منذ العصور الغابرة صراعات حتمية فرضتها عليه ظروف الطبيعة حيث أنه عانى من كوارث بشتى أنواعها، وعانى كذلك من نظام الغاب الذي تجلى من خلال صراع الكل ضد الكل، فجاءت فكرة الدولة والانتخاب كحركة لإنقاذ الجنس البشري من الإبادة سواء أكانت بطرق مباشرة أم غير مباشرة بسبب عنف الطبيعة والإنسان عينه.
كان الانتقال من حالة الطبيعة إلى حالة المدينة مرحلة مهمة في مسار الإنسانية، ووضعية تطورت رويدا من خلال وعي الإنسان بوضعه الإنساني الذي يميزه عن باقي الكائنات الحية خاصة وهو يمتلك رموزا تخول له إنتاج ما لا نهاية من المتواليات التي تعبر عن فكره وتجعله يدرك أناه المنتجة، وصولا لفترة التنظير للقانون الوضعي، خصوصا مع ابن خلدون وإميل دوركايم وأوغست كونت، كل انطلاقا من رؤية علمية خاصة به يرى انطلاقا منها أنها تخول للإنسان التعايش وتقبل الآخر المغاير عن بنيتنا النفسية.
ولكن رغم ما قدمته هذه التنظيرات من خدمات جمة للإنسان غير أنها قلصت من حريته وفرضت عليه قيودا، وبالتالي دفعت به إلى التنازل عن حالته الفطرية، وصار يناشد الحياة ويحاكيها عن طريق الاختراع والإبداع الذي جاء نتيجة الثورة الصناعية، حيث أحس بحاجته إلى خلق حياة تستجيب لدوافعه النفسية والفكرية والاجتماعية والحضارية، فشيد مدنا عملاقة انطلاقا من رؤية فنية معمارية.
وقد "بحث جوزيف ريكورت عن الشبه الفزيولوجي للمدينة فوجد أنها تشبه الحلم، ذلك أن طبيعة الحالم تجعل الأشياء، كل الأشياء تنبو عن التعريف المحدد الدقيق، كما تجاوز حدودها، وتختلط في نفس الوقت، وتعيد تنظيم ذاتها وأن ما فيها من الأمور المطلقة والمتضادة كميا (بإيجاز، الاستقطابات الزائغة) تتضاءل وتفقد دلالاتها ويتوحد النظام بعدم النظام، والاستمرار بعدم الاستمرار، والمحتوم بغير المحتوم ويصبح هذا التوحد إرضاءنا الأعظم"[1]، فما نتج عن هذا التطور هو الغربة والتناقض والقلق الوجودي.
وفي خضم هذا انبثق التساؤل حول الكينونة والماورائيات وانطلق البحث عن إرساء الهوية وتجاوز هذه الغربة التي أضحت تعصف بكيانه، فالمدينة صارت منبع هذا القلق بالنسبة للإنسان وخصوصا الإنسان العربي، حيث أصبحت العلاقات الإنسانية مع السيارات والقطارات الفائقة السرعة والطائرات والهواتف الذكية وتطور التكنولوجيا بشكل عام وفي ظل النظام العالمي المسمى "عولمة" تفتقد إلى الدقة وفي أغلب الأحيان سريعة استهلاكية خاضعة للإشهار والموضة.
لم تعد الحياة المادية تستجيب لتطلعات أولئك الذين يناشدون الحياة، حيث تعمقت الهوة عندهم بين الروح والجسد، فكان الفن أحد منافذ هؤلاء الذين بحثوا عن التجلي الحر للذات من خلال البحث عن "المعنى"، فها هنا شاعرنا الإنساني ابن مدينة البوغاز، منير بولعيش رحمه الله، يطلق العنان لروحه النقية بأحد أهم الدواوين الشعرية خلال فترتنا المعاصرة ويبدع في "لن أصدقك أيتها المدينة".
كما نلاحظ، فإن المدينة أصبحت من أهم التيمات التي يتطرق إليها خلال هذا العصر. يقول كريستوفر ألكسندر في بحث عنوانه "المدينة ليست شجرة"، إن المدينة هي دوما اختلاط، وليس الأمر على خلاف ذلك، فعندما نقول "مدينة" فإن الفكر يذهب إلى سكانها، والمدن، كما كان يقول شكسبير عن الناس، مصنوعة من المادة التي تصنع منها الأحلام، ويتضمن الحلم، والمدينة لا نهاية علاقات في جميع الاتجاهات وكلاهما يشبه الإنسان"[2].
توظيف الشاعر لحرف النفي "لن" يحيل على أنه سبق للشاعر وعانى من خيبة أمل واصطدم تطلعه وحلمه بأفق مسدود وتعرضه لخيبة أمل لهذا يقول: "لن أصدقك أيتها المدينة". ولكن هل الشاعر هو محور المعاناة هنا؟
إن منير بولعيش هو طنجة، وطنجة هي أبناؤها الحالمون بالشمس والكرامة والذين تصطدم طموحاتهم بأذن صماء تعصف بأحلامهم. ولتكون دراستي أكثر تخصصا، سأتناول بالتحديد قصيدة واحدة من هذا الديوان وهي "غرق"، والكلمة يقابلها في تعريفها الموت اختناقا فالشاعر هنا مختنق.
إن الاختناق هنا هو حالة جماعية أخذت عنده صفة فردية وهو على الحافة مطل على البحر ويحاكي الحياة في أبهى تجلياتها. يقول منير بولعيش:
فِي الضفةِ الأخرى
كنت أغرقْ...
كنت المهاجر السري الوحيد
من يدمن عن ظهر بحر؛
(تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار)
لكنني كنت أغرق.
إن الشاعر يرحل بخياله إلى الضفة الأخرى، حيث يصبح الممكن ذا طابع مستحيل بمجتمع كل ما فيه يقبر الأحلام وهي حية، فتصبح الرغبة في الهجرة أمرا حتميا لمعانقة الحياة والالتقاء بالذات من جديد.
وفي ظل انعدام الحلول القانونية للهجرة يصبح التخييل ورسم خارطة لما هو آني وما قد يحدث هو الفضاء الذي يتسع للحلم هنا، فالشاعر منير بولعيش هنا يكشف ذلك الهوس بالرحلة واكتشاف ما يختبئ خلف المحيط. ولكن هذا الهوس وهذا الشغف غالبا ما تواجهه عراقيل الإبحار.
إن الحالة هنا لا تعبر عن الشاعر في حد ذاته ولكنه حال مجتمع يختنق من التضييق بشتى أنواعه وخاصة فئة المثقفين وأولئك الذين يحملون أحلامهم بين أكفهم باحثين عن طوق النجاة، فهذا الإدمان على الهجرة، كما أحب أن اسميه، سجين بين سطور من تاريخ ابن بطوطة.
ولأن الشعراء كونيون تقتلهم الحدود، اخترعوا لأنفسهم سفنا اسمها الخيال عن طريقه يرسمون طرقات عبر اللامرئي والظاهر الخفي، هذه المتلازمة وهذا التناقض بين الممكن واللاممكن بين المادي والمجرد بين الروح والجسد. إنه عالم الشعراء.
ولأنه "لم يعد ممكنا الاكتفاء بدراسة المضمون، بل إن الكتابة أضحت أكثر من أي وقت مضى، هي العنصر المجهول المتطلب للمواجهة والكشف، إذن فالأمر يتعلق بأن "نستقر" داخل العمل الأدبي، وأن نستخلص البنية التي ترسم هيكل الكتابة الأدبية، إننا ننطلق من الفكرة التي ترى أن الكتابة وطرائقها تشكل بذاتها مجموعة مواقف قابلة للتحليل على مستويات مختلفة: تجاه الكائنات والأشياء ومواقف تجاه الكتابة نفسها، وانطلاقا من هذا المفهوم، يصبح ممكنا البحث عن الترابط بين العلم الفني وبين المجتمع"[3].
ولأن الإنسان هو ابن بيئته كما تقول العرب، فإن منير بولعيش يحمل نفس الهموم التي يتخبط فيها المجتمع نفسه. وهنا نجد ذلك الترابط بين الذات المبدعة والمجتمع.
وهذا الأمر يعيدني لمفهوم الأدب الملتزم، كما نظّر له الفيلسوف الوجودي جون بول سارتر، وغالبا فالشاعر يعي كل الوعي بهذه المرجعية الفكرية لأنه من خلال التناص الموظف يمكننا أن ندرك ثقافة الشاعر الموسوعية.
ونلمس كذلك من خلال هذه القصيدة ارتباطه الوثيق بالبحر. إذن فما سبب هذه العلاقة الضمنية؟
إن التأويل الذي يمكن أن نسم به البحر هو أنه يشبه الكون في لا نهايته وفي عمقه، وعلاقة الشاعر به لم تأت من فراغ، فهو الفضاء الذي تنجلي من خلاله مخيلة الشاعر المحملة بأسئلة وجودية محيرة تبحث عن المعنى أمام هذا الظاهر الخفي (الطبيعة)، إن هذا التأويل الفينومنولوجي سببه براعة الشاعر في تغليف المعنى أو بالأحرى تضمينه لما يريد إيصاله للقارئ، وما يثمن هذا الطرح أكثر هو هذا الفراغ الذي يظهر بالقصيدة: كنت أغرق؛ لكنني كنت أغرق؛ لسر الرحيل.
إنه اللامتناهي في المعنى، أو بعبارة أدق هذا ما يتماشى والمتخيل في قصيدة يحكمها الغرق والتلاشي كما أنه يكتنفها قلق.
إن الولوج لتيمة "البحر" وتيمة "الرحلة" إن أردنا محاكمة الشاعر على هذا الخلط وهذا المزج بين مواضيع كثيرة مشتتة ضمنيا خلف المعاني الصريحة فإنه لن يسعنا غير أن ترتسم في أذهاننا تلك الرحلة الغامضة التي تخوضها الروح نحو ما وراء هذه الحياة، لطالما تترسخ معاني كثيرة باللاشعور الإنساني دون أن يعي به وغالبا هذا ما جعل من الشاعر يستحضر رمزية ابن بطوطة، حيث تفرض هي الأخرى استحضار أدب الرحلة.
ولكشف أغوار هذه التيمة "الرحلة" وعلاقتها بالضفة الأخرى والبحر، وجب استحضار النصف الثاني من القصيدة حيث يقول الشاعر:
أَناَ الوَارِثُ الأَخِيرُ
لِسِرّ الرّحِيلِ...
الوَحِيدُ
مَنْ يَحْفِرُ عَلَى ذِرَاعِهِ
هَذَا الاسم: ابْنُ بَطُّوطَةَ
لَكِنَّنِي كُنْتُ أَغْرَقُ...
فِي الضِّفَّةِ الأُخْرَى
أَنَا المُهَاجِرُ السِّرِّيُ الأَخِيرُ
ورِيحُ الشّمَالِ: شِدْقٌ يَضْحَكُ
وَأَناَ أَصْرُخُ وأَ
غْ
رَ
قُ
إن هذا الحوار الذي نلمسه داخل القصيدة، يحيل فهمنا إلى ما هو سمعي بصري، أي أنه يتضمن التمثيل للفكرة في ارتباطها بخشبة البحر، وأن هذا الحوار الذي يجريه الشاعر مع المتلقي هو حوار وسواسي لا متناه، حيث يتأرجح بين الرحلة والغرق، بين الحياة والموت، وهذا الجدل وهذا التناقض يظهر من خلال الجمل الشعرية من حيث البناء، فغالبا ما نجد الشاعر يكرر أداة الاستدراك" لكن" ثم نلاحظ كذلك أنه يترك فراغا في آخر بعض الكلمات [كنت أغرق...]؛ [لكنني كنت أغرق...]؛ [لسر الرحيل...].
وهذا إن أحال على شيء فإنما يحيل على أن الفكرة تتأرجح بين الشك في النجاة من جبروت الغرق وحتمية الرحلة، فحضور المأساة يتماشى وهذه المسرحة التي تتبعها الشاعر لنسج المعنى، وأن مفهوم البحر في علاقته بالغرق، ثم هذا الحضور لابن بطوطة أي حضور الرحلة يحيل على التيه، والمتاهة صفة ملازمة للعملية التخييلية.
إن القصيدة تغرقنا بالتيمات، فكلما اتحدت معانيها كلما تفرعت أكثر وأكثر لتقودنا لتأويل آخر أشد عمقا وإحالة على معاني اشسع دلالة من الأولى، خصوصا إذا نظرنا إليها من جانب أنها عبارة عن شفرات ثقافية.
إن قول الشاعر "أنا المهاجر السري الأخير" يحيل على خلفية ذات بعد اجتماعي، فالشاعر كما سبق وأشرنا هو ابن هذا المجتمع ويعرف خباياه، فالوعي بالذات يؤدي حتما إلى الوعي بهموم المجتمع وإدراك قضاياه في بعدها الإنساني الكوني، حيث يصبح التعبير عن هواجسه وانشغالاته وهمومه أهم القضايا التي تشغل بال المبدع وبالتالي أهم دوافعه الإبداعية.
إن البنى الجملية الموظفة من قبل الشاعر هنا تتميز بالطول تارة وبالقصر تارة أخرى، وهو ما يمكن أن يتماشى وتصور الشاعر لبنية المجتمع المغربي، الذي يغلب عليه طابع التناقض والجدل بين التقدم والحداثةَ/والفقر وبين الديمقراطية/الفساد السياسي. إن أمورا كهذه تدفع بأبناء المجتمعات المتناقضة إلى اختيار نهج ابن بطوطة بحثا عن السلام والحرية والكرامة التي تخول للإنسان العيش كإنسان يعي ذاته.
والنص الشعري هنا وليد مرحلة قلقة مشحونة بحرارة الهجرة السرية، التي يدفع أبناء هذا الوطن ثمنها بأرواحهم فداء المراهنة على الوصول للضفة الأخرى، أعني الشمال، حيث قال فيه الشاعر منير بولعيش:
وريح الشمال شدق يضحك
وأنا أصرخ وأ
غ
ر
ق
فهو يصور هنا كيف يواجه الشمال غرقه هذا بسخرية لاذعة، فرغم الغرق لأجل معانقته إلا أنه غير مبال بهذه التضحية التي يقوم بها المهاجر السري.
إن سياقات كهذه توحي من حيث سياقها التاريخي بالتبعية للغرب الذي جعل من نفسه مركزا للحضارة وللمعرفة ومنتجا لها، فالمهاجر السري هو بالضرورة ينتمي لدول العالم الثالث.
ويمكن القول في هذا الصدد إن التجربة الأدبية هي تجربة مرتبطة بالدرجة الأولى بالتحولات الاجتماعية والفكرية والحضارية لكل مجتمع على حدة.
إن الوعي بالقضايا الكونية في عمقها وفي خضم تسارع الأحداث يولد لدى صاحبه السؤال الكوني، أي السؤال الذي ينتج عنه القلق في علاقته بالممكن واللاممكن، بين ما يجب وما لا يجب، وبه تكون القصيدة قد أخذت حيزها من الغموض بفعل براعة الشاعر في تضمين أسئلة ثقافية تاريخية سياسية ذات بعد فلسفي يتمحور حول الذات والإنسان الآخر في خضم تقدم حضاري محوره المدينة، التي أصبحت منبع القلق لأن الإنسان هو كائن يرتبط بالطبيعة ويروم التحرر من القيود التي فرضتها عليه قوانين الحضارة، لا سيما دول العالم الثالث كما حاول إبرازها الشاعر.
= = =
الهوامش
[1] مختار علي أبو غالي. المدينة في الشعر العربي المعاصر، عالم المعرفة، العدد 196، ص 253.
[2] المصدر السابق، ص 253.
[3] عبد الكريم الخطيبي. في الكتابة والتجربة، ص 13.