عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

نازك ضمرة - الولايات المتحدة

مهمة صحفية


طال الحديث عن عدم نظافة الشواطئ، وأثر ذلك على الأسماك التي يتغذى بها الإنسان، وعن عدم تنظيم الصيد. وكأننا نسينا ما نحن ذاهبون له. قال السائق:

= "ما زلت أشعر بالحر برغم برودة مكيف السيارة، فهلا برَد جسم كل منكم وروحه؟"

تتردد أصداء الموسيقى مضخمة الصوت، انتقلت أصابع السائق تعبث بمنظم الصوت تقوية وتفخيما، ترقيقا وموازنة، تبدو الراحة النفسية على الصحفية، فتسارع بفتح علبة شرابها، وتلصق فتحتها بشفتيها في شغف، أما رفيقتنا الأخرى ما زالت أناملها تداعب العلبة، تتحسس برودتها، تقلبها ثم تلف سبابتها اليمنى على الحلقة للسحب والفتح.

سألت الصحفية إن كانت تتمنى زيارة الجزائر أو فيتنام أو ديزني لاند. كشفت لنا قبل قليل أنها مندوبة وكاتبة مقالات لصحف عدة، قالت:

= "أقرأ التاريخ والسياسة والاقتصاد والأيديولوجيات بلغات مختلفة، قابلت الكثيرين من السياسيين والمنظرين".

قلت في نفسي "يبدو أن الطريق شاق وطويل للمحافظة على الثروة السمكية". تتقن الإنجليزية والفرنسية والأسبانية والروسية، بالإضافة إلى لغتها الأم والتي لم تخبرنا عنها، توفيرا للوقت ربما، أو لإثارة فضولنا، وتجنبا للحرج لم يسألها أحد منا عن أصولها، "إنها مثيرة في كل شيء، ثقافة وجاذبية".

في سيارة النقل الفخمة (ليموزين)، تحدثنا في أمور مختلفة منها تطرف اليمين وأحلام اليسار وآمال المعتدلين. قال أحدهم:

= "الشواطئ الملوثة لا تنظف بالمكافحة التقليدية، مضى على إهمالها عشرات السنين، لذا فتطهير التلوث وإعادتها للأصل يتطلب عشرات الأعوام".

ظننت أن هذه الصحفية عربية مهاجرة، لكن تبين أنها ليست كذلك، لكن من الواضح انها من أصول آسيوية، قالت إنها مسلمة بالولادة.

أصبح الجوّ حميميا في السيارة، امتدت يد السائق تحت الكرسي، فتح حقيبة بلاستيكية، ناول كل واحد من الركاب الأربعة علبة شراب باردة، وبعد أقل من نصف ساعة وصلنا المدرسة.

نتوقف طويلا أمام باب المدرسة، حتى سُمِح لنا باجتياز البوابة الخارجية، وبعد جدل بين الحارس والصحفية، دار نقاش آخر حول المدخل الذي سنمر عبره، لكن خادمة شابة تصل، تقودنا عبر باب خلفي دون كلام، تمتمت وأنا أسير بين المجموعة:

"إنفاق الملايين من المال لا تكفي لانفتاح عقولنا إذا لم نكن واعين لما علينا أن نفعله".

سرنا عبر درجات صعبة وقصيرة وبساند معدني خفيف يستند إليه الصاعد. أنت تحمل عصاك وتتوكأ عليها، تصعد الدرجات ببطء مع بعض الألم، أما الرفيقة الأكثر قربا منك فتعاني من آلام في ركبتيها وأسفل بطنها، لا تدري ما الذي جاء بها هي الأخرى لهذه المهمة، تصعد درجة أو اثنتين ثم تتوقف، تتنهد، تستنشق نفسا طويلا متقطعا، تنظر لك فيحرجك عتاب عينيها الجليّ.

أما الصحفية فبرغم نشاطها وحماسها لمهمتها، إلا أن إرهاقا بدا عليها، فأصبحت تميل يسارا ويمينا أثناء صعودنا السلم الطويل "المهم أن يعرف الإنسان ما يريد، ويحافظ على نظافة بيئته وحقوقه، ولا بد أن تسعى دائما للأفضل" تنسى نفسك وعصاك وشيخوختك، وأنت الأهم في الفريق.

موظفة بدينة لا تخلو من جاذبية في وجهها، توقف الجميع لتستفسر لنا من المدير "أين ومتى سيستقبلنا"، فتبادرها الصحفية قائلة:

= "سيدتي نحن قادمون للاطمئنان عن طفل يتيم في مدرستكم، نريده أن يرانا، ونريد أن نراه ونتحدث إليه خمس دقائق، ويا ليتنا نستمع من معلمته".

تجيب ببرود: "لا بد من اطلاع المدير على الأمر".

= "لا بأس في ذلك، لا نريد أن نأخذ الكثير من وقتكم.

قلت هامسا: "لا تريد المماطلة ولا تتمنى البقاء في جو مشحون باللامبالاة أو التحيز".

تكمل الصحفية كلامها: "نريد أن نطمئن على ظروفه وصحته الجسدية والعقلية".

تتمسك البدينة بقضبان الحماية القوية المثبتة عند نهاية الدرج، مصغية لما يجري، بينما الصحفية المسلمة بالولادة لا تظهر قلقا ولا تأففا، تنتظر بتفهم وبلا ملل، لكنها تقول:

= "يضيع الإنسان الكثير من الوقت في الثرثرة، ولا يكرس وقتا للتفكير".
لا أسمع التمتمات والهمس من بعد، فوجئنا بعدها بفتاة جميلة جدا تدعونا لدخول صالة انتظار الى اليسار من السلم، وفور دخولنا للغرفة المريحة أدركنا أننا كم كنا بحاجة للجلوس، عدت أفكر فيما سبق وقالته الصحفية المسلمة بالولادة عن قصص الأطفال المحرومين والأيتام الفقراء، وقبل أن يحضر المدير للتحدث إلينا، أو لدعوتنا لغرفته بحضور الطفل الذي نريد لقاءه، لكنني ملت صوب الصحفية أسألها:

"وما هي أقصر الحلول لأشد القضايا ظلما وتعقيدا في التاريخ الحديث؟"

أجابتني بكلام مختصر كأنه مدروس ومعد سلفا في رأسها، أو حفظته عن ظهر قلب من كثرة قراءته أو ترديده:

= "ليس هناك وقت كاف لليمين ولا لليسار، فالكلام والخصام والملام أمواج تعجل في الغرق".

حين شاهدنا حميمية اللقاء ظننا في البداية أن الصحفية من أصدقاء مدير المدرسة، لكننا فهمنا بعد ذلك أنه يحب التعرف على الصحفيات، ويرحب بلقاءاتهن بين الحين والآخر خارج وقت العمل، وبعيدا عن جو المكاتب والمنازل.

لم يخطر ببالي المشاركة في الحوار، فلم أدخل مع الصحفية لغرفة المدير. بقيت مستريحا في غرفة الانتظار. لم أدر كم طال اللقاء، لكنني وجدت الفريق ينبهني للمغادرة.

D 1 حزيران (يونيو) 2020     A نازك ضمرة     C 1 تعليقات

1 مشاركة منتدى

  • السلام عليكم ورحمة الله.
    للاسف مثل هذه النوعية البارعة في الكلام الجاهز مسبقا هي الاكثر انتشارا .ولان مثل هؤلاء لايقدمون الحقيقة لم تعد للصحافة سوى مهمة ارضاء اصحاب النفوذ. وحتى لو وجدنا صحفي يقدس مهنته ويضحي لتقديم الحقيقة سوف لن تجد من يهتم لان الناس اعتادت على الكذب وتحب من يكذب عليها للاسف.


في العدد نفسه

المجلات الثقافية الرقمية

كلمة العدد الفصلي 17: ويكيبيديا مصدر غير مناسب للبحوث الجيدة

عتباتُ النَّصِ في رواية تُرْجُمان الملك لعمر فضل الله

خطاب الإغراء وصناعة الوهم في الإعلام السمعي البصري

قراءة في كتاب "خربصات في أدب الرّحلة"