د. لطيفة حليم - كندا
قراءة في قصيدة
القصيدة موضوع القراءة للشاعرة أميرة الزين، الأستاذة في جامعة جورجتاون في قطر. القصيدة منشورة ضمن ديوان عنوانه "ألي وحدي أنا كل هذا الدمار؟" الناشر: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2018. نص القصيدة تحت القراءة.
تغازل الشاعرة أميرة الزين الألفاظ بصبر جميل، لا فرق عندها بين العدم والموت. تشكل القصيدة أقوى لحظات الرؤية الشعرية المأساوية حيث تخلق أكبر التعارضات القائمة بين جسد ميت وجسد حي. داخل الذات الأنثوية المحررة للنص الشعري، يولد النص في عمى صمت مدهش، ليحقق أقوى صور التعارض المفضية إلى مشاهدة الجسد يرحل من طرف صاحبته في عمى صمت على صمت.
التشوش والرحيل عن الجسد وصراخ الشاعرة، كل ذلك علامات تفضي إلى العدم المعارض للكون. إذن فالمرحلة الأولى في هذه القصيدة هي مرحلة مجابهة العدم. والقصيدة كلها ستتجه إلى مكاشفة طرق عودة الكون إلى سابق عهده.
تجرب الشاعرة في القصيدة أنواعا من الوصفات التي سنتابعها واحدة، واحدة. الأمطار، بعده الصراخ، ثم استطلاع معنى العدم الواجب للرد عليه، إلى آخره.
تستطلع الشاعرة ذاتها الراحلة، في تشاكل يفقد فيه القارئ صواب الإدراك، وكيفية حلول الموت بها. كأن الدمار حل بها من خلاله. هكذا تتحول الذات الراحلة إلى قناة تنقل إلى الشاعرة معنى الدمار. إنه العدم. إنها تحاول هنا مقاومة العدم قبل حلوله.
تتخيل الشاعرة أشكالا لحضور العدم. وتنتقل بالقارئ من التمثيل النفسي "التشوش" إلى التمثيل الهندسي المكاني: "ارتفعت إلى السقف"، إلى التمثيل الحيواني "هذر النمل"، إلى التمثيل النباتي "متى اشتعل الفطر في رأسك، ومتى لفتك زوبعة القطن المنتوف؟"
يلاحظ أيضا أن هذه الأنواع من العدم بينها ترابط ذكي وصنعة فنية مدهشة. كلها مقدمات لتشوش النفسي. إن الذي تلفه زوبعة القطن الملفوف أو يشتعل الفطر في رأسه حري بأن يتشوش لذلك. وهذر النمل كذلك يفعل بالإنسان فعلته. الهدف الارتفاع إلى السقف، الذي هو نهاية التشوش النفسي، الذي ورد في القصيدة بالدارجة بيانا لعمقه وشديد أثره.
يستمر الحديث عن العدم ممثلا في آثاره على الطبيعة. الأمطار تمطر دما، بجنب الحديث عن الآثار المترقبة المائلة في قول الشاعرة: "هل كنت شجرتي الخنثى تميل نحو الأرض؟ هل كنت نخيلي القدسي"، إلى آخره. تترقب الشاعرة هناك آثارا تريد أن تعرفها عن العدم. إن هناك فرقا بين الآثار الظاهرة والآثار الخفية، التي لا يعرفها إلا زائر العالم الأخروي، عالم يتجه إليه الهالك وهالك.
المجاز البصري وحاسة العين
إن قوة العين في التقاط صور الشعر تشغل أكثر من التقاط الأفكار المجردة. ولعل الفارق الأساسي بين المدرك الحسي والصورة العقلية يتمثل في أن المدرك الحسي، الذي يتمثل بالوضوح على عملية تلقي العالم عبر الحواس، تزداد فاعليتها حين يتعلق الأمر بحاسة البصر على وجه الخصوص.
إن المجاز البصري في عملية النقلة من فضاء الطبيعة إلى فضاء الورق "زهرة" فيه جهد ومكابدة، وتحويل العمليات الذهنية عبر المخيلة البصرية إلى نوع من التجسيد والتشخيص يفيد التغيير والحركة. الشاعرة تغير مواقع الأشياء لتقرب فضاء الطبيعة المفتوح والذي تمثله "زهرتي" إلى فضاء مغلق الذهن يمثله "ضريحك".
السؤال الذي يتبادر إلى الطرح هو: كيف تتشكل الذات الأنثوية؟ وكيف يتم عبور الخطاب الشعري عند الشاعرة أميرة الزين؟ الذات مصدر الرؤية الشعرية. ويتم العبور الشعري عبر مستويين:
=1= ضمير المتكلم، الذي يتحول إلى ضمير الغائب.
=2= الذات كقطعة بيولوجية ونسق من الحواس، التي يتم عبرها استنطاق العالم الخارجي والتعبير عنه، حيث يتم نقل النبات المفرح "زهرة"، ليمر عبر الذات الأنثوية، فينصهر ويتحول من فرح إلى حزن. والمؤشر على هذا التحويل هو لفظ "ضريح".
يلاحظ من خلال تشغيل بعض الألفاظ المعجمية أن لا شيء عند الشاعرة أميرة الزين يكتب عبثا. إنها تنسج علاقاتها مع العالم عبر حاسة العين، وتنقل صورا من الفضاء الخارجي لتتحول إلى مادة شعر. تمرر فضاء الخارج عبر الذات الأنثوية الناطقة بواسطة حاسة البصر، فيصبح الوصف أداة للكتابة الشعرية، مقيدة بقوانين فينومنولوجية، وعالما مهووسا بتناقضات الذات الأنثوية.
أنثوية جمالية التكرار وحاسة العين
يتكرر فعل رأى في القصيدة ست عشرة مرة. الفعل يشغل في معاني تجريدية وفي مواقع سريالية. في مثل قول الشاعرة:
"كيف رأيت جسدك يرحل عنك"؛ "ورأيت أجدادنا"؛ " أتراني كما يرى الوليد لحظة الولادة".
الفعل رأى يشغل ليفيد غرابة الصورة في انزياحها عن الواقع. الفعل لا يستطيع أن يؤدي وظيفته الواقعية دون أن يخترق الواقع الملموس "الولادة". الشاعرة تمتلك قوة ما فوق قوة زرقاء اليمامة. رؤية: "جسدك يرحل عنك"، رؤية: "أجدادنا"، ورؤية: "لحظة الولادة".
صعب أن تنتزع الروح من الجسد دون أن يفقه الإنسان سر هذه النهاية. الشاعرة تجانب الصواب لتلقي بنا في عتمة متاهات فلسفية، وتسبر أغوار حقائق مرعبة بين الكون والعدم. الغرض عندها أن تكاشف لحظة الموت التي تتعارض مع لحظة الولادة. الشاعرة تحاذي البعد الأنثروبولوجي في دراية وبحث أنيق. وكأنها بهذا الطرح شبيهة بميشيل فوكو في تحاليله للموت.
= = =
نص القصيدة
ضريحُكَ زهرتي.
أمطرت طفولتي
حين تُوفيتَ
وصرختُ
هل تشوَّشتَ عند الموت؟
كيف رأيتَ جسدَك يرحل عنك؟
وكيف انحنيتَ عليه
وودعتَ؟
أصغيتَ للناس تهمسُ
سمعتَ أصواتهم في نفق
ارتفعتَ إلى السقف
وتأملتَ جسدك:
أهذا الدمار لي؟
قلتَ
هو هذرُ النمل
في أصابعي
هو النمل يجرني إليه
بصبر.
يا حبيباً!
متى اشتعل الفطرُ في رأسك؟
ومتى لفّتْكَ زوبعة القطن المنتوف
وأنت تسمع جسدك
يأخذونه
نحو البرودة؟
كانت الأقمار تَقطُر
دماً
الجوامع تنهضُ
ثم تُدفنُ ثلاثا
وكاهن المعبد لم يأت بعد.
يا حبيباً! قل
ماذا كنت عند الرحيل؟
هل كنتَ شجرتي الخنثى
تميل نحو الأرض؟
هل كنتَ تخيلي القدسي
يبارك الشمس المجنونة؟
ويا حبيباً! قل
هل توغلتَ
توغلتَ
ثم توغلت ورأيت أجدادَنا
يرسمون الغزلان الدامية
في الكهوف؟
من أين ابتدأ موتك؟
من لعاب الفم؟
من عرق الجسد؟
من أطراف الشَّعر؟ من أين
يا حبيبي؟
كيف أطلق النمل الحرية
للذرات، وكيف ناداها:
"دوري.. دوري في كل صوب
وليتدفق ماء الجسد
فوق كل ضريح
وتَهاتَفي تَهاتَفي".
كيف ضمرَت أعضاؤك
ريشاً، آه
ريشاً أبيض؟
كيف صرخت حين انصهر الحديد
وعلمت أنه الموت؟
قل، كيف انتقلتَ من الأحمر
إلى البرتقالي
وآه! إلى البياض؟
كيف تشوشتِ
عند الموت، وقلتَ:
إنه الموت؟
قل
كيف ركضتَ وراء جسدك
وهربَ منك
ثم التقطتَه
ثم غادرَك؟
تدفّقَ الحبُّ من جسدك المنهار
ضحكتْ كرياتك وقالت:
"هي الحرية.
كل الأشكال لي
وكل البدايات"!
هل سمعتَ نحيب حشراتي
قبيلة وراء قبيلة
تزورك
وقلت: "كأنه زجاج الحبيبة
يتحطم على أميال"؟
وقلتَ:
"هو الموت يحضرني
في أطراف أصابعي
هوَسَ العصافير تضرب أقفاصها".
هل رأيتَ الطيور تنوح بأجنحتها
وقلت: "حان وقت هجرتي"؟
ورأيتَ بدو الجحيم
يحترقون في السعال
وحبالاً كثيرة تتدلى
من سرّتهم وترتل:
إلينا المستقر.
ورأيت عيون الجحيم
تهبط من أصابعهم.
وحضَرَك ألم من جحيم العرب
وسمعتَ رنينا في أذنيك
من فحيح البدو
يشطرون كرى الماء
ثم يلتهمونها.
واستدرتَ
فرأيتَهم يتلبّبون بأذيالك
ينذرونك: رتّل، رتّل، رتّل
ووقعتَ ثم انتفضتَ
ثم وقعتَ وهم يجرونكَ نحو البرودة.
هل رأيتَ المحتضَرين
يرشون ملحا على أجسادهم؟
هل سمعت العظام اﻟﻤﺠنونة
تهدُم جسر العنق؟
حضرني منك ما يحرق العيون
يدمي الجسد
وحضَرَك ورم من مياهك
تمتزج بملح النمل.
لماذا نمت يا حبيبي
حين جاءوك
ولماذا استسلمت للموت؟
خيوط من البكاء تحجبك عني
هل هي خيوط
أم إنها ذكرى نبات
أم لعلها صوته.
وأصغيتُ للطيور تمد بـ "الضالّين"
وسمعتُ الدلفين المؤمن يندبك
تحت المياه
وأصغيتُ لثغاء عروقك تذوب
وأنصتُّ لغراب حلقك ينعب
عند الاحتضار.
من بثّ موجات الموت إليّ
قل، بمن التقيت هناك؟
هل استقبلتك جدتي بوشاحها الأبيض؟
وهل سعى إليك راكضاً أخي الصغير؟
وقلتُ:
"هو زهر اللوتس
يينع الآن في مياه روحي".
وقلتَ:
"يسقط جسدي في بئر الفضاء
وأودعكِ".
كم مرة أغميَ عليكَ
ثم استيقظت
ثم أغمي عليك
وهمس هامس
"هيا استعجل".
من صفق بيديه وقال: "هاتوه".
من ترأس المائدة
ودعا المحتضَرين
إلى العشاء الأول
بعد الموت؟
يا حبيبا لا ينام
ولا يستيقظ
لا يجوع ولا يعطش، قل:
كيف تسبح الآن
بلا جسد؟
ولماذا أراك تثب
في كل مكان؟
أتراني الآن كما يَرى الوليد
لحظة الولادة؟
أتراني ميتة، وأنت الحي؟
أتضيء الآن؟
ها أنا أطفأتُ أضوائي
ودخلتُ في نفقي
وها أنا أرتفع إلى السقف
وأتأمل جسدي:
"ألي وحدي أنا كل هذا الدمار؟"
◄ لطيفة حليم
▼ موضوعاتي