عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

مختارات: جاك برتولي

الكولونيل لورانس في خدمة الاستعمار

ترجمها عن الفرنسية عارف العزوني


.
ليست الثقافة البرجوازية سوى عبادة الأبطال. ومن مألوف عوائد الطبقة الحاكمة أن تفرض على الطبقة المحكومة تقديس شخصيات لا قيمة لعا ولا شأن.

وهناك اعتبارات تقضي بألا يُنظر إلى الأشخاص نظرة حقيقية، أي لا يسمح بمعرفتهم على علاتهم، بل كما يتفق مع مصلحة الحاكمين.

وقد تمر على البطل ظروف خاصة لا يكون فيها بطلا إلا بقدر معين ووجيز، ثم تتفاقم بطولته في مناسبات أخرى.

وقد بلغت الاختلافات الاقتصادية حدا أصبح من العسير معه أن يفكر الإنسان تفكير صحيحا، ويعرف حقيقته كما هي كائنة، وكل ما في الأكر أنه من خشيته على مصيره، ينصرف تفكيره إلى ما سوف يكون عليه.

ومن هنا ندرك أن هناك وهما على درجتين، الدرجة الأولى أن النظام الاقتصادي مسيطر على الإنسان سيطرة تامة، بحيث يكيف حياته ويعلن اتجاهاته ويخدعه في طبيعته وقوته ومكنته.

والدرجة الثانية أن للأوهام والتقاليد أثرا فعلا عليه. ومثل من يحاول إزالة الأوهام كمثل من يقول بفناء العالم، لأن الوهم أصيل في الإنسان، متمكن منه.

والوهم البرجوازي هو مقياس طبائع المجتمع البرجوازي الكاذب.

لو فكر أحدنا بما يعوزه من أشياء، وتخطى الحاجي إلى الكمالي، لألفى نفسه راغبا دائما بما هو أكمل، مما يعجز المجتمع البرجوازي إرصاده وتهيئته إلا لعدد قليل محدود من الأفراد.

وعندما يحاول هذا المجتمع توزيع الرفاهية على أفراد كثيرين (من الأقلية السائدة طبعا) يضطر أن يملأ فراغ الناحية الأخرى (أي الأكثرية المسودة) بطائفة من الخرافات والتقاليد والأوهام المزخرفة البراقة، حتى تتساوى قليلا مع الناحية الراجحة؛ ويتوسل بادئ ذي بدء بالآداب الفلسفية والدينية يحشو بها عقول الجماهير المستسلمة الخانعة، ويدعي أنه إنما يؤيد العلم والفن وينتصر للفكر.

وتتخذ هذه النعم التي يسبغها المجتمع البرجوازي على محكوميه أشكالا مختلفة، وتدخل في أدوار جغرافية حين يكون الاستعمار شديدا مرهقا. وعندئذ يدور في خلد بسطاء القلوب ممن قلت مواردهم ونضبت أرزاقهم أنهم ملاقون السعادة المنشودة بالتنقل وتغيير البلدان. وغاب عنهم أمم رأس المال أعد لهم سجون العوز والفاقة هنا وهناك.

ومما يذكر أن رامبو [*] عندما يئس من باريس وعاف محيطها، تركها وذهب ينشد الراحة والقوة في البحر الأحمر، زاعما أن هواءه سيطهر رئتيه ويعيده قوي العضلات أسمر اللون ثابت النظر مثقلا بالذهب.

وتقول شقيقته إنه وجد هناك مطلوبه ونال ما كان يصبو إليه، وكسب ثقة الملحق التجاري في جيبوتي وتاجر بالأسلحة وهربها إلى الحبشة. ويعد الفضل الأكبر في انتصار جيوش منليك على الإيطاليين في معركة عدوى الأولى إلى الأسلحة التي باعها رامبو.

وهذه الحكاية ترينا كيف يكون مصير المغامرات البرجوازية في عالم مقسم كله تقسيما غير عادل، مما لا يدع مجالا لمعظم ساكنيه أن يعيشوا ويكسبوا قوتهم. وهذا التقسيم هو الذي أوجد خمسين مليون عاطل عن العمل غير الجنديين والمعدين للجندية. فهل نأمل إذن من الفئة الحاكمة أن تفكر في حقيقتها وتحكم على مصيرها، بينما لا تستطيع أن تتدارك ما يقيها غائلة الجوع؟

لنعد إلى ما تحدثنا عنه في صدر هذا المقال، فالبطل بالنسبة إلى التاريخ ليس إلا شخصا خياليا يتوارى بسهولة خلف رأس المال مبدع البهلوانية.

يطالع قارئ اليوم بشوق ولذة الروايات البوليسية، ويلتهم بنهم مذكرات التجسس ووقائع الفرقة الأجنبية والحروب السرية، ويعتقد أن حياة البطل تكو محاطة بالغموض، وأن شخصيته لا تتأثر بمجموع العلائق الاجتماعية التي لابسها ونشأ فيها. والواقع حو خلاف ذلك، لأن المغامرات الكبرى التي تخلق الأبطال لا تصدر إلا عن إدارة حكومية أو مصنع أسلحة أو شركة بترول.

الكولونيل لورانسوالمغامر يخدم بالخفاء، إلى جانب بطولته المكتسبة، أصحاب المشروع المالي الذين استأجروه وأنفقوا عليه. وقد ارتفع الكولونيل لورنس، أحد عمال الجاسوسية البريطانية، إلى درجة البطل الوطني، وانبعثت من حول جثمان هذا الميت اليوم رائحة البترول، وصعد الجاسوس بغتة إلى سماء الثقافة، وتحدثت عنه الصحف، وأرتنا صوره دور السينما. واعتقد الناس أن وفاته لم تكن وفاة حقيقية، بل مناورة ولعبة مقصودة.

= = =

[*] رامبو (Arthur Rimbaud) = شاعر فرنسي.

الطليعة. العدد: 2-3. 1 شباط (فبراير) 1937. ص ص 226-228.

https://archive.alsharekh.org/Articles/266/19170/434443

D 1 آذار (مارس) 2023     A عود الند: مختارات     C 0 تعليقات